صورة المرأة في المجموعة القصصيّة “ولع السباحة في عين الأسد” للكاتب المغربي حسن إبراهيمي – روز اليوسف شعبان

صدر الكتاب عن مكتبة كلّ شيء حيفا، 2023، تنسيق شربل إلياس.

تتكوّن المجموعة القصصيّة من ست عشرة قصّة، وتقع في 113 صفحة من القطع المتوسط، وقد قدّم لهذه المجمعة كلّا من: د. علي الجريري، الشاعر والكاتب العراقي مازن جميل المناف والناقدة آمنة برضاوي.

تطرّق الكاتب في مجموعته القصصيّة هذه، إلى عدّة مواضيع تؤرّقه، منها: احتلال الوطن على إيدي الغرباء، ومواجهة حماة الأرض لهم، الفقر والضرّ الذي يصيب الفائقين، المراؤون وتأثيرهم على الناس، دور المرأة في حماية الوطن والإنسان، الاغتراب الذاتيّالذي يعانيه الإنسان في ظلّ ظروف القهر والظلم والفقر وقد ظهرت سمات الاغتراب جليّة بشكل خاصّ في قصّة” وشم على قبر الضحيّة(ص 107) “.

ورغم أهميّة جميع هذه المواضيع إلّا أنني آثرت الكتابة عن صورة المرأة في هذه المجموعة.

 في قصّة “ تجرّع لحظة الموت” (ص37 ) ، يصف الكاتب فقدانه لوالدته، وما رافق هذا الفقدان من حزن وألم وذكريات أليمة:” ما أن تنتهي ذكرى حتى تستيقظ ذكرى أخرى بمخيّلتي، سلسلة من المحن عاشتها أمي تحت يافطة العيش حياة مستورة”.(ص 38). :” لفّت أمّي في الكفن، وبعد دفنها ودّعتها، وعدت أتلقّى التعازي المصاحبة لحرقة لحظات الموت”.(ص 40). :” هكذا انبتل حسّ أمّي، فرجعت أبحث عنها فيما تركته من حياة في أماكن جلوسها، بعض ملابسها، خاتمها، وما تكنّه من محبّة لي”(ص 40).

للوهلة الأولى قد تبدو هذه القصّة عاديّة، فالموت نصيب كلّ إنسان في هذه الحياة، لكنّ موت الأمّ له دلالات عديدة، خاصّة أنّ الكاتب جاء بقصص من الواقع، تصوّر آلام وأحلام أبناء شعبه، فهل موت الأمّ هو موت لهذه الآمال؟ 

  لا شكّ أنّ رمزيّة الأمّ ظهرت في العديد من الكتابات الأدبيّة لدى الكثير من الشعراء والأدباءـ ولعلّ كاتبنا حسن إبراهيمي، تعمّد الكتابة عن مرارة فقد الأمّ، أو الأرض أو الوطن. ورغم ما تتعرّض له الأمّ( الوطن) من احتلال على أيدي الغرباء، إلّا أن الأمّ تهبّ للدفاع عن عرينها بطرق شتّى. كما أنّها تواجه الفقر وتكافحه بكلّ ما أوتيت من عزيمة وإصرار. ففي قصّة “امرأة تنسج العزّة” (ص31 )، يصف الكاتب نضال المرأة ومجابهتها للفقر بقوله:” هكذا تعوّدت أن تلقي بأحزانها فوق المغزل، وتخرج لتأخذ نفسا بعد منتصف كل ليلة، أو بعدها بقليل. دون منشفة ودون صابون تعوّدت أن تستحمّ في النهر، وبعد الانتهاء تبيت تناجي النجوم، وفلول أشباح تتراءى لها في الظلام، تتحسّس كلّ ما بالطريق، دون خوف تصطاد خطوات في أماكن موحشة، لا تستعين إلا بذاكرتها القوية، وبالجدران المهترئة، أما عكّازها فلا يساعدها في أي شيء.(ص 34). هذه الأم التي اعتادت على التضحية والعطاء، تواجه الظلام دون خوف،: “وتنتصر لكل قلب يضاجع الفرح، وتلاحق نبض زرقة السماء لتلتف حول لون الليمون، المسيج بأطنان من الموت”.(ص 35).

هذه الأمّ تمنح الأمل وتعطي الحياة، فحين استبدّ اليأس بالناس وسأل طفل مجموعة من العازفين لمن ولماذا تغنون؟ أجاب رئيس الفرقة:” نغنّي للوطن، ثمّ أردف وقال:” نغنّي لنبعث الأمل في نفوس المقهورين”، “عندها خرجت امرأة من الجمع، جمعت أنفاسها، في مربّع الموت صاحت بئر، بئر”(ص 32). فالبئر هو الماء هو الحياة هو الأمل في العيش والبقاء، وهذا ما تريده المرأة لأبنائها.

وفي قصة” ضرّ أصاب الفائقين“(ص 41)، يصوّر النساء اللاتي يواجهن المحتلّ بصلابة ويشحنّ أبناءهنّ بالأمل في التخلّص منه:”أغنية الأم تخفي وجه الألم في وجوه الأطفال، الإعصار لا يفارق النساء، أسبوع آخر من الموت، نساء يعزفن ألحانا للحريّة. يزغردن في كلّ مكان، وعلى سطح المعركة يرقصن”.(ص 43).

في قصة “علق بجوف القطار“(ص 47)، يصوّر حسن إبراهيمي المرأة كرمز للصمود والتحدّي:” نساء يسافرن في الجرح، يدققن، بخطاب ناقوس الخطيئة يحلمن، يزغردن للملحمة، ويقدمن لها إكليلا من الدماء”.(ص 51). وفي نفس القصة يصوّر امرأة تلد طفلا يؤمن بالنصر:” في هذه اللحظة، اخترق ألم شديد بطنها، ولولت، انحنت تحت جذع شجرة تفوح منها رائحة الحمل. بعد هنيهة، صاح من تحت فخذيها قائلا:” أمي سوف ننتصر”.(ص 52).

في قصة جرح طفرة (ص 73)، يصور كفاح المرأة وعدم استسلامها للصعاب:” بدأت الأسرة تتناول وجبة العشاء، تعجب مطر، ربت على كتف أمه قائلا: أماه ما أحلى هذا العشاء! أجابت الأم: سبب ذلك راجع إلى هجرتي من زاوية بالغرفة إلى معمعان للغليان بغرفة أخرى”(ص 75). وقد يفرّ الرجل ويهرب من المواجهة، لكنّ المرأة تبقى صامدة:” أما الأطفال فما زالوا يلعبون، والأمّهات فضلن غزل العزف على أوتار السجود، والآباء فرّوا إلى غابة، وبقوا للمطر ساجدين”(ص 77).

وعن قوة المرأة وتأثيرها نجد في قصة مراؤون في البحر(ص 79)، ما يلي:”حين تستيقظ شهوة الملائكة، تدق أبواب العتالين، تختبر أجراس البحر، وحين تقترب المرأة من منامها يفرّ البحر، يلتهم الظلام آخره، تتنفس البندقيّة، تسلك طريقا لتحرّر البحر، من سلطة بلهاء وحكايات علقها السناء بجبهة امرأة أخذت شكل العنكبوت”(ص 85).

:” امرأة ترتجف النجوم بين أناملها، ترفل مزهوّة أمامها، تطمس السمّ المستيقظ بسيقان الأعشاب، تجفّف الأضواء المكدّسة بأفواه الغربان، تفرغ عمامات الأفاعي، من كلّ نظرة جوفاء”.(ص 84).

في قصّة “ قماش على متن الضياء“(ص 97)، نجد المرأة المناضلة التي تنجب المناضلين وتبعث فيهم روح المقاومة والدفاع عن الوطن:” توجّه الابن بقطعة سلاح وراية إلى الميناء، قرّر السفر إلى الضفّة الأخرى، واجهته عراقيل متعدّدة، تردّد كثيرا، لكنه في الأخير استقرّ رأيه على تلبية قرار أمّه التي زوّدته بالعطف والحنان”.(ص 99).

هذه هي المرأة الأرض، الوطن، الأمّ المناضلة المكافحة المعطاءة، فهل تموت هذه الأمّ؟ هل يمكن للآمال أن تموت؟  وكيف تموت أرض تذود عنها المرأة بروحها وأبنائها؟ في قصة “كنس طرر الزمن العصيب“(ص 69). نجد الإجابة حين يقول الكاتب:” لما تنتفض ذاكرة الأرض، تنبعث منها رائحة الحياة، بعد موتها، تضيء كلّالممرّات، وعبر عطرها تزهو شرايين السفر، ويسافر الماضي، ويتجوّل في أزقة، ويقدّم باقة ورد لمتحف النسيان”(ص 70).

فالأرض إذن تنبعث منها رائحة الحياة، بعد موتها، تماما كما تبقى رائحة الأمّ  بعد موتها، عابقة في الزهر والشجر، في انتفاضة التحرّر من الظلم، وفي الصمود والتحدّي. هي إذن صورة للانبعاث والحياة حتّى بعد موت الجسد، فهي كالفينيق تُبعث بعد الموت وتمنح الأمل والتجدّد والحياة.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*