تلك جاوبتهُ ودمعُ العينِ يسبقُها…..
مَن يركبِ البحرَ لا يخشى منَ الغرقِ”! وهذه نقزت! وبعد حين، بدأت الرياح الشرقيّة تدفع بالقارب غربًا، حتى تهاوى، فارتبكت الأشرعة… وابتلع زبد الشاطئ زوارق الإنقاذ!
(تحية وفاء لفارس من بلادي، بعد مرور قرن على ولادته) (25.6.1924)
سكن ليل الخامس والعشرين من حزيران، (المصادف عيد ميلاده التاسع والتسعين، وبعد تسعة أعوام على رحيله)، فالتمع شهاب أضاء ركنًا من جوانب ذاكرة ما أعتم يومًا إلّا بفعل دوّامة الواجب! وكم على مفارق الواجب من تعريجات يفرضها واقع ملاينة العلاقة بالرقميات، ويواربها بالروحانيات! يتواطأ مع أحلام الحسابات التي تدكّ المساحة المخصّصة للعواطف الإنسانية، فيضيّق الخناق على القيَم المُثلى وخوالجها… وتوسَّع من تلقائها الممرات للعابثين بمنظومة العقل الخيّر، بينما زُمر الرحّالة في دنيا الخراب يعودون تجّار سموم وهموم!
مع انسداد الآفاق وانعدام الرؤى تضيق سبُل التكيّف مع الحالة التاريخية المأزومة، فتفتح لي الذاكرة أذرعها وتدعوني لقيلولة إنعاش نفسيّ. وأعبّ عبّة ماء تثلج ما احترّ من أطرافي، وأستأنف الجري إلى الأمام، ومارد الحنين يطوّقني ويأسرني مربوطة بزند ذاكرة ممسوكة على الدوام بحبل التواصل مع الواقع الجاري.
ماردٌ مارد! لكنّني أقوى على معارضته، فأحدّد المسار والمدة… أحطّ المرةَ هنا، وألكع ساعة قطةً تطربها همهمة موقد ستي… ستي التي تذكّرني بأُمسيات البقيعة/عروس الشعراء، وهم يتراشقون بمفاتيح الحروف وأقفالها وكأنّها كرات طائرة بين سِدد البيوت العتيقة! فأغفو لثوانٍ، أو أستغفل، فأنهض حلمًا توقظه تلاوة أولى آيات فجر الحارة التحتى… هذه نغمات طرق الطبليّات تتكسّر في الحارة الفوقى زمزمة عيدان تشتعل! تتبعها تشتشات أرغفة تنسلخ عن صاج ستي… فأهتف: يا ألله ما كان أطيب خبز الحياة!
ماردٌ مارد! لكنه لا يرغمني على عصيان الواقع… وكم حاول فاستدرتُ له! وكم عليّ انتصر ببيت شعر مولود بين قلب وعقل شاعر! لكنّه في هذا التاريخ مستميت للسير غربًا! فيحملني ويثب وثبة تعادل ثلاثة كيلو مترات، ويقعدني أمام ذاك الشمعدان المعنّق الذي نجّم صدر منزل ساكَن ليل مرج البقيعة الساجي وحيدًا!! بيت يسامر النجوم والنقيق والعواء لا بدّ وأن يكون حلمه قد أرهف لنثريات “عوينة بو هاني” تخرّ في راحات كروم الزيتون هناك وتؤنسها! وتنزاح ذؤابة المساء عن مناجاة تنطوي على صلاة شكر: يا ألله ما أكرم الحبّ! وما أشفّ الشعر الذي تنظمه المياه فوق صفحات الصرار وأرقه!
ويسكت في أذن نعيم العاشق صوت معذّبته، فيسكت! ويهدر من جديد: “لكنّني، وإن كنت الكاره مكاسرة الأمواج، فقد اخترتُ مناطحة كاسري عظام أحلام أهلي! فنذرتُ للحقّ نفسي”! كلمة جوهرية تمحو الرسومات من على الشمعدان الفخاريّ، فأُبصره مصباحًا من البلور النقيّ وقد امتزجت فيه شفافية الألوان المائية تتماوج على لسان جبليّ ركب الخضمّ وقد عزّت مجاديف البحّارة… ويرسو على الشاطئ تسعينيًا ما انحنى مع انحناء مقابض أقلامه! تسعينيّ سُدّ مسيل مدمعيه عن عَبرتين ترويان حبًّا عظيمًا! ويسجّل في ضمير التاريخ محضرًا صامتًا!
هو المقاوِم المعسكِر على خطّ النار بين الأنا المتيّمة وال نحن الرحّالة بين دوّامات التاريخ وعواصفه. فقد أحبّته راكبًا أمواج الحقّ والكرامة مؤديًا أحسن الأداء، فالتقته في غيهب الغسق قَدَرًا يومض كالكوكب الدريّ في الأُفق!! لمحها، فقال من رهجة: ألف مرحى بكِ يا خير زائرة! وأَلف آهٍ كم أَخشى عليكِ من ندف السقف والعتم!! فتبسّمت وفاض مسيل العين يرويها: لا أظنّكَ جاهلًا أنّ غريق الحبّ لا يخشى من البلل!! ولم يحسب أيّ منهما حساب الاحتراق بين الغيمتين: الجبليّة والبحريّة! ولم ينجُ غير القسَم!
ويتساءل المارد: متى؟ وكيف يُبعث هذا القسَم/ العهد حيًّا بين تجلّيات انتصارات نعيم؟ ولماذا يُلحقه لازمةً مرافقة لذكرى رغيف أُمّه الأوّل على عتبة البيت الجديد؟ إنّ للحبّ في أهله شؤون وشجون! ويجوّد: “لا أنسى كيف أنا وأخوي نديم عملنالها أوّل موقده حدّ الباب خصوصي، وجبنا حطب زتون من “كرم النوري” عشان يتبخِّر البيت بالدخنه! مع طلعة الصبح كنا حاملين شقعة طلامي بزيت وسكر وعلبة حلاوي حلبيه حلوانه لجيران الحاره…كان الحصان طاير مشرّق عالبلد متل الريح فوق الموج”!!
من عظّة على جرح هنا إلى عظعظة هناك… إلى حكحكة في مواضع التذكير بانكسار الأنا انتصارًا لل نحن…تتوارد الدغدغات عند نقاط إثارة عشقه الأول للقوافي البلدية… وتلتقطه كاميرا المارد هرمًا مصغيًا لعندلة العين تحتكّ بأطرافه عشقًا سيثقله نصف قرن من الترحال بين الشاعريّة والفروسية. فأسمع صمت بوْحه مردّدًا بشموخ: “صحيح أنّ إبهامي قد لوت وأصابع يمناي قد احدودبت… وعود قلمي قد جفّ… ولكني قد كسرتُ سبابة المستبدّ ولويتُ ذراع الظلم القاسية ليًّ المحقّ! صحيح أنّ نشاف ريقي يحول دوني وكتابة مذكراتي العسليّة، ولكن بعدما نشّفت ريق الكاسر الآثم! صحيح أني أغصّ بحبة الزيتون الأخضر وحلاوة مرارتها ال… لكنّ هذا عقلبي زيّ العسل…لأنّ نشّال اللقمة من أفواه أطفال شعبي سيغصّ بالشوك ما دامت هناك قرية تزرع مرج الخبز هذا، وقد أُعِدّ له أن يكون مزرعة للدمامل! فهل أغصّ بانتصار ثبّت الحقّ لأهله مرفرفًا فوق منازلنا، لأنّ الأوجاع تذكّرني وتساومني؟!”
عاصفة رجّفتني ثمّ همدت! هذا الذي فتح صدره للحياة محبًّا مضحيًا، وردّت له التحية منازلة وتظلّمًا تخطّى المعقول، ولم تنجح بالنيل من كرامته. فأستوقفه! لكنه يسترسل، وكأن به ميلًا لنبش الغائر في عميق وجدانه، فيتابع: “صحيح أنّي لم أكتب لي إلّا ما لم تتمكّن منه الرياح. لكنني كتبتُ الكثير في مقاومة الأعاصير السود… أما أن تُرمى محمية أحلامي بالحراب، فذاك لأنّني ما صعّرتُ إلّا للمحبة خدي! وهل كان عليّ الركوع لأعداء الحبّ والحقّ والجمال حتى أنال شهادة امتياز!؟ هل كان عليّ عرض بيتي للبيع بالمناقصة، والانتقال من مضارب الريح الطرية إلى مكاسر الملح لأحصل على وسام شرف!؟ هل كان عليّ أن أوقّع على تغيير لون جلدي الترابيّ وأُصنّع بديلًا رمليًّا!؟”
سكن الليل واستكان لحكاية تكاد أن تغطّ في النوم الأخير! وطلع الصباح من قلب ليل معتكر يرفع صوته يذكّرني بواجب الوفاء ل”شاعر ملحميّ” من بلدي ولو بتذكرة من حروف…راق لي العرض، وسأعمل به كلما طلع صباح الخامس والعشرين من حزيران. هذا ما كان منّي بعد مضيّ قرن على ولادة نعيم يوسف مخولّ رضيع عين البقيعة البارّ!
هذا واجبنا تجاه كبارنا وتاريخنا! فأين نحن منه ومنهم؟؟ هيا اكتبوا! رجاءً!