بهذا التقرير كانت جدتي تختصر الجلسات الإخباريّة، وتوافقها أُمي رحمهما الله. كان هذا أيام كانت الهزات الاجتماعيّة لا تقلّ أذىً عن الخضات الأمنيّة! وكلّ سلوك خارج عن الأعراف المحلية الجامعة، يعرّض “المقترف” للإدانة غيابيًّا! والمحكمة الشعبية لا تقبل الاستئناف. لكنّها تخفّف الحكم بالتصريح: العالم واقف عكفّ عفريت.. الدنيا برّا قايمه قاعده، وإحنا متفضّين للدواوين!!
كنتُ أضحك منهما في سرّي. ولولا خوفي من الملامة لجاهرتُ بسخريتي. وقد فسّرت الكلام تفسير قاري كاتب أشطر من الأُميين؛ فالعفريت، بحسب معرفتي، هو الطفل الشقيّ الذي يعتبر أكبر الأشياء وأصغرها ألعابًا.. ويفتي لنفسه التصرّف فيها كيفما ومتى شاء.. فكيف تتّسع كفّه الصغيرة لعالم يكبر حجمًا ووزنًا كلّ يوم وكلّ ساعة؟!
وتكبر الطفولة.. وأعودها عفريتًا فتيًّا يخاطب الجدة وابنتها: “ما عادت الكفّ الصغيرة، يا حبيباتي، تكفي لحمل ساعة من الزيادة، فالعالم يتضخّم كرشه ويتوسّع حلقه ويضيق نفَسه.. العالم يا ستي مريم ويا ابنتها هيلانه يعاني من ربو عصريّ تجهلان خطورته! ما دامكو واقفات محلّكو يعني إنكو عمتزغرو! خلّيكو عنيّاتكو. نيّالكو!! مليون كفّ عفريت مقعّرة، يا كلّ مريَمات الأرض وهيلاناتها، لا تكفي لجمع كمية من الماء المقدس المتبخِّر من دموع طفل عفريت، ما عاد يكفي لمسح جبين العالم المحتضر! خلّيكو بحالكو وخلّي العفريت طفل شقي أحسن للكلّ!!”
العالم يا عالم محتاج ل”عفريت” شقي “يفسد” أطفال العالم كلهم بالعَفْرته! علمًا أنه من يوم مبطّل الطفل يتشَقْوَن صار العالم يتكلبن ويتثورن ويتبغلن أكثر وأكثر! وبغال اليوم صار إلها نياب ومخالب زيّ الذياب!
أنا الكنت عنيّاتي! أقرأ حركة ريح الصَّبى وأختبئ من الخمسين! كان جماعة الأُميين قرّاءً أصحّاء البصيرة، وقد تمعّنوا بالعلاقة الوثيقة بين الأسباب والنتائج. وقد قرأوا المناخ العالميّ منذ نصف قرن.. وكان استشرافًا دقيقًا عبّروا عنه بإشارات صوتيّة مصحوبة بنبرة تنمّ عن قلق من “تواليها”: “ألله ينجينا من تواليها!” هؤلاء الذين أبصروا أبعاد التقلّبات الجارية، لم يكونوا خرّيجي معاهد خاصّة بالتشريح والنقد والتنقيح، فلم يطعمونا لوز وسكر، إلّا لإيمانهم بأنّ الحياة قنوعة. لكن قبولها بالمرّ لا يجعلها تتنازل عن حقّها بالحلو.
لا يعني الحياة أنّني وقعتُ في الترجمة الحرفية. أما أنا فيعنيني. ويدعوني لمراجعة قراءتي باب ” العفاريت”.
ما إن شرعت بالقراءة حتى ابتُليت بشرديقة أوقفتني عن المتابعة. صحيح أنّ ” شرّ البلية ما يُضحِك”! قلبتُ الصفحة ورحتُ أٌقشّر مقروء ذاكرتي حتى وصلتُ النواة بحثًا عن سرّ امتلاك هؤلاء البسطاء دالّة استقراء الآتي… قلت: صدق مَن قال الما عندو كبير يشتري كبير. وأضفت:” ولو بالدين”!
لزمتُ مقعدي أنبش في أسرار أولئك الذين “دبّروا” من التوترات الخارجية حصانة ضدّ الانفعال، قبولًا بأحكام الزمان والمكان، وهما الضاربان على المجتمع سياجًا عاليًا لا يستوي فيه علم مع تدريس “عفاريت” أُسَرهم فنون الإصغاء للأصوات الصامتة، والتنبّه للأصوات المسموعة. فصحّ نهجهم مرجعًا يمكن العودة له في اللحظات المشابهة! بين المحفوظ طيّ دفتيْ أُذنين والمدوّن لا مكان للعبة الغمّيضة، خاصة وقد خلت الملاعب من العفاريت حُشروا في زاوية، فتوارَوا خلف شاشات تتحكّم بمصيرهم عن بعد واضعة مستقبلهم على كفّ عفريت ستي وحماتي وكل جاراتهما القريبات والبعيدات.