نسخْت هذه الخاطرة كما وردت في المسودّة (1991)_ ” كان الأسبوع الماضي، بالنسبة لزوجي المخيَّب، أُسبوع آلام غرق خلاله بترديد القصيدة المغنّاة” بغداد يا قلعة الأُسود..”، وبيتين من الشعر الوجيع:
أُمّةٌ قد فتَّ في ساعِدِها بُغضُها الأهلَ وحبُّها الغُرَبا
تعشقُ الألقابَ بغيرِ العلا وتفتدي بالنفوسِ الرُّتَبا
لم أكن أعرف أنّهما لشاعر النيل/ حافظ إبراهيم، وما المناسبة، بينما أعرف أنّ بغداد قلعة من قلاع كوكب الشرق ثقافة وسياسة.. وصوتًا جلجل في الآفاق العربية.. استوضحته حيثية نظم البيتين وخلفية شهرتهما. فأفادني علمًا بأنّ فتاة من رعايا اليابان كانت تتعلّم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وقد أنشأتها بريطانيا في قلب “أم الدنيا”، خصّيصًا لتعليم عيونها فنّ تصوير الذهنية العربية من خلال عدسة اللغة!!
أما اليابان، وبعد اندلاع الحرب مع روسيا، فقد استدعت رعاياها في العالم، بما فيهم الطلبة، باعتبارهم جنود احتياط. لبّى هؤلاء النداء إيمانًا منهم أنّ حماية البيت في حالة الطوارئ أكثر إلحاحًا من تأثيثه بالعلوم العليا!
كان حافظ إبراهيم من أصدقاء طالبة العربية المقرّبين، فعرّجت لوداعه قبل المغادرة، فسألها: ما الأمر؟ ردّت: بلادي تناديني! -: علمْت هذا. ولكن، ما للظباء والحرب؟!-: بلادي تناديني! بلادي تناديني! ودّعها وانكبّ فوق مكتبه يذرف قصيدته “لا تلُمْ كفّي إذا السيفُ نبا”.. وقد صوّر فيها حال أُمّة تبيع أصالتها مقابل ممالك خاصّة ومناصب مزوّرة.. تبني الأبراج والقصور فوق رمال صحاريها المتخلخلة اجتماعيًا واقتصاديُا وسياسيًّا من المحيط إلى المحيط!
لكنّ مصر أُمّ الدنيا الذهبيّة وابنة النيل الأبيّة، إن كبَت لا تنام. (وثلاثة لا ينامون: الجوعان والبردان والخايف). وهي تطبخ من الجوع كرامة، ومن الخوف إباءً، فتدفع تكاليف حرب لا تسعى لها..
على الرغم من أكبالها، مصر العزّة تنهض وتنشر بذور الكرامة في البقاع العربية نهضة فكريّة أدّت إلى تصحيح التواء المسارات، بعاصفة من الفنون غناءً ومسرحًا وسينما وشعرًا عبّرت عنها قصيدة محمود حسن إبراهيم” مصر نادتنا”، لتعيد للأذهان” لا تلُمْ كفي”. وقد تناولها محمد عبد الوهاب لتملأ الآفاق العربية حماسة ترتقي بالموسيقى إلى ذُرى علاها، ويضبط بصوته نبرات غناها. فكان العام 1940 محطة انتقال من برودة قوقعات الاستسلام إلى ساحات الانتصار لعراقة النيل..
مصر نادتنا فلبّينا نداها…. وصولًا إلى: نحن جند النصر أبطال الدفاع يوم يدعونا لنا القول داع
هذه هي مصر التي في خاطر التاريخ وفي دمه! هذه هي مصر محمد عبد الوهاب وأم كلثوم و.. و.. ! تُرى، هل نامت الأهرام؟ أم تراها أُغرقت مع حسناوات النيل؟