انخطفتُ لهذه اللوحة قبل خمسين عامًا، فاقتنيتها في الحال. لم أتفرّس فيها طويلًا، حتى أسرتني، ونقلتني إلى بحر من التأمّل. وما لفتني فيها كما لفتتني لغة الألوان الترابيّة، وما تحكيه من حكايات الخوض في منازلة لقمة العيش. وما أبهرني فيها كما أبهرتني نبرات جسدي فتاتين تلتقيان على قارعة الرزق؛ هذه بصّارة تقتعد جذعًا في تزاحم الأقدام، تبسط كفها معرضًا لأشكال من البخت مطرّيًا يليّن قسوة الحياة! وهذه فلّاحة تذرع الدروب بائعة تحمل ما يحلّي مرارة الحياة!
كلّ تفصيل في لوحة” البصّارة”، سواء تعرّضت له ريشة الرسّام، أو لم تتعرّض، يصوّر جانبًا من أجواء البنية الاجتماعيّة في ظلّ النظام الإقطاعيّ. في هذا الركن توارد يحكي فصلًا من تاريخ أوروبا، كاشفًا، وبشكل فاقع، عن الهوّة بين الطبقتين: الأرستوقراطيّة وطبقة الفلّاحين الكادحين!
في لغة أزياء ثياب الفتاتين، تصاميمها وألوانها انعكاس واضح لحرائر القصور، وما يرافقها من مظاهر الترف وموائد البذخ! وتقرأ في مسحة التراب على وجه الفلّاحة، وفي عقصة شعرها إلى الخلف بمنديل ترابيّ، جملة من حكاية حيّة تحكي حالها، وفيها ما فيها من محاكاة تؤرّخ جانبًا مهممًا من واقع تاريخيّ!
في المشهد عرض لبصّارة أنيقة تربط شعرها إلى الخلف بشريط فرِح اللون… في نظارتها وبساطة هندامها وثقتها، كما في نبرة ملامحها ما يضعها في مرتبة أعلى قليلّا، خاصّة وأنها تحمل كلمة ينقط منها الترياق!
وأبقى في أجواء اللوحة مأخوذة ببلاغة عينيّ البيّاعة، وتلقائيّة اندفاعها لشراء بخت! وقد ركنت سلة الفواكه جانبًا، فيسقط على الأرض ما تعرّم فوق سعتها! فتضعه في طبق يوحي بأنّه مكيال أو ميزان، وتنبري للدفاع عن حياتها بكلتا كفيها؛ هذه تقبض على السلة تحتضنها، وهذه تحتضن حلمًا يوشك أن يولد!! وتكاد العين أن تبصره حيًّا ناطقًا متحرّكًا في عمق عينيها المزروعتين في كفّ!
على صفحة وجه هذه الفتاة أُشاهد مخاض فرح عميق! وما أعسرها ولادة! وأُبصر المولود في عينها حلمًا مختلف اللون والهيئة عن الأحلام العاديّة!! حلم يرسم الحدّ بين موت النفس وحياتها!