الدقيق – د. روز اليوسف شعبان

من أجمل الذكريات التي لا زالت تداعب ذاكرتي، مشهد والدتي وهي تجلس القرفصاء حول ״لجن״ الدقيق، تسكب عليه الماء الدافئ وتضيف الملح  وزيت الزيتون وتبدأ بتحريك يديها في الدقيق، ثم تعجنه بكل خفّة.

كنت أراقب يديها وهي تنغرس في كومة العجين تديرها بين يديها تقلبها وتبسطها ثم تجمع بقاياها المتناثرة في “اللجن”، تربّت بيديها عليها وتمسح العجينة بقليل من زيت الزيتون، ثمّ تغطي “اللجن” بغطاء دافئ وتتركه حتى يخمر.

  كنت وأخواتي ننتظر بفرح اختمار العجين؛ فنسارع الى “اللجن”؛ لنساعد والدتنا في عمليّة تقطيعه ورقّه، فنتسابق  في  إعداد الأقراص، التي نتعمّد جعلها صغيرة لنضيف اليها الزعتر ونخبزها منقوشة لذيذة الطعم.

  لكنّ المشهد الأجمل الذي  لا زال ملتصقا في ذاكرتي ويأبى مغادرتها، مشهد عمّتي وهي تعجن العجين الرخو لتُعدّ منه أرغفة رقيقة تخبزها في الطابون.

كنت أحبّ عمتي وأحبّ أن أزورها، وأستمتع بمشهد إعدادها لأرغفة الطابون،  فأجلس القرفصاء بجانبها، أرقبها وهي  تعجن العجين الرخو، وتنقل الرغيف بخفّة من يدها اليمنى إلى يدها اليسرى؛ لتجعله رقيقا، ثمّ تدهنه بالزيت والزعتر وتدخله إلى داخل الطابون، تنتظر قليلا ثمّ تفتح باب الطابون لتخرجه محمرّا شهيّا، فتعبق رائحته الزكيّة في أنفي، ولعلّ هذا يفسّر عشقي للزعتر حتى يومنا هذا.  

 أتناول من عمتي ” السدر” الذي وضعت عليه الأرغفة، أحمله بفرح، وأذهب لأجلس  مع بنات عمّتي  تحت دالية العنب الممتدّة أمام بيتها، نأكل  معا بشهيّة، في حين كانت رائحة الحبق المنبعثة من الأصائص حولنا، تمتزج مع رائحة الزعتر، فتأخذني إلى عالم من الجمال والفرح.

  لكنّ هذا الفرح، تراجع في أيامنا،

  فالمخابز الجاهزة اليوم، وانشغال المرأة في العمل خارج المنزل، دفع الكثير من النساء للتخلّي عن هذا الطقس الجميل، وشراء الخبز من المخابز.

  ذات يوم حين زارني أحفادي، قرّرت أن أعجن أمامهم، وأجعلهم يشاركونني هذا الطقس الجميل، لعلّه يرسخ في ذاكرتهم، فيضفي عليها بعض الفرح.

فتحت خزانة المطبخ لعلّي أجد فيها كيسا من الدقيق، لكنّي لم أجد؛ فقرّرت الذهاب الى الحانوت القريب من بيتي لشرائه.

بقي أحفادي في البيت مع جدّهم، الذي بدأ يحضّر معهم لوازم العجين، في حين كنت أسارع الخطى نحو الدكّان لأعود إليهم بسرعة.

  طلبت من البقّال كيسا من الدقيق، قال لي بصوت  متكدّر: للأسف الدقيق نَفِدَ لدينا.

نفد؟ كيف ذلك؟ وهل ينفد غذاء أساسيّ للإنسان؟

نعم، ولن تجدي دقيقا في كل حوانيت البلدة.

هل أنت جادّ في كلامك؟

طبعا، واذا كنت لا تصدقينني اذهبي وابحثي عنه في جميع المحلّات التجاريّة.

أنا أصدقك، لكنني مذهولة، كيف ينقطع الدقيق؟

لا زلنا ننتظر وصوله إلينا، وحين يصلنا سأبلغك بذلك.

عدت إلى بيتي بخفيّ حنين، وإمارات الحزن والأسى ترتسم على وجهي.

ركض اليّ أحفادي قائلين: أين الدقيق؟ لقد جهّزنا “اللجن” والماء الدافىء والملح وزيت الزيتون.

حضنت أحفادي بكلّ حبّ ومسحت دمعة انزلقت من عيني رغما عني، وقلت لهم:

الدقيق غير متوفّر يا أحبابي، سننتظر وصوله!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*