قراءة في كتاب “توفيق زيّاد شاعر الأُمَّة والأممية” للكاتب د. نبيل طنًّوس – فيصل طه

 توفيق زيّاد ظاهرةٌ، انسانية شاملة تحمل في ابعادها آفاقًا أدبية، ثوريّة، وطنيّة، قوميّة، أُمميّة، تحرريّة، أدبيّة، ابداعيّة، سياسيّة، اجتماعيّة تُلامس أديمَ الأرض وتصبو فضاءَ الحرية، توفيق زيّاد، شخصيةٌ مميَّزة، تستحق الدراسةَ من جوانب عدّة، منطلقة من شمولية هذه الأبعاد، بل وأبعد. 

لقد اختار الكاتبُ د. نبيل طنّوس في كتابه القيِّم “توفيق زيّاد، شاعر الأُمَّة والأُمميّة، دراسات وقصائد مختارة”، أربعة مقالات تُجسِّد أبعادًا معيَّنة من شخصيّة توفيق زيّاد الثريّة بميزانها المتنوعة، “توفيق زيّاد من الأمَّة إِلى الأُمميّة”، “السّجن في شعر توفيق زيّاد”، توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد، بين العنوان والمتن في قصيدة توفيق زيّاد”، و”رسالة عبر “بوّابة مندلباوم”. استهل الكاتبُ كتابَه بكلمة الأسرة، الابنة وهيبة توفيق زيّاد، والتي رأت بالكتابة عن الأب والشاعر والقائد الشعبي والسياسي، صعوبةً عذبة، فوالدُها، إنسانٌ مُحبٌّ للناس، وللحياة الكريمة، عاش مُضحيّا يحملُ همومَ الشعوب والبشرية جمعاء، لم يرتح لسيادة الظُلم ولا لامتهان القتل، فهو الانسانُ الذي لم يملك شيئًا في هذه الحياة، إلّا قصائده وحبه الأبدي لوطنه المحتل، هذا هو توفيق زيّاد كما لخصته وهيبة بقصيدته التي يقول فيها:

 ” أنا بشرية في حجم انسان

فهل ارتاح والدم الزكي يسفك

 أُغني للحياة

 فللحياة وهبت كلَّ قصائدي

وقصائدي كل ما أملك.

لقد اهتم  الكاتبُ طنّوس بأن يبدأ مقالَه هذا، بنصٍّ لم يُكتب في قصائد زيّاد، لكنّه ينبعثُ من وجدانه ويعكس كينونة شخصيته الانسانيّة الساميّة، لقد بدأ بمقولة شعبية، بلهجة محكية، بسيطة، عميقة اعتاد الشاعرُ ذكرَها ومخاطبة شعبه الفلسطيني والعربي، وكلّ شعوب العالم، “ديروا بالكوا ع بعض”، تُشيُر هذه الوصيّة الموجزة إلى قلقلة الشّديد, وحرصه الشامل على مصير شعبه وكلّ شعوب الأرض،وإلى حبِّه الحقيقي للناس جميعًا، كما أنّها تؤكِّد على أهميّة دور الأدب الحقيقي في السّعي لتحقيق رسالته الانسانّة، والتأثير والمساهمة لتحقيق العدل والحريّة والسلام لشعبه المظلوم, ولشعوب العالم.

لقد اشار الكاتبُ في كتابه هذا، إلى أنَّ الشّاعر القائد السياسي الشعبي توفيق زيّاد, هو نموذج للشاعر المُشارك الفعّال, والمُهتم بما يجري حوله وفي العالم, والملتزم بقضايا شعبه، وشعوب العالم نحو الحريّة والعيش بكرامة، ولم يكن مهتمًا فقط بنظريّة “الفن للفن”، التي تحصر بحثَها فقط على الجوانب الجماليّة, وتسلخ الشّاعر عن قضايا وهموم شعبه, وتُبعده عن مقاومة الظُلم والانتصار للعدالة والحريّة، لقد كانت شخصية توفيق زيّاد متفاعلة مع شعره لنقطة الالتصاق والالتحام الدائمين، وقد بان ذلك قولًا وفعلًا، وممارسة حقيقيّة، يقول نبيل طنّوس أنَّ هذه المصداقية “شكّلت دافعًا في نضال توفيق زيّاد الميداني، السياسي- الاجتماعي والإبداع الأدبي”، كان زيّاد مناصرًا لكلّ العمّال والفلّاحين والسُّجناء في فلسطين، وفي كلّ مكان في العالم”، وأنّه كان ملتزمًا بقضايا شعبه وحرّيته، وبأنّه شاعر الواقعية الاشتراكية، وأنّ انتماء زيّاد للحزب الشيوعي والفكر الماركسي اللينيني ساهم كثيرًا في اعتماد الأدب التقدمي طريقًا ونهجًا لبلورة فكره، وتحديد هدفه الأساس، التحرًر من الظُلم بكلّ أشكاله.

لقد أشارَ الكاتبُ نبيل طنّوس في كتابه إلى المواضيع التي اهتمَّ بها الشّاعر توفيق زيّاد، والتي أثّرت بدورها على عقيدته وعلى مواضيع وخصائص شعره، فقضية الدمج بين الأُمّة والأُمميّة ساهمت بأن” تعكس تفكيره وادراكه وأحاسيسه التي تكوّنت خلال مُجمل سيرورة نشأته، ولقد ظهر في شعره التواضع، البساطة، الالتزام النضالي لقضايا وطنه والعالم. لقد تكرّرت في شعره مُفردات ذات مضامين ومعانٍ عكست فكره وأهدافه وأمانيه والظروف السائدة حين كتابتها، وكذلك أبرزت التفاعل الجدلي بين هذه المُفردات ومضامينها، وظروف الزمان والمكان المُحيطة بها، وأظهرت صورة شاملة للعلاقة المُتبادلة بين الانسان وبيئته والأَرض وهويته، والتي دمجت أمميّته الانسانية بأمّمته العربية وبهويّته الفلسطينية بنضاله الطبقي والوطني، مثل: التّحدّي، الرّفض، المقاومة، التشبث بالأرض، بالوطن، الأمل، الصمود، النضال، الالتزام، الاحتلال، السّجن، أُخوّة الشعوب، الحريّة، العدالة، السّلام، الصداقة، التّضحية، الغضب، الإصرار وغيرها من المُفردات والمعاني، وقد تجلّى ذلك في عناوين قصائده “إلى عمّال آتا المضربين”،  “ادفنوا امواتكم وانهضوا”، “كفر قاسم”، “مرج ابن عامر”، شهداء الحريّة ، “أُناديكم”،” “سمر في السجن”، “هنا باقون”، وغيرها “

لقد ظهر الموقف الطبقيّ والأُمميّ في قصائده: “أشدّ من المحال”، والتوجه إلى جميع الأخوة من الفقراء والجياع والمظلومين، والسّجناء، ويشجّعهم على النّضال من أجل تحقيق الحرّية عن طريق الثورة الحمراء:

يا اخوتي في الجوع، والإرهاب

..يا اخوتي  في السّجن، والأغلال

يا اخوتي في الثّورة الحمراء.

نرى زيّاد يستحضر الأمس الدامي الى يومنا الدامي، ويحكي حكاية شعب ما انفكّ حاضره عن ماضيه، يُصارع الحياة، ويُجذّر البقاء على أرض الاّباء والأجداد، يقاوم الظلم ويرفض الهزيمة، ويصرخ عبر قصيدته “ادفنوا أمواتكم وانهضوا”: 

وعلينا كان أن نشربه

حتى الزّجاج

كأسنا المرّ المحنّى

ويضيف إنسانية شعبه في قصيدة “ارفعوا أيديكم عن شعبنا”:

لا تطعموا النار حطب….

نحن لا نأكل لحم الاّخرين ، نحن لا نذبح أطفالا ولا نصرع ناسا اّمنين.

ويؤكّد في قصيدة “نحن هنا باقون”

هنا على صدوركم باقون كالجدار

ويرتقي إنسانية سَمِحة، ويصدح غناءً في قصيدة “المغنّي”

وأعطي نصف عمري للذّي يجعل طفلا باكيًا يضحك

وأعطي نصفه الثاني لأحمي زهرةً خضراء أن تهلك.

أمميتّه تتجاوز الحدود العائقة والكراهيات الخانقة الى اّفاق الإنسانية السامية:  

أنا لم أكره يهوديّا 

فَكُره الشعب لم يدخل عروقي…..

ويعزّز موقفه السلمي في قصيدة “شيء في الحرب”

أكره سفك الدم وصفّارات الإنذار

ويتساءل عن جدوى عبثية القتل والدمار في قصيدة رجل السّلام الاسرائيلي “ايبي نتان”:

 أنبقى إلى أبد الآبدين 

نُدَمّر بعضًا 

ونقتلُ بعضًا ونَحرَقُ بعضًا

 ألم يحنِ الوقتُ 

أن نلتقي للحوار

 

وعن العدل والمساواة في هذه المعمورة يقول في قصيدة قِسمة ضيزى:  

سُدّة الحكم لهم، واللهُ والمعبدُ والثروة 

والتّبرُ والبترول والأسفار

والفقرُ لنا والجهلُ والمرضُ القتّال.

كتب القصيدة الوطنيّة والتفاؤل والأمل:

” يا إخوتي أولا ترونَ الأُفق 

كالحلم الرّقيق

هذي وجوه العائدين 

تطلّ من رأس الطريق”

لقد أسهبَ الكاتبُ نبيل طنّوس في الحديث عن أدب السّجون منذ العصر الإسلاميّ الأول، ذاكرا قصّة سجن الشّاعر الحُطَيْئة واستعطافه من الخليفة عمر بن الخطّاب: 

ماذا تَقولُ لأفراخٍ بِذي مَرَخٍ     حُمرِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجَرً

وأبو فراس الحمداني الذي وقع أسيرًا في سجن الرّوم وأبدى من الصبر والجلد ما لم يظهر عند الحطيئة:

أُسرتُ وما صَحبي بِعُزلٍ لدى الوَغى    ولا فَرَسي مُهرٌ ولا ربُّه غِمرُ

 وعند شعراء الاندلس أمثال يحيى بن الحكم، وابن شهيد، كما أنّ الأدب الفلسطيني كان ثريّا بأدب السّجون، مثل: خليل بيدس صاحب كتاب أدب السّجون قبل عام ١٩٤٨، والشّاعر الشّعبي عوض النابلسي، والشّاعر ابراهيم طوقان عن السّجناء الثلاثة عام ١٩٣٠، عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وعدد لا حصر له من الأديبات والأدباء الفلسطينيين الذين كتبوا وما زالوا عن المعاناة والظُلم في السّجون الإسرائيلية، هذا الأدب المُثقل بتجربة السّجون يستحق البحث والدراسة العميقة.

لقد خطّ توفيق زيّاد تجربة السّجن شعرًا في العديد من قصائده:  

قصيدة “في كل شيء أعيش”:

حُطّوا في رجلي القَيْد

حُطّوا في كفّي القَيْد

قُصّوا صوتي ولساني واكووا أعضائي بسجائركم ….

فأنا من شدّة حبي لبلادي لا أفنى وأموت

لكن أتجدّد، دومًا أنجدّد.

قصيدة توفيق زيّاد “من وراء القضبان”:

ألقوا القيود على القيود 

فالقيد أوهى من زنودي

قصيدة “افتح بابك”: 

وارفع صوتك في وجه السّجّان 

  ….واسحب يا غازي جيشك من وطني المُحتلّ. 

  الكاتب حسن عبادي في مقالته المدوّنة في الكتاب “توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد”، يقول أنّ الكتابة في السجن وعنه هي “متنفس للأسير تجعله يُحلِّق ليعانق شمس الحريّة” ويقتبس عن الكاتبة حنان بكير: ” من عتمة الزنازين يرسمون الوطن قوس قزح”

ومن د يوسف عراقي: ” الحريّة هي حريّة الأفكار”، يقول الأسير ياسر أبو بكر: “الكتابة في الأسر هي الرد الانساني على وحشية المكان”، والأسير وليد دقّة يقول: “اننا نكتب عن السّجن لننفيه”، وتم ذكر العديد من الشهادات الحيّة عن أدب السّجون. 

“بين العنوان والمتن في قصيدة توفيق زيّاد، رسالة عبر “بوّابة مندلباوم”

العنوان أخذني شخصيًا إلى أجواء ودلالات اللقاء، المقابلات بين شقَّي الألم والأمل، الى بوابة الحزن، “الشّاعر هنا، هو المُتكلّم الشّعري، هو أي فرد فلسطيني بعيد عن أُمّه، والسبب نكبة عام ١٩٤٨، التي فرّقت بين الأُمّ وأولادها، وبين الأقارب وأبناء البلدات المهجّرة. زيّاد يوجّه خطابه إلى شخص غير موجود، إلى أمّه، وهي كل أُم فلسطينيّة بكُنُيات مختلفة أُمّي الحبيبة، أمّاه، يا قلبي، يا أُمّي، يا والدتي”، يقوم الكاتب بتحليل قصيدة رسالة عبر “بوابة مندلباوم”، وبتوضيح العلاقة بين عنوان القصيدة ًومتنها، مضمونها، والدلالات والتأويلات والايحاءات والرموز التي يحملها العنوان. من المفارقات المأساوية.  أن تتحول الرسائل الخطيّة، وأحيانًا الصوتية عبر المذياع إلى لغة التخاطب والتواصل الوحيدة الممكنة بين أفراد العائلة الواحدة التي فرّقها التّهجير، وحطّمتها النكبة، هذه الحالة القسرية القهرية التي لا تُماثلها حالة في التّاريخ البشري، هي حالة فلسطينية خاصّة، حالة حملت وما زالت تحمل أوجاعًا فوق أوجاع، أرهقت كل أنواع التواصل وعبثت دمًا، وأصبح خطاب المناداة، أُمّاه يتجاوز “بوابة مندلباوم”  إلى بوابات أحزان خانقة على حافة ما تبقّى من مكان، خطاب يتجاوز حدود جماليّة الشّعر وموسيقاه، يتجاوز مساحات التشبيه وعلامات التعجب والاستفهام، ليصبح خطاب مناداة أُمّاه، أنينًا خافتًا، يكاد يكون هامدًا كرماد جمر يتولّد في كلّ حين من شجرة الزيتون والليمون، ويتولّد نسيمًا من عطر الوردة والنعناع. يسأل الشّاعرُ توفيق زيّاد عن آخر الليلة، ويسأل النجمات عن الأهل هناك، وعن زمن بدء خطوة العودة الأولى، لتلتحم برسالة “بوابة مندلباوم” المدويّة:

أبو صلاح عُمِيَت عيناه من قهر 

وأُمّ فخري ذهبت حُزنًا على فخري

 والقرية السمراء قد شابت من الصبر 

والعين شحّ الماء فيها، فهي لا تجري

لم يبق يا أُمّي غير الملّ والصخر

لكننا نصمد كالفولاذ للدّهر”

 لي تجربة طفولية عميقة الأثر في نفسي ووجداني، مع هذه البوابّة المُتاحة، “بوابة مندلباوم”، حيث كانت لي، ومن خلالها، فرصة مكانية وزمنية لمقابلة جدّتي وعمّتي اللاجئتين المُهجّرتين في بلاد العرب، واللاتي لم أرهما قط من قبل، جئت ووالديَّ والأقارب لمقابلة قصيرة عابرة ، لمقابلة  الأم لابنها، والابن لأُمه، والأخت لأخيها والأخ لأخته، والجدّة لحفيدها والحفيد للجدة، وقد مُنع والدي من مقابلة والدته، لكن هذا المنع الجائر لم يستطع منع جدّتي من الخروج والانطلاق مُتحدّية مُسرعة صارخة، لتتجاوز حدود البوابة نحو أبي، ابنها في الخارج، لتضمّه فرحةً، شوقًا معتقًا إلى أحضان حضنها، لتختصر سنوات الفراق واللّوعة بلُحيْظة يتيمة، لتتبعها سنوات عجاف من البعد العقيم الثقيل، لتعيد حمل الهمّ، واشتعال لوعة الفراق من جديد، وحفظ هذا المشهد في ذاكرة الأجيال القادمة مرسومًا على جبين الحقّ والعدل، ليبقى هذا اللقاء، لقاء الدموع بالدموع، الذكريات بالذكريات، الاحزان بالأحزان، الفرح بالفرح، الحلم بالحلم، والفراق بالفراق، واللقاء باللقاء، ليبقى حيًا بلقاء الأمل بالأمل…..  بأمل العودة،

 هذا الكتاب يساهم مساهمةً جدّية في توثيق ومعالجة ودراسة زوايا متعددة في أدب توفيق زيّاد، وأدبنا المحلّي النيّر، وما أحوجنا اليه الاّن، وخاصة، في هذه الظروف القاهرة القاسية، الى هذه الأبحاث العلمية كرافعة دافعة لبعث الأمل والتفاؤل لتحقيق السلام العادل والمستقبل الاّمن والمحبّة، هذه الدراسة تستحق القراءة والبحث، ويستحق الكاتب الباحث، الأديب نبيل طنّوس التقدير الكبير، والثناء الكريم، ونرجو المزيد من فَيْض العطاء والابداع…. والشكر الجزيل لمؤسسة توفيق زيّاد للثقافة والفنون على عقد هذا اللقاء القيّم، ولمقهى ليوان على الترحيب والاستضافة، وللجمهور الكريم، ولكل من ساهم في تنظيم هذا اللقاء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*