نحن المخضرمون جماعة من النشّالين المفطورين على النبش في اللا شيء لاستخراج بذرة شيء. عدّتنا حواسّ محدّدة على الدوام، وألبابنا محافظ جاهزة على الدوام. كان الصباح لنا ساعة تدور بين الشمس والتراب، مرورًا بطرُق النحل وسُبل النمل، بحدائق الفراش ومزارع الشوك، بأحواض الورود وملاعب الرياح.. لا نتردّد بقطع المسافة بين الشتاء والخريف مشيًا على الأقدام!
سعيُنا سعي قفير نحل تقوده تلك الغريزة البدائيّة المدهشة، فيستشعر مواقع الرحيق، ويغزوها غزوًا جماعيًّا منظّمًا… بينما تقود غزواتنا الفرديّة والثنائيّة و.. غريزة حبّ معرفة أو استطلاع ما يدور بين تلك الأشياء والأحياء في الرقعة المستهدفة؛ حركة الحياة، نظامها، نشاطاتها.. الكثير منها يتوافق مع هوانا، فنقبض عليه من أطرافه، نتأبّطه ونمضي لنقيم عليه مظلّات لهوانا الجوّال في هذا الحقل المثير! نربض ساعة وساعة نسير. ولا نأوي المساء إلّا وقد حملنا جديدًا.
تمنينا وسعينا واثقين من قدراتنا على الاندماج في عالم العارفين من حولنا. وما إن وصلت الساعة بأقدامنا إلى الصفوف الأولى، وطالت قاماتنا أزاهير الحروف، حتى انتزعنا منها ما يكفي لنسج خامة جديدة لحكاية جديدة. ودخلنا العالم الجديد مستعدّين للتنازل عن قميص وفستان وحذاء العيد، والمحفظة متى لزم الأمر، مقابل الكتاب والدفتر والقلم!
هذه الشراكة الضمنية والفعليّة في دعم أُمنيات الوالدِين، تنسحب علينا أحلامًا متيقّظة تطلّ من نوافذ الليل فرِحة ودودة، فتوقظنا وتستدرجنا حتى تساكننا مساكنة العاشقين! ونلبّي راغبين فرِحين!
كان نهج “ستي” شبه الأُميّ الحكيم ينطوي على رسائل عدّة، منها ما يشير إلى ضرورة إقامة علاقة طيّبة بين الكم والكيف. فاعتمدناها معيارًا وفّر الحصانة اللازمة لأحلامنا ضدّ النكسات. وتكبر الأحلام معنا وفينا متناغمة مع فطرتنا.. فرعيناها ورويناها بالتنقيط من عذب أحاسيسنا، ولقّمناها بالتلقيط ممّا وفّرته أخيلتنا الفجّة من جنبات الواقع، فاغتنينا بها وزهونا.. وانطلقنا لتسييجها بحروف عربيّة، ولمّا أدركنا أن سيجمعها غدًا أو بعده هدف واحد كبير، هو شقّ الطرُق لمستقبل علميّ وثقافيّ يتماشى مع مسار التاريخ. من هنا يشرق مفهوم الانتماء حلمًا مركزيًّا جامعًا الكلّ مستعدّ للشراكة في إنمائه وإعلائه.
في منتصف الطريق تنشقّ قاطرتنا عن الموكب بسبب أعطال فنيّة كثيرة، عدا نقص الإمداد بالوقود العربي! ويتعرّض كبير أحلامنا للتجويع والتعطيش والصدمات الكهربائيّة المتواصلة.. ويبقى القائد والفنيّ وعامل الصيانة في انتظار الإيذان بإصلاح العطل التاريخيّ هذا، من المحطة المركزيّة. وهذه، كما تأكّد لنا، معنيّة ببقائنا على قارعة الزمن حتى نهاية الدهر. لكنّ حلمنا مولود بسبع رواح! فيلازمنا ويمضي معنا على أمل أن نحقّق قفزة إلى الأمام، فنعدّ لنهضة يقودها طاقم من النهضويّين الدارجين صعودًا مع شمس النهضة العربيّة الساطعة. ويقدمون على إنشاء قاعدة متينة للعلم والتعليم لاقت جماهيريّة شعبيّة واسعة. وتدور الأيام بعكس حركة التيّار، فيلتبس علينا مفهوم النهضة، (وهو مشروع جماعيّ) لا يستوي مع واقع الانشقاقات الفكريّة وحساباتها.. والتجاذبات العقائديّة التي تسبّبت بتهلهل عامّ، ومنه كان انبطاح شبه جماعيّ! لكنّنا، ورغم كلّ شيء، نتمنى.. ونحلم. والحلم من الدلالات على أنّنا إنسان يصبو.. ويتطلّع للأفضل.
ويأتي مقال الدكتور محمود أبو فنة في مجلة “شذى الكرمل” الصادرة في كانون أول 2023 تأكيدًا على أنّ حلمنا حيّ يرزق، لكنه بحاجة لمن ينهض به علميًّا وعمليًّا..
تناولتُ المقال بقراءة أوّليّة أيقظت فيّ مواجع واقعنا بين: كان صديقًا للتنوّر.. وصار مجافيًا له أو محايدًا! فأعدتُ قراءته بتمعن شديد متخطية مصداقيّة النظرية وترابطها المنطقيّ، إلى ما بعد بعدها، إلى أسباب اعتلال حصان أحلامنا، وقصوره عن الجري، بينما صهيله يملأ الآفاق!
في مطلع المقال يستعرض الدكتور مجمل حال الأطفال/ فرسان المستقبل، تمهيدًا لربط إشكاليّة انعدام الرغبة.. بالواقع، ويصوّر تصويرًا دقيقًا حال هؤلاء العائمين فوق بحر من الترف المزدوج: الحضانة الأُسريّة الشافية الوافية، وتوفير أدوات التواصل مع العالم التقنيّ قبل بلوغ مرحلة التعلّم ضمن الجماعة. ويرى في هذا التفاعل الآليّ المبكر عاملًا على تسهيل التحرّك في الواقع العصريّ. وهذه وجهة نظر.
أما في المقابل، فيرى الموالون للطبيعة في هذا تجاوزًا صريحًا لسُنن غريزة التطوّر الطبيعيّ، وانحرافًا واضحًا عن مسار الرغبة الفطريّة لاستطلاع المحيط، والتي تبدأ مع التسنين.. وتستكمل مع الجري في دوائر المعارف. فالمعرفة متوالية تتميّز بسياق متلازم مترابط ينطلق من المركز، وهو الهدف، ويتّسع بشكل متسلسل متدرّج.. ويكون الانفلاش خلال المسيرة (الأولى تحديدًا) سببًا مقنعًا للتعثّر برغبات دخيلة أو مفتعلة تسقم الحوافز الفطريّة للاكتشاف، وقد تحكم عليها بالإعدام خنقًا! وهذه إحدى آفات العصر العجيبة، والتي تنتقل بالعدوى من بيت لآخر، ومن حيّ لآخر.
(في سياق متصل يكشف بحث أُجري في التخنيون عن المخاطر التي يجرّها التعلّم من خلال الآلة على أدمغة المتلقّين وحواسّهم، خاصة صغار السنّ.. المقال متوفّر للمعنيّ بالاطّلاع على التفاصيل، وهو ضروريّ للجميع).
أما ضمن إطار المعروض في هذه الصفحة، فمن المرجّح أن تكون كبرى إشكاليات ضمور الدوافع الذاتيّة للتعلّم عائدة لخلل في الموازنة بين الكم والكيف. فالامتلاء العاطفيّ (الواصل أحيانًا حدّ الدلال)، مع الابتلاء الماديّ هو الترف القاتل! فلا لتبريء ” فارة” تحلّي وتسلّي وتعشّي قطط المال! فهي مدانة أولى بتكميش رغبة الطفل للسعي لأيّ هدف خارج عن مسارها.. وهي التي تعده بأن تزوّده، غدًا، بأيّ معلومة شاء، ومتى شاء وبسرعة البرق! مثل هذا الطفل ليس مضطرُّا لبذل أيّ جهد ما دامت السيولة فائضة عن الحاجة، وما دام مستر جوجل موجودًا لخدمته!!(ومن ذا الذي يجرؤ على ضبط سلوكه)؟؟
أما “ستي” الأُميّة إيّاها، فقد شيّعت حكمتها: البطر بعمي البصر(البقر)! فيما أجمع حكماء الصحة على النصح: قمْ عن الطعام وبكً خصاصة، فإنّ الابتلاء من الامتلاء! بينما نحن جميعًا نجتمع على القناعة بأنّ من لا يختبر ساعة من الجوع لا يدرك لذة الشبع.. ومن لا تلويه دقائق من الظمأ لا يستنكه عذوبة الارتواء.. ومن لا يتقلّب يومًا فوق فراش سخّنه الوجع لا يقدّر قيمة العافية. هذا المجاز ينطبق على كلّ ما نتناوله….
ويكبر أحباؤنا نُسَخًا شبه متطابقة؛ موحّدي الزيّ الثقافيّ.. متكافئي الثروات المعرفيّة.. متوائمي الميول.. محصّنين ضدّ آفة الطموح! متحرّرين من أعباء الأحلام الفرديّة والجماعيّة!! معفيْن من الامتحان بمفهوم ” القيمة” أو الهدف! فلا نتوقّع منهم تأليف جبهة لمناصرة حلمنا. بل علينا الاستدارة العاجلة نحو الجذور للنظر في فظاعة الدمار الذي خلّفه الركض هرولة نحو موائد الآلة قاتلة الإحساس بجمال وعَظَمة لوحات الفكر الإنسانيّ!