حقيقة هي أنّ الغالبيّة العظمى من الكتّاب “وقف الطير على رؤوسها” في الحرب الأخيرة على غزّة، وما زال رابضًا. هذه الأكثريّة ذهبت أكثر من اللازم في الحكم على نفسها بالصمت الكلّي، وعينيّا على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي كانت مسرحًا لها ل-“كدّ المراجل!”. الخوف أخذ منها مأخذًا بعيدًا من تبعات التعبير عن الرأي في هذه الحرب وأيّا كان موضوع هذا التعبير، فضَبَعَها الخوف كما تَضبع الضباع طرائدها ولكن ليس قبل أن تقبل الطريدة أن تكون فريسة.
صحيحٌ أنّ “حريّة التعبير الإسرائيليّة عن الرأي” للعرب عامّة وكتّابهم خاصّة لم تكن مرّة قائمة بالمعنى المتداول في الديموقراطيّات الحقّة، فكم بالحري أيّام الحرب. حريّة الرأي هذه خاضعة دائمًا ل-“سلّم قيم” من صنع المؤسّسة وتنفيذ أدواتها؛ “سلامة الجمهور” و”بقرة الأمن المقدّسة” والسلّة مليئة بغيرها تُستلّ حسب الحاجة القمعيّة.
في الأولى – سلامة الجمهور – أعطيت للمحاكم الإسرائيليّة القوّة المطلقة أن تفسّر ما هو مسّ في أمن الجمهور وما هو ليس مسّا في أمن الجمهور وبغضّ النظر عن نيّة القائل وما يترتّب على القول ونتائج القول. القاضي هو القول الفصل وهو المفسّر وهو العقل الكلّي، بعد أن تكون سبقته إلى ذلك النيابة العامّة والحيدة عنده عن هذا السبق من النوادر.
في الثانية – بقرة الأمن المقدّسة – ف”حدّث ولا حرج” فراحت البقرة في الحرب الأخيرة تنطح نطاح عشواء، فاسودّت صفحات التواصل عند الكثيرين من الكتّاب، وأطبق الجفاف على أقلامهم خوفًا من أن يفلت بكلمة “رايحه جايه” تودي بهم في مهاوي تهلكة على الغالب متخيّلة!
التعبير عن الموقف ضدّ الحرب ونتائجها لا يمكن أن يكون مخالفة قانونيّة ولا حتّى اشتباهًا في مخالفة قانونيّة ولا مدعاة لاعتقال. التعبير عن التضامن مع المدنيّين واستنكار ما يتعرّضون له لا يمكن أن يكون كذلك. التعبير عن موقف سياسيّ ضدّ الحرب وأسبابها في قضيّة الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي وسُبل التخلّص منها لا يمكن أن يكون كذلك، وكذا التعبير الإبداعيّ، ولكنّ الصمت يمكن أن يكون “مخالفة” ولكن أخلاقيّة وبالذات عند المبدعين – الكتّاب.
نحن العرب الفلسطينيّين في ال-48 ورغم ما نتعرّض له وما يتعرّض له شعبنا من موبقات، بلغنا من النضج السياسي الإنسانيّ مبلغًا نستطيع معه التعبير عن موقفنا من قضايانا الوطنيّة والحياتيّة ومن الحرب هذه والآتي من الحروب (لشدّة الأسف) من خلال ما اكتسبنا من قناعات إنسانيّة، رغم عدم إنسانيّة أوضاعنا، ومن خلال تخطّي المطبّات، خصوصًا حين لا ننسى أو نتجاهل أنّ هنالك دائمًا طرفين للحرب وفيهما المدنيّون من الأطفال والعجّز والمرضى وغيرهم من غير المحاربين لا تجوز فيهم الانتقائيّة أو الاستنسابيّة.
وكم بالحريّ الكتّاب منّا!
الحروب عادة توقظ الإبداع الملتزم لا بل تستفزّه، وإن كانت الحرب في سياقنا خنقته أو قيّدته أو أقامت عليه الحدود، فبغضّ النظر عن الأسباب يستطيع الكتّاب أن يتابعوا المسيرة؛ إبداعًا وإشهار إبداع وتكريم مبدعين ولا ضير في ذلك، ولكنّ البون شاسع بين هذا وبين أن يعطي بعض الكتّاب أنفسهم الحقّ أن يقيموا أو يشاركوا في أمسيات “تكريميّة” و”إشهاريّة” و”رمضانيّة” ممهورة بالأكل الدسم والغناء المصحوب ب”تحميس على التصفيق”، وقاب قوسين أو أدنى منهم أطفال يأكلون الأعشاب ويرقصون ارتجافًا بين دمائهم، وحتّى إن لم يكونوا ذوي قُربى منهم فكرًا أو عصبًا، وبغضّ النظر عن السبب والمُسبّب.
إن لم يكن المبدع إنسانيّا فلا كان الإبداع!
هيئة التحرير
نشرت في مجلة “شذى الكرمل” فصليّة الإتّحاد – عدد آذار 2024 الأوّل للسنة العاشرة.
الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين- الكرمل48