التوجّه الفكري والمدّ الثقافي- طه دخل الله عبد الرحمن

الأمم تنطلق في حياتها عبر تيارات تحدوها توجهات، وتتلوها مؤثرات في مختلف أوجه الحياة وصورها، وإذا أخضعنا هذا القول لما ينطوي عليه عالم الفكر والثقافة: تتبين لنا مؤشرات عامة تقود إلى قضايا خاصة، فالتوجه الفكري يستمد فاعليته وانطلاقته من المدّ الثقافي الذي يختزنه ذهن الفرد أو يستوعبه فكره بمساندة موهبة أصيلة وملكة مدربة، وبذلك يتوهج العطاء الفكري. ومما هو محل إدراك على نطاق واسع أن الثقافة تتبوأ مكانة كبيرة تحتشد فيها عوامل فاعلة في الحركة الفكرية، ولعل من بداهة القول أو تحصيل الحاصل أن الفكر والثقافة مكملان لبعضهما، ووفق هذه الرؤية فإن المقومات الفكرية تُعَدّ امتداداً للحركة الثقافية التي هي أساس في نموها وإشراقتها، ومنذ أن تكونت الإرهاصات المعرفية للإنسان في الماضي البعيد وعرف أبجدية الحروف التي تشكلت منها الكلمة المفيدة للمعنى وهو يحاول أن يتعلم كيف يثري فكره، ويستثمر عقله، بحيث يتجاوز نطاق البدائية التي كان فيها من قبل، وليصعد بالعلم والإدراك إلى المنزلة التي تخطّت مرحلة التخلف، وعلى هذا الأساس في دروب الصعود استطاع مع مرور الزمن وتقدم الأساليب الاجتماعية أن يرسم لنفسه منهجاً في طريق العلم والمعرفة سعياً وراء تحقيق أهدافه في مجال الثقافة والفكر، وتلك العوامل بمثابة الركائز التي يعتمد عليها في تزويده بالقدرات التي تمدّه بالرؤية العميقة والإدراك السليم، وتهيئ له سلامة الاختيار فيما يستقبل من أمره، واستعمال الأدوات والوسائل التي تمكنه من تمهيد السبيل أمامه ليكون فرداً فاعلاً في مجتمع منتج.

ومع توافر أدوات التثقيف وقيام مؤسسات معرفية : استطاع الفكر أن يجد مجاله في الابتكار والإبداع، كما استطاعت الثقافة تحقيق وجودها وبث رسالتها، وكل ذلك يتم من خلال أجواء مفتوحة وأبواب مشرعة لتجسيد آمال وأحلام يختزنها عقل الإنسان منذ اكتمال وعيه واستكمال إدراكه في خضم ما يجري حوله من أحداث، وما يعايشه من تحولات، وما يحيطه من أجواء، وتبرز الأفكار المتميّزة في إطار مؤسسي واحد ينتظم الفكر والثقافة معاً، وذلك في ذاته يخضع لطبيعة الظروف البيئية المساعدة، والبنية الفكرية المساندة، ففي وعاء تلك البيئة وعلى قواعد تلك البنية تكتمل معالم التطور الفكري والثقافي من واقع عالم الإنسان. بحكم أن الثقافة والفكر أهم الدعامات الأساسية للصرح الحضاري ليس في عصرنا الحالي فحسب، وإنما عبر العصور السالفة والأزمان الماضية، كما هو واقع التجربة الإنسانية المتجددة في نماذج وصور معاصرة، وذلك مما يساعد على دفع التوجه الفكري إلى آفاق فسيحة من الرؤى المدركة والثقافات المستوعبة. وتتحدّد مكانة أي أمة في أهمية أدوارها في هذه الحياة بما تتصف به من فكر، وما تمثله من ثقافة، فالإبداع الحضاري لا ينشأ من فراغ، ومنطلقاته ترتكز على المعرفة التي تمثل نزوعاً إلى الفكر والثقافة والالتقاء بهما في معارج التفوّق، وفي هذا السبيل تتقدم الأمة نحو النهوض بخطوات إيجابية واثقة في دنيا الإنجازات الباهرة والتطورات الهائلة فتستطيع– بما لها من رصيد في الفكر والثقافة– مزاحمة الأمم الغربية الناهضة في تقدمها المستمر، وبروزها على الساحة العالمية بأفكارها وإنتاجها وترويج ثقافتها ونشوء أفكارها في محاولة من الأمة الواعية للحد من صرامة الاحتكار الحضاري الذي تفرّدت به تلك الأمم حقبة مديدة من الزمن، ولا تزال تحتكره لصالحها بفضل ما بلغته في المعرفة من إدراك، وما انتهت إليه في العلم من تفوق مما مكّنها من التألق بجدارة في عصر أهمُّ سماته الإنجازات الضخمة والاتصالات السريعة، والفكر المتوهج، والثقافة الرائدة.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*