طلب منا مدرّس اللغة العربية، في مرحلة الدراسة الثانوية، في حصة “الانشاء والمطالعة”، كتابة نص تحت العنوان أعلاه. عدت إلى البيت كتبت وكتبت، راجعت ما كتبته وأدخلت تعديلات عليه، ثم نقلته إلى الدفتر المعد للانشاء وقدمته للأستاذ. لا أذكر رد فعله أو رد فعل زملائي في الصف، لكني عثرت على الدفتر الذي أحتفظ به منذ ذلك الوقت، وأعجبني النص وها أنا أنقله لكم مع تعديلات طفيفة لا أكثر.
——–
في إحدى ليالي تموز الصيفية الحارة، لم أستطع الجلوس داخل المنزل، أسرعت بالخروج منه فلفحتني نسمة صيفية باردة، وجلست خارج الدار حيث الصمت يخيّم على المكان. رفعت عيناي نحو السماء، يا للّه ما أروعه من منظر! السماء صافية وفي وسطها يتلألأ القمر كأنه عروس في ليلة فرحتها، والنجوم حوله تتراقص هادية كأنها فتيات ترقصن جذلات حول العروس، وتمنين حلول يومهن السعيد.
لقد عاش أجدادنا الأوائل على مرّ العصور وحتى يومنا وهم يرون الجمال كامنا في القمر. والشعراء يتغنون بالقمر وسحره، وكانوا يرون القمر من أجمل الكواكب اذا لم يكن أجملها، وكانوا يستمدون منه الخيال وقوة التعبير وهكذا بقي الانسان يرى في القمر الجمال والخيال. واحتار الانسان في وجود بشر على القمر مثلنا؟ ولم يستطع أحد اكتشاف هذا السرّ إلا قبل سنوات معدودات، عندما تمكن الانسان – هذا المخلوق العجيب- أن يغزو القمر ويفكّ أسراره ويكشف جماله الزائف، فكان أول خبر تلقفناه – وقد استغربنا منه حتى أن بعضنا لم يصدقه – بأن القمر من أبشع الكواكب لا بل إن الأرض أجمل منه بكثير، فالقمر مليء بالحجارة والوديان والجبال الجرداء كأنه صحراء تبعث الخوف واليأس في النفوس. ومع ذلك لم يتوقف شعراؤنا عن التغني بالقمر وازداد وصفهم للقمر وجماله، ويتخيلونه على عدة صور فمنهم من يرى فيه صورة لحبيبته ومنهم من يرى فيه صورة الأمل وآخر المستقبل وآخر الحرية وآخر…
وفي السنوات السابقة بدأ الانسان يشك في صحة ما جاء في الكتب السماوية من نظريات دينية، حول وجود الله وخلقه لكل هذه الكواكب والأحياء والنبات، وبدأ الفلاسفة يجدون النظريات المناقضة لما جاء في الكتب السماوية ويفندون هذه الأساطير ببراهين واقعية، حتى أن الانسان البسيط منا أصبح مترددا بين تصديق ما آمن به أجداده وآباؤه وبين ما يطلع علينا به الفلاسفة والعلماء، فأصبحنا بين بين لا ندري أين الخطأ وأين الصواب.
والأغرب من هذا وذاك أن الفضائيين الذين نزلوا وتجولوا على سطح القمر، رجعوا مؤمنين بالله وما جاء في الكتب السماوية حول وجود الله وخلقه للقمر وباقي الكواكب، والمعتقد أن الظواهر والمناظر التي رأوها بعثت في نفوسهم الرهبة والخوف فاعتقدوا بل جزموا بأن هناك قوة أقوى من قوة الانسان هي قوة إلهية خلقت هذه الأشياء وكونتها، حتى أن أحد الرواد كاد أن يموت في إحدى جولاته لولا استعانته واستغاثته بالله حيث أنقذ بأعجوبة.
هل حقيقة أن القمر بشع والأرض أجمل منه؟ ولكن هل نسيت أن جمال الأرض غير طبيعي وأن الانسان حوّله إلى جنّات خضراء وحمراء وزرقاء.. الخ، وأن الانسان أوجد الكهرباء وأضاء كوكبنا فأصبح منظره يبدو جميلا، وأظن أن الأرض كانت موحشة قفراء يوم وجودها كالقمر وأكثر، فلو أنه وجد بشر على القمر لكان تطور وأصبح جميلا تضيئه الكهرباء وتنتشر فيه الجنائن والحدائق الغنّاء، لكنّ مقومات الحياة والوجود معدومة على سطح القمر بينما مقومات الحياة متوفرة على كوكبنا. وتأخذني عيناي إلى أبعد من التفكير فتحملني وتطير بي إلى سطح القمر فأنزل بصحراء واسعة، رحبة، مقفرة، تمتد على امتداد النظر، خالية من إنسان أو حيوان أو نبات فتسمرت في مكاني لدقائق معدودات وقررت التجول في المكان. فابتدأت السير وقطعت أشواطا وأشواطا على قدمي فأخذ مني التعب مأخذه والخوف مأربه، وظننت نفسي أسير في صحراء “الربع الخالي”، وبينما كنت أجرّ قدماي جرّا رأيت فجأة نبع ماء، فانقضضت عليه أشرب لأروي غليلي ولم أستطع تمييز طعم هذه المياه، وبعدما ارتويت شعرت بسلطان النوم يتسلط عليّ فتمددت على الأرض وغبت عن الوجود، ولم أدرِ كم من الوقت استغرقت بالنوم ولم أصح إلا على لمسة ناعمة تهزني، ففتحت عيناي إذ بي أمام فتاة عندها مسحة من الجمال فاستغربت جدا، وقلت في داخلي وأخيرا وجدت من أحادثه،وسردت على تلك الفتاة قصتي وطلبت منها أن تسرد لي حكايتها، فعلمت منها أن القمر كان قديما مليئا بالناس وتدب فيه الحياة، فاستغربت ما أسمعه لكنني تابعت الإصغاء بذهول وهي تقول لي، بأنه حدث ذات يوم فيضان “وادي الموت” الذي جرف معه كل البشر الموجودين ولم تعرف مصيرهم للآن، أما هي بقيت على قيد الحياة لأنها كانت على ظهر جبل عالٍ تقطف بعض الأزهار لحبيبها، حيث عزما على الزواج – فأطلقت على هذا الجبل اسم “جبل اليأس” لأنه قضى على أملها وأهلها – وقالت لي بأني أشبه حبيبها لدرجة كبيرة، فاستأنست بي واستأنست بها، وعشت معها أياما سعيدة، حيث قررت النزول الى الأرض لأني استيقظت ذات صباح ولم أجدها، وهكذا وقعت في حيرة كبيرة، فهذه الفتاة أتت ولم أعرف من أين وذهبت ولم أعرف إلى أين ولم أعرف اسمها وهي لم تعرف اسمي، فقررت الهروب والرجوع الى الأرض.