أين جيادي؟ أين فرساني؟ أين عدّادي؟ أين ألواني؟ أين أقلامي وأنغامي؟ أين فساتين أحلامي؟
وكأنّ المولود من بطن القرن العشرين قد دخل التاريخ مكرّمًا بجرّ ناقلة تحمل للزمان أسئلة تنطق بأجوبتها. حتى لأكاد أجزم أنّ كلّ من ولد خلال العقود الخمسة الأخيرة يسأل ذات الأسئلة، وإنما بتوجّع مضاعف. (باستثناءات لا تذكر). البعض يضرب كفًا بكفّ، والبعض يضرب بالصخر رأسه.. والبعض ملبّك زيّ إم العروس الغريبه!
وانبطحنا أُمة تتقاذفها قوائم الأحصنة الهجينة، وتتلاطم أكبادها أمواج من الأنَوات، وتلقيها على الشواطيء الصخريّة موائد الجوارح عابرة القارات! أما الناجون من مصيرهم، فيتركون في مرمى أعتى انفجار شيطانيّ يواجه الإنسانيّة! هذا بحسب تقارير الوافدين من الهناك الميسور أخلاقيًّا واجتماعيًّا إلى الهُنا الموتور روحيًّا وأمنيًّا.
ونجونا من مظلمة وظلمة الخمسينات العثمانيّة الثمانية!! كيف يا ترى؟ هل اجترع الطقس للتاريخ أُعجوبة؟ لا! إنما بفرسان تمرّسوا بفنون الدفاع عن الحقّ والكرامة، بالقلم والكلمة.. والوتر والإيقاع.. بالإبرة والخيط والقماش.. والتوحّد في اللون الخطابيّ الجامع هموم الناس على منابر المواجهات الكبرى، حيث كان الكلّ في مجاله سيّدًا يدعمه أسياد! ليكتب فصل من ذاكرة كثر فيها الأسياد وقلّ العبيد!
ويدور دولاب الزمان بسرعة ولمّا ربطنا أحزمة الأمان بعد، فهوينا وسقطنا في قبضة الخمسين الملحميّ الحاليّ متحلّلين من ذاكرتنا الترابيّة الطيبة! وتعامينا عن قراءة سادة الاستشراف الذين أفادوا بأنّ القادم خمسين آخر أقلّه، وأنّه سيكون مهولا!
ولم يحرّر فرساننا رؤوسهم المدمولة برمال أنَواتهم الظلاميّة! وانتظرنا وقد افترضنا أنّهم لا بدّ وأن يهبّوا فصيلاً عاصفًا يتولّى مهمة إحياء الوعي المتماوت اجتماعيًّا المتمزّق سياسيًّا، والمتهالك علميًّا!! فقد وصلت أقدام الجهل إلى صدر البيت، وبنادق العدوّ مصوّبة نحو رؤوسنا وقوائم مهورنا/آخر فوج يمكن تعليق الآمال عليه بترميم هوية شعب!
البعض قطع إيدو ودار يشحد عليها.. والبعض لصنعة الندب توجّه.. وظلّ الباقون في المكان كأُمّ العروس يدورون.. هنا مجمّع صهاريج تذويب المجتمعات، وإعادة قولبتها بما يخدم العالم المتوحّش! ولم ينجُ ناجٍ حكيم يحرّر رؤوس الأقلام من الفكر الممنتج، أو يقود حملة للتلاقح الثقافيّ مع التيارات المعتدلة! وكيف يتحقّق هذا ما دامت كلّ الأنَوات تحلف: بسيفي وحصاني!؟
وهل من أمل يُرجى، وكلّهم منشغلٌ بتقليب كتب الحرية خاصته؟ أو مقفلٌ على دماغه داخل الخزنة خاصته، أو متعرّمٌ بتسمين الأبقار خاصته، وتدريب كلاب حراسة البيوتات خاصته؟!
أم أنّه يتواصل بالودّ مع الله من أجل حماية الحاشية خاصته؟ أو يروّض ظهره على الانحناء لسلطان السياسة خاصته!؟ هذا الدوران المتواصل حول محاور الأنوات دوّخ الرؤوس وحكم على الأطراف بالتجلّد، وأفقد العيون وجهتها. لكنّ العنف ابن زمانه ظلّ واعيًا متحفزًا للمناطحة، حتى تحوّل في فترة زمنية قياسيّة إلى حاكم بأمره، ليكتب الأفكار المركزيّة لكلّ مقالاتنا العصريّة!!
أما سلطته فمستمدّة من الآلة الحاكمة الحياة عن بعد، حيث لا حاجة لأسياد حكماء يسهرون على شؤون الرعايا، ما دام كلّ فرد عل نفسه سيّدًا! فالحرية حقّ تنصّ دستوره الأنا على بسطة كفها.. فيقرأها السيّد، وبناء عليها يختار الثقافة والتسلية والعلاقات العامّة التي تتفهّم مزاجيّته.. ولا من أهل البيت مَن يقول “للمايله اعتدلي”! فيما يحذّر العالمون العارفون البير وغطاه، من مخاطر السيادة الرق/ميّة الجوفاء! لكنّك
كمراقب متفرّج، أو قاريء متابع، تغادر المسرح حاملًا الخلاصة المؤلمة: جسم أُمتي للمذلّة لبّيس، عائدًا لقول المتنبي حكيم الشعراء: مَن يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه وما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ!
فتمضي مطأطيء الرأس حتى وإن كنت مشرئبّ النفس حاضر الذهن، لتسأل السؤال الموجع: أين الفارس المستعدّ للترجّل عن أناه، فيقلب هذه الصفحة من تاريخنا الخمسينيّ؟ وهل يمكننا أن نحلم بمعلّم مخلّص بطل يعلّم أبناءنا مهارة الفصل بين الرموز والشخوص؟ أو متى نتوب عن تنصيب رموزنا آلهة وهم أنصاف شياطين؟
وإذ تعود إليك تجد أنّك قد خبّأت في سرّك الرمز الذي ألّهت!! وتفتيها: معي حقّ! فهو الذي أذن لعقلي أن يمارس حريته، ولنفسي بلقاء إحساسها، ولروحي بممارسة معتقدها، ولفكري باختيار مساره، وفتح لي أُفق سؤالي: مَن أنتِ يا نفسي؟ وحين أجابت: أنا فيض من إله، لم يكوِ لسانها أو يلوِ أُذنها! حينها ستمتنع عن إنشاء منصة تجيز لك شتم رموز الآخرين، أو الردّ على السفاهة بمثلها!