تسونامي!!- دمعة الهند تبكيني!_ عفيفة خميسة

سريلانكيّة تبكّي الحجر! تبكي وهي تبتسمُ! وتقذف أمواج عينيها الرذاذ الملامس وجوه محبّيها ارتطام الأصداف بشاطئ كاسر… فتركن رأسها على كتف صخرة البيت: “هذا أبي”! يا ألله كم تحتاج هذه المحارة لحماية أبويّة، ودفء حاضنة عائليّة!! وأسمع في عميق هذه النفس جرسيّة فرح يسترقّ حتى يكاد أن يغور لولا أنّ الأُذن تبصره والعين مغمضة!

وتسكت الحروف فجأة، وقد اختلط عليها صراخ ذاك النذير بإعصار أرضيّ ينوء بزقزقة النداء السماويّ هذا… أومي (اسم التحبّب) نبتة سليمة قلبًا وقالبًا، بين صبح ومساه تذوي! صابرة تستعين بعزة نفسها وعزم إرادتها على خنق بحيح دموعها… ولا تقوى عليها حين يعتصرها عناق مَن تعتبرهم عائلتها!!

هي الحروف التي استثارت قلمي، قبل أيام، فشرع يرسم بها لوحة نموذجيّة تتبسّم للحياة روحًا تنمّ عن نقاء لا يُرى، وجسدًا ينطّق ما لا يُسمع! أومي أُهزوجة تُنشِد ذاك الفرح الذي ننشُد ولا نرى! فتقول: بلى. هناك فرح في طلق الحياة يحيا ويخلد!

لكنّ معصوبي النفوس لا يبصرون! وأمّا عيون قلمي فحروف مبصرة توشك من ارتجافها أن تسقط أرضًا! ويرتدّ عليه المشهد تسونامي عاطفيّ يُغرق البيت، ولا تسري عليه القياسات المتّبعة!! فلا أجد الخلاص إلّا بالتحايل على هذه الزوبعة بالمكاتبة. وتجتاح ناحيتي موجة تحصرني في دوّامة الشكّ. وتوجعني هزيمة عسكر الله في غزواته الإنسانيّةَ سلميًّا! وتذكّرني أنّ سيوف المحبة قد نبت… عُنّفت حتى القهر أخواتها… دُكّت قلاعها واستباحت القروش هياكلها! هي القروش التي تدير مصارف الحياة وتتحكّم بمؤشّر بورصتها! إنّه لتأكيد إضافيّ على أنّ في عين الأرض قذىً وفي عين السماء عوارًا… وأنّ المعيار” معك قرش بتسوى قرش”باقٍ إلى أجل غير منظور!

في أواخر الصيف الماضي كان صباح آخر. صباح لقائي حكاية باسمة كوجه الشروق تولد في الغربة. على بعد أمتار قليلة من منزلنا، وعلى الشارع الفرعيّ الذي يرسم الحدّ بينه والشقة المقابلة (المفروشة للإيجار)، دغدغتني نسمة مشبعة بطاقة حيويّة هائلة تنفذ من ابتسامة تعرّف عن نفسها بالعبرية: عاملة…! فتولد للتوّ حكايةٌ، مساء الغداة ستحبو باتجاه مدخل البيت حاملة طبقًا من المعجّنات المصنوعة من طحين الأرز! فنشكر نذوق ونثني… وغداة الغد نحمل لهما ما كان لدينا من المطبوخ… ممالحة حلوة كان بها افتتاح معمل نسيج علاقة روحيّة مع خامة من الناس لا علم لنا بمثلهم! ومن أين لنا أن نعرف عن أُناس ناجين ظاهريًّا وضمنيًّا من الوقوع بلاصقات مصائد التكدّر والوجوم والتبرّم بالدنيا!؟ اعتبرتُ هذه اللقية صيدًا ثمينًا؛ مغذيًا روحيًّا وعقليًّا…

حكاية عبرت برقة مستأجر تمكّن منّا عاطفيًّا وفكريًّا بصدق وإباء يضجّان بالتواضع، وخجل وعفاف نفس يضجّان بالكبرياء!! ويتأكّد لنا أنّ جيراننا مثقفون ثقافة اجتماعيّة عالية. وهذا مكسب.

أومي وزوجها آ. س (الاسم المختزل) ينطلقان والصباح من هنا يدًا بيد وعينًا بعين، ويعودان مع المساء بشيء من كسوة حلم العودة للوطن سريلانكا… هناك سيبنيان منزلًا عصريًّا، فيه سينجبان أطفالًا… (الإنجاب هنا لأجانب مثلهم ممنوع!) وتفهم من هذا ألّا مكان هنا إلّا لمن يخدم دولة الحلم المفترس!

بعد أيام سينتقلان لمنزل آخر، وبعده إلى آخر… فآخر حتى يرسُوا على الأقلّ أجرًا. وإذ بالهند فجأة تذرف دمعة صامتة متجلّدة، فينبحّ الوجع، وترتدّ البحّة على سبّابة الضرب على الهاتف؛ هذا البليغ الذي يتقن اللغتين: الصوتيّة والمكتوبة لسانه يتحجّر!!

الزوج متعلم في جامعة سريلانكيّة، يتقن الإنجليزيّة، مثقّف يعرض صورة صادقة عن رجل عصاميّ. لا يفتعل سلوك النبيل المؤدّب، أو يصطنع بشاشة الراغب بالدنيا. ويُعتقَل، يُكبّل ويهان بجرم انتهاء مدة صلاحيّة تصريح عمله! وسيبقى مقيّدًا بالأكبال حتى يدبّر عملًا محدّدًا؛ مرافق دائم لمسنّ! هذا ما توصّل إليه المحامون الوسطاء بعد شهرين من اعتقاله!! ما على أومي سوى البحث عن محامٍ آخر، فآخر على شرط أن يكون متخصّصًا بقضايا شركة استيراد الطاقة البشريّة العاملة… تسعى، تدفع وتنتظر حتى آخر رمق! وينصحني محامٍ قريب سامع الكثير عمّا يجري في عتم القروش: قوليلها توفّر مصريّاتها وترحم أعصابها!! مش رح يتركوه غير بالمطار!!(وهكذا كان)!

المجرم يعزف عن الطعام، مكتفيًا بما يبقيه حيًّا! يجترّ بكاء يستحلفها حتى يذوب ملح دموعه في هاتفها رجاءً ألّا تخبر والدته! يتحمّل أيّ شيء إلّا دموع أُمه! وتطوف القرية بيتًا بيتًا تبحث عمّن يحتاج لمرافق دائم! فيصحّ القول: مصائب قوم عند قوم فوائد!

صائمة، أو مضربة عن الكلام والطعام والمنام، تذبُل البطلة وتنحُل… لكنها لا تقوى على اقتلاع البسمة المزروعة في وجهها! فما سرها/ما؟ لا يبدو عليها، رغم الضائقة التي تمرّ بها، أنّها تعاني من الربو النفسيّ! وكأنّي بها تنصهر حتى تتجوهر كاشفة عن ثقة بالنفس ومرونة اجتماعيّة تلامس حدّ الكِبر. “العاملة” تقبل الدعوة للغداء أثناء تجمّع العائلة شاكرة، وتحضر متأخّرة، فتعتذر! فأُحمّلها حصة… وفي الغداة ترفض أُجرة عملها! وأرفض… وتسرّب الإعلان عن رغبتها قضاء مدة عملها في القرية! وتكاد تصرّح بأنّها تكره الحصول على أُجرة أتعابها مطعّمة بالإيماء: هزّي يا نواعم! كرامتها بوصلة متطوّرة جدًّا تمكّنها، بلمح البصر، من تحسّس طينة البيئة المحيطة وأجواءها الإنسانيّة الأخلاقيّة، فتسارع بتلبية الدعوة للعمل مهما زردها الوقت… أومي عصفورة مهاجرة تتقن فنّ النقش في الحجر إتقانها ركوب البرق والريح معًا!

تُرى هل تجهل آلة قانون التشغيل هذا أنّ الآلة البشريّة تشعر وتحلم؟؟ ولكن، ما هي القوة الجبارة القادرة على دفع مثل هؤلاء الأنقياء للعمل في ورشة آسنة كهذه؟ لماذا يرخّص لهم بلدهم السفر للعمل خارج حدود السلامة العامّة؟ ولماذا لا يوكل مَن يرعى شؤونهم ويدافع عن حقوقهم الإنسانيّة؟! ألا يعرف هؤلاء بعد أنّ كبرى مآسي العصر تُخصّب خلف أقنعة القروش؟! ألا يعرف هؤلاء أنّ الأمن العالميّ يعتبر مخارز النسيج أسلحة خبيثة؟

ليس عليّ أن أستسلم للشكّ، أو أجزم، وما أعرفه عن سريلانكا(سيلان) لا يتعدّى حدود خارطة على أطلس العالم! فهي ليست أكثر من دمعة ذرفتها الهند واستقرّت جنوب شرق محيطها. وبقيت عالقة في عروقها بجسر من الشعاب المرجانيّة والجزر الرمليّة الصغيرة…

حيّرني وأوجعني أمر هؤلاء، وقضّ هدأتي صمت هذه الباكية المتبسّمة! وأتساءل: هل تبكي سيلان بنيها وهم يتبسّمون؟؟ ما عليّ، مع انتظار ردّة فعل الهاتف، سوى التقرّب من مستر جوجل لأعرف المزيد عن هذه الجزيرة، ومعرفتي بذاك الشرق البعيد لا تزيد عن الجهل إلّا سطرًا!

ويفيدني هذا الشاطر أنّ سيلان تُعرف، أيضًا، بأرض الشعب المتبسّم!! فأرتعش؛ يا لدقّة وصدق هذه التسمية الملهمة! وأجوجل من رؤوس الأقلام ما يفيد بأنّ هذه الأرض الأخّاذة قد كُرّمت بما كُرّمت به البيئات الاستوائيّة من الثروات الطبيعيّة السياحيّة المتنوّعة… بالإضافة للثروات الاقتصاديّة؛ أحجار كريمة، توابل غريبة، جوز الهند، البنّ والشاي الأصيل والمطّاط، عدا عمّا يميّزها من تراث جاذب حيويّة وعراقة… وأجفل عند ذكر المطّاط، وأهذي؛ هل يتدخّل القدر بحكم قذر يقضي بجلد” المجرمين” السريلانكيّين بسياط مطّاطيّة ثخينة؟!

(أيام قليلة قبيل الإفراج عن هذه الصرخة، نجحت بالتجسّس على مصيرهما، فأعلم أنّ الزوج قد دفع ما استحقّه من العقاب بالصاع المهزهز!! وسُرّح (وإيّاها) إلى مطار الدمعة الباسمة. تلك التي أبكتني طويلًا قبل أن تطير عصفورة استخبارات البلد، وتعودني ببشرى تحرير حلم شرقيّ أكحل البسمة لم يتّسع لتغريده القفص)!! 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*