قصّتان قصيرتان جداً – أمين أسعد زيد الكيلاني

 

  1. عَيْنٌ      

فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ، والنَّاسُ شِبْهُ نِيَامٍ، قامَ أَبُو قَصيرٍ مُتَحَسِّساً شَنّاً.

فَوَجَدَهُ فِي تَلِّ الهَوَا، فَوْقَ رُكامِ مَسْجِدٍ قَدْ تَهَدَّمَتْ أَرْكانُهُ وَتَقَوَّضَتْ عِمْدَانُهُ إِثْرَ عدْوانٍ شَرِسٍ.

وَكانَ حَوْلَهُ- أَقْصِدُ شَنّاً- زُمْرَةٌ مِنْ نُخبَةِ الرِّجالِ، يلقِي عَلَى مَسامِعِهِم دَرْساً في فَلْسَفَةِ فِقهِ اللّغَةِ. غَيْرَ مُنْحازٍ إِلى فِرقَةٍ أَوْ حِزْبٍ أَيٍّ كانَ، بَصْرِيّاً أَو كوفِيّاً. والقَوْمُ يَنْصِتُونَ وَيُوعُونَ. فَجَلَسْتُ وَأَنْصَتُّ مَعَ الجالِسينَ النّاصِتينَ.

قالَ شَنٌّ: وَمِنَ التَّجْريسِ اللَّفْظِي أَيضَاً ما يَلِي:

كَلِمَةُ “نَجْدٍ”. وَتَعْنِي المُرْتَفَعُ مِنَ الأَرْضِ. فَإِذا حَذَفْنَا حَرْفَ الجِيمَ مِنْها، وَوَضَعْنَا مَكَانَهُ حَرْفَ الهَاءِ، لأَصبَحَ لَدَيْنا كَلِمَةَ “نَهْد”. والَّتِي تَعْنِي المُرْتَفِعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَإِذا بدّلنا حَرْفَ النُّونِ مِنْ كَلِمَةِ” نَهْدٍ” بِمِيمٍ. لأَصْبَحَ لَدَيْنَا كَلِمَةِ “مَهْدٌ.”

وَتَعْنِي المُسْتَوِيُ مِنَ الشَّيْءِ. وَإِذا حَذَفْنَا المِيمَ مِنْ كَلِمَةِ “مَهْدٍ” وَوَضَعْنَا مكانَهُ حَرْفَ الواوِ. لَنَتَجَ لَدَيْنا كَلِمَةُ “وَهْدٌ”. وَتَعْنِي ما انْخَفَضَ مِنَ الشَّيْءِ أَوْ مِنَ الأَرْضِ. وَإِذا بدَّلنا حَرفَ الهاءِ مِنْها بِأَلِفٍ. لَحَصَلَ عِنْدَنا كَلِمةِ “واد”.

وَهَكَذا هِيَ الأُمَّةُ النّائِمَةُ.

إِنْحَدَرَتْ صَبَباً مِن النَّجْدِ والنَّهْدِ إِلَى الوَادِ والوَهْدِ.

أَمّا بِخُصُوصِ القِلَّةِ المُسْتَثْناةِ، فَفِيها المُشْتَبَهُ وَغَيْرُ المُتَشابِهِ.

فَلَوْ أَخَذْنَا كَلِمَةَ “عَرَّةٌ” وَوَضَعْنَا نُقطَةً فوق العَيْنِ. لَأَصْبَحَت الكَلِمَةُ “غَرَّةٌ”. وَلَوْ وَضَعْنَا النُّقْطَةُ فَوْقَ الرَّاءِ بَدَلاً مِنَ العَيْنِ، لَأَصْبَحَتْ الكَلِمَةُ “عِزَّةٌ”. وَلَوْ عَجَمْنا العَيْنَ والرَّاءَ مَعاً. لَأَصْبَحَتْ لَدَيْنَا كَلِمَةُ “غَزَّةٌ”.

فَتَكُونُ المُعادَلَةُ كَمَا يَلِي. عَرَةٌ فَغَرَةٌ فَعِزَّةٌ لِغَزَّةَ.

وَتَعنِي الأِرتِفَاعُ وَالعُلُوُّ مِنَ القَبِيحِ إِلَى ذَرْوَةِ المَليحِ.

رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّت الصُّحُفُ.

*****

  1. جَفافٌ

يَقولُ شَنٌّ:

جَاءتنِي طَبقةٌ فِي ساعاتِ الضُّحَى الَّتِي غَرُبَتْ لِكَثافَةِ دُخانِها وَهِيَ تَقولُ:

قَدْ خَلَتِ الدِّيارُ مِنْ صِغارِها

فَقالَ شَنٌّ بَعدَ أَنْ هَلَّلَ وَحَوقَلَ:

أَرَدتُ أَنْ أُعَزِّي نَفْسِي فَانْقَطَعَ نَفَسِي. وَامْتَزَجَ الغُبارُ بِالدُّخانِ صُعوداً. وَتَهاوَتْ مُرُوءَةُ العَباءاتِ المُتَهاوِيَة الّتِي سَبَقَت أَصْحابَهَا إِلَى عَرَصاتِ الخَنَا.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*