كان “مغوار” سبّاقًا على المنابر له في كلّ منبرٍ “كبّة وقرص”،وسيّان عنده إن كان المنبر في إشهار فرح أو رثاء في ترح، في خطبة عروس أو ردّ زعلانة، في ولادة ولد أو طهوره، في جاهة صُلح عقب “طوشة” أو في “طوشة” حتّى، وتتوثّب عقيرته إن كانت المناسبة مهرجانًا سياسيّا، وما أكثرها.
المداخلة جاهزة لا يعوِزها إلّا بعض الرتوش الخفيفة، مرّة ارتجالًا، والحقّ يُقال إنّه كان يملك القدرة، ومرّة على ورقة “مْجَعْلكِهْ” من كثر ما دخلت وخرجت من جيب “قنبازه” الداخليّ حين يحتاج الموقف قنبازًا، أو الجاكيت الطلياني، أو الثوب ماركة التمساح حين تحتّم الحاجة.
وحين يكون في الموقف “مرجلة” ويدبّ في رأسه الحماس، لا تفوته قصّته والضبع يدحشها في سياق وفي غير سياق. ويبدأها بـ “المُهمّ”:
“في وْعور عين البيضا في البلد مثل ما تعرفوا… كان ظبعْ قد الجحش مْسَرسِب الناس… ويا ما ظبَعْ ناس… ومن كُثر الخوف منُّه ما كان حدا يسْترْجي في الليل يمْرُق في الطريق هناك لحالُه… والظبِع اللعين ما يهجِم على الآدمي رأسًا بَسْ يْحُط عينُه على آدميّ فريسِه يرافقه مَقابيلُه في الوعر… وبين مِدّة ومِدّة يغرّق ذيلُه في بولُه ويقطع الطريق على الآدمي قريب منّه ويْروح راشُّه… بول الظبع يِدْوِش الفريسة وتْروح ماشية وراه وين بدّو ويوكلها… محسوبكم لا كان يهمُّه ليل ولا ظْباع وما يخاف إلّا من ربُّه… وأنا طالع في هَ الطلوع مْروّح من مشوار مهمّ حسّيتالظّبع مرافقني… كنت دايمًا عند ما أسافر آخذ معي عصا سنديان مْقمّرة بالنار وخنجري في حزامي… ما قطع الظّبعالطريق عليّ ورحت ظاربُه في هَ العصا والّلا هو مَلْقوح… وقبل ما يقوم دبّيت حالي عليه وفي الخنجر بلّشت فيه تِشليخ… هْوايِهطالعة وهْوايِة نازلِه والظّبع يعوِي تَ قطع النفَسْ… رجعت يُومْها وذراعي اليسار يِرشِل دم… وما وِصِلت دقّْيت راس ثوم وخلطْتُه في الزيت ودهنت الجروح وعصّبتها وصرت يوم بَعِظ يوم أغيّر على جُرْحُي… لا حدا حسّ عليّ… ولا حدا دِرِي…”
كان مغوار، وكي يجعل لقصّته سياقًا ينهي، بما معناه؛ أنّه من العيب أن يحكي الواحد عن حاله، ولكن الناس عرفت أنّ قتْلَ الضبع لم يفت يديه… والشرّ يا ناس ضبْع!
لم تكن هموم أهل البلد المنابر، رغم كثرتها، كانت همومهم أكثر كثيرًا وأكبر كثيرًا، فالضباع تملأ الدنيا حولهم وبينهم ولا تفوّت فرصة لنهش لحمهم ولحم أطفالهم وحتّى دوابّهم، ويصمتون وقد تملّكهم هذه المرّة خوف آتٍ من بعيد.
الكثير من الأشياء كان مغوار يحسب حسابها، اللهّم إلّا أن يجيئه نفر من أهل البلد، وقد طفقت أخبار أقارب لهم من الجيرة؛ أن ضبعًا ومعه “شلعة” ضباع طبّ عليهم نهشًا وشلخًا، طالبين إليه، وهو الخبير في قتل الضباع، أن يفعل شيئًا وهم من ورائه.
حطّ مغوار كفّ يده اليسرى على ذراعه اليمنى وقال: “والله لو بعد في هـالذراع همّة… ما كنت فشّلتكو وكنت معست راس أكبر ظبع!”.
وضاعت أخبار لحم أقاربهم المْشلّخ، وظلّت رائحة المحروق منه والمنهوش تملأ أنوفهم، وراحوا ومغوار ينتظرون المنبر القادم!