رحل توفيق بهدوئه المعهود، رحل بصمت ودون ضجيج، رحل توفيق ليمتطي فارس صهوة الحياة طفلًا شقيًا، يرفض الواقع ويتمرد على الحياة، يحمل همومها ويخوض معاركها بكل تفاصيلها، يسير في دروب الشّوك، ينكر على نفسه طفولته، من أجل إنقاذ عائلته من براثن الفقر والعوز، يسافر في كل تشعّبات الحياة وسراديبها، يقاتل هنا، يستريح هناك، يعيش اللحظة هنا، ويشهر سيفه مقاتلًا في كل ساحة يرى فيها الظّلم والفساد، يقاومه بكلّ عنفوان، ويمضي بهدوء.
فارس يحمل معنى الفروسيّة وقيمها، الشّجاعة والاقدام، الرّجولة والنّخوة، الصّدق والأمانة، الاقدام والإصرار على الرأي والموقف والرؤيا الواضحة لمعنى الحياة العزيزة الكريمة الصّادقة، دون أن يطأطأ الرأس أو ينحني أمام من يحاول قهر إرادته، أو يعتدي على حرّيته.
فارس كان يحلُم بإعادة طفولته الشقيّة التي تركها بين أكوام الفقر وساحات الجهل والتخلّف، وعندما عاد يبحث عنها وجد الفقر ولم يجد طفولته، فارس كان يحلُم بإعادة شبابه المسلوب والضّائع خلف القضبان وفي غياهب السّجن، وهناك وجد الامل والطّريق والفكر ولم يجد الشّباب الذي أضاعه.
فارس كتب روايته وهو يرى الظّلم في عالم متلاطم قد مات فيه الأمل، وضاعت فيه القيم، فأراد أن يكتب سيرةً ذاتية، يصحّح من خلالها المسار لشعبه، ويضيء عتمة الطّريق، ويوضّح صورة النّضال، وصدق الطّريق. كتب الحكاية وأضاف اليها من عالمه الصّحفي مقالات معبّرة عن معاناة شعبه، وعندما نظر حوله ورأى بأم عينه شلّال الدّم النّازف من شعبه، تعب من المشهد، خفق قلبه المًا، لم يستطع الصّمود أمام مشهد الملائكة وقد تعبت من نقل الأرواح البريئة إلى السماء، فانضم إليها بهدوء ودون ضجيج كعادته، انضم إليها دون أن يُعلم أحد، هناك في عالم الغيب ربما يستطيع أن يعيش حياة سرمدية كما أرادها أن تكون.
يقضي شبابه يبحث عن خيوط نجاته، يحمل عزته وكرامته كل ما يملك، وكلما سار في سراديب الحياة زادت همومه، وكبرت قضيّته حتى أصبحت قضيّة شعبه، ويتعرّف على قضّيته، وينهض شاهرًا سيفه في وجه الظلم، أيًا كان نوعه، يسير منتصبًا هنا، يتعثر هناك، وفي كل مرّة ينهض من جديد. إلى أن أقفل عليه خلف قضبان الجلّاد، ليقضي سنين طويلة من عمره، لم ييأس بل كان السّجن له مدرسة في التّثقيف والتّوعية وتسديد الخُطى وإعادة التّفكير والنّضج، وينطلق بفكره حرًا طليقًا، رغم حصار الجسد خلف القضبان، وفي كل هذا بقي فارسًا عنيدًا مقاومًا بقي منتصبًا شامخًا إلى أن رحل.
رحل توفيق وكان حريصًا على أن يكتب الحكاية، فكتب “فارس والحكاية” كسيرة ذاتيّة وتجربة نضاليّة كتب تفاصيلها، بألم اللّيالي، ولكن بصدق طفولي، رواها لأجيال قد يتوهون عن الدّرب أو لا يتعرّفون على خفاياها وسراديبها المعتمة.
هكذا أراد توفيق عبد الفتاح أن تكون روايته، رحل توفيق بهدوء وبدون وداع، رحل فارس ذلك الطفل الشجاع المتمرد دائما على الواقع، الثائر ضد الظلم والقهر، فارس الذي كان يبحث عن طفولته، يبحث عن شقاوته بين أترابه، فلا يجد حوله غير الفقر المدقع والحياة القاسية، والليالي المريرة، فيضرب طفولته عرض الحائط ويحمل همومه وهموم عائلته ويبحث عن خلاص، ينقذهم من براثن الفقر، وتبقى حكايته، حكاية شعب يناضل ويقاوم، يخرج من تحت الرماد، يتجدد في كل حين وينطلق نحو فضاء الحرية.