الرحيل المفاجئ: رثاء المربي المرحوم قاسم محمد حسن حجوج – مصطفى عبد الفتاح

أيَّا كان شكل الرَّحيل فهو صعب وقاس، فكيف إذا كان مفاجئًا ودون سابق إنذار، وكم بالحري إذا كان رحيلًا ابديًا مفاجئًا، لا أخفي سرًا انني لم اكتب كلمة واحدة، منذ اكثر من شهرين، رغم محاولاتي المستمرة، لكن حجم الألم وحجم المآسي الّتي تحيطنا تسد أمامنا كلَّ منافذ الحياة ولا تترك امامنا غير الذّكريات الصمَّاء، او مراجعة تفكير وتعمق في السؤال عن سر الحياة، وسر الخلق وما بعده، ويبقى السؤال معلقًا بين الحياة والموت كما كان، وتبقى انت تلح على عقلك في إجابة قد تريحك.

قبل أسبوعين فقط جاء قاسم “أبو سمير” ومعه ام سمير ليطمأن على صحة زوجتي التي ربما عادت من الموت قبل أسابيع، وفي لحظاتها المصيريّة الصّعبة، شعرت بمعنى الفقد الفجائي، بمعنى النهاية والبداية، بل بمعنى العجز امام يد القدر، ولم اكن اعلم انني ساقف نفس موقف العجز امام ابا سمير.

في لقائنا تحدثنا طويلًا عن المآلات والمصائر، حدثني عن آماله المتجددة، عن بداياته الجديدة بعد التقاعد، عن برامجه المستقبلية، عن سروره بإنهاء عمله، وبدايته لحياة جديدة، انقطعت فجأة، وعن تطلعاته للعطاء بمجال الكتابة والابداع، والانخراط في برامج الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48، فهو عضو منذ سنوات، وهو عاشق للأدب والتراث وهاو لكتابة الشعر والطرفة وله العديد من القصائد التي لم تنشر بعد.

ودَّعني على أمل اللقاء. كم هو حزين ذلك المشهد اليوم، وكم هي الامنيات واللحظات الفاصلة بين الامل والالم قصيرة وقصيرة جدا عندما تمتد يد القدر لتجعل من اللقاء في هذا العالم مستحيلا، هكذا كان أبو سمير يدخل هادئًا ويخرج هادئا ويتركك للذكريات تبتسم لها كلما ذكرته.

بحثت كثيرًا عن كلمات تليق برثائه فلم اجد اصدق من دفاتر الماضي، دفاتر الذكريات التي جمعتنا، قرّرت أن أفتح ملف قديم كتبت فيه عنه منذ أعوام خلت، كتبت سيرته الذاتية بصدق وامانه ورايتها خير تعبير عما افكر به، ويمكن الكتابة اكثر ولكن لكل مقام مقال ورأيت من المناسب ان اكتب لكم ما كتبته من سيرة قاسم منذ عام 2013.

ما أصعب أن تتحدث عن قاسم حجوج، دون أن تتحدّث عن تاريخ كوكب الحديث، وما أصعب أن تتحدث عن تاريخ كوكب الحديث، دون أن تتحدّث عن قاسم حجوج، إنسان يمثل روح كوكب الاصيلة، يمثّل فكرها الأصيل، وعلاقة ابنائها التي لا تنفصم عراها مع تغييُّر الزّمان والمكان. قد تتفق معه وقد تختلف، ولكنَّك لا تختلف عليه ابدًا، يؤمن بالفكر الديمقراطي الحر بكل جوارحه، يقبل الخسارة قبل الرّبح، تنتهي حريته عندما تبدأ حريتك، تحترمه لأنه يحترمك، تقدّره لانَّه يقدّرك ويستمع اليك، يناقشك بالعقل والمنطق، لا يسمح ابدًا للعواطف أن تسيطر على العقل أيًا كانت الظروف.

اذا تحدَّثت عن طفولته، فانَّك تتحدث عن قرية منسية تعيش على هامش التاريخ، تعتمد الزراعة البعلية، وتنتظر الموسم القادم ليشتري أبنائها الجديد، تتحدث عن الفقر والعوز المسيطران على جميع أبنائها، ولكن يجمعهم الحُب الصَّافي لبعضهم ولقريتهم، والرباط الابدي مع الأرض، ومعرفة لغة الأرض كما يعرف كل شبر وكل حجر في زواياها، يتنافس أهلها بينهم على من سيعلم أبنائه اكثر، هذه المنافسة العظيمة بين كبار السّن في ذلك الزّمن، هي التي دفعت بعشرات الاباء لارسال ابنائهم لينهلوا العلم من عاصمة الجليل ومنارة فلسطين النّاصرة ,فكان قاسم حجوج من بين هؤلاء، فنهل العلم وكان عقله ووعيه في العلم، وقلبه وروحه في كوكب، مع الاهل الذين يجمعون المصروف بشق النّفس، وسهر الليالي، فحفظ القيمة ورسم الطّريق له ولقريته، بالعلم نرتقي . كانت كوكب منارة يشار اليها بالبنان بشغف ابنائها للعلم والمعرفة. وقد لخص قاسم حجوج طفولته وما عبرت عنه في ابيات رقيقة من الشعر في قصيدة جميلة نظمها بمناسبة مهرجان الزّجل القطري يقول فيها :

وأنا ابنُك عاشق طيب ثراك        بسر العشق اعترفي وبوحي

ففيك طفولتي وبك شبابي           وفيك بعد أن اقضي ضريحي

اذا طمع الزّمان بك فدتك          عيون نواظري وفدتك روحي

ونسمة شوق هبَّت من ذراك         لردّ الرّوح وشفاء القروح

وان تحدثنا عن فترة الشباب، فاننا نتحدث عن نهضة قرية منسية، تخرج من تحت الركام كالمارد، بهمة وعزيمة أبنائها البررة، الذين خرجوا للعلم وما نسوها ابدًا بل حملوها بقلوبهم وعقولهم وعادوا ليبنوها من جديد، قرية عصرية متطوّرة، قرية من أجمل وأرقى واروع القرى، ليس فقط بطبيعتها الخلابة وجمالها الآسر، بل بأبنائها، بشبابها، بقيمهم، بعلمهم، بتواضعهم، وفي مقدمتهم قاسم حجوج الذي لم يتوان يومًا عن الانخراط في جمعية أو مجموعة أو هيئة هدفها خدمة القرية.

انخرط قاسم حجوج في حياة القرية العامّة، فكان لاعبًا في فريق كرة القدم الأول، والذي تسجل رسميًا للدّوري، وكان عضوًا في إدارة الفريق، كان لهذا الفريق ذكريات خاصّة وعزيزة في نفوس أهالي كوكب، الذين ما زالوا يذكرونه بالخير من خلال الفعاليات، والنّشاطات الكثيرة التي قام بها، ورفاقه في إدارة الفريق، ومنها كان إقامة مهرجان رياضي حافل، وعرض المسرحية الوطنية “اوع تبوس الكلب” ،كما اقيمت العديد من الفعاليات، والاعمال التطوّعية والاجتماعية والثقافية، والمشاركة الجماعية لأعضاء الفريق في مناسبات القرية الاجتماعية، حُلوها ومرّها .وبعدها إلتحق بمدرسة القرية كمعلم ليسد الفراغ الذي تركه المُربي غازي عودة ومحمد حسين ابو الهيجاء لسفرهم إلى الولايات المتحدة الامريكية طلبًا للعلم .

في أواسط السبعينيات، ينتقل قاسم حجوج الى بئر السبع، ليكمل دراسته الجامعية، ويعمل كمدرس في مدارس تل السبع، وقد أعطى ابناء النّقب بالاضافة إلى العلم، الكثير من أخلاقه وقيمه الّتي تربى عليها، فذكروه بالخير، واحتضنوه كإبن وَفيٍّ مُخلص لهم، حتى اصبح في عام 1980 مديرًا في مدرسة راهط الثّانوية، وبقي حتى عودته إلى بلده عام 1982 ليقدّم هنا لشعبه ولقريته كل ما يستطيع من أجل رفعتها وعزها وتطورها فعمل مدرسًا في مدرسة مجد الكروم الثانوية، وهو اليوم في ادارتها وقد قدّم لها الكثير ومن في مجد الكروم يعرف قاسم حجوج واثره على العملية التربوية والحياة الثقافية هناك، وهم يكنون له كل الحب والمودة الصادقة .

منذ عودته الى القرية من رحلة العلم الممتعة  الشّاقة والطويلة، انخرط قاسم في العمل البلدي وفي الحياة السياسيّة في قريته بحلوها ومرها ,عمل بكل جوارحه، من اجل تطور القرية مع اصدقائه ورفاقه، فكانت اولى محطاته بإقامة لجنة عرفت فيما بعد بلجنة ال 17 والتي سعت ونجحت في إقامة سلطة محلّية في القرية عام 1984 وبقرار من المحكمة العليا، وبذلك مُنع ضمها إلى منطقة مسجاف وغيرها أو إلى ايّ مجمع قرى آخر ,كما قامت هذه اللجنة تطوعًا من قبل جميع اعضائها بالعمل الدؤوب والمثابر عل تطوير القرية، بجميع مناحي الحياة، وانبثق عنها الكثير من البرامج التطويرية الهامة .

وانخرط قاسم في العمل السياسي، بانضمامه إلى صفوف الجبهة الديمقراطية، وفي ارساء قواعدها وعضوًا فعّالا في ادارتها منذ ذلك التاريخ، والتي اتخذت الكثير من القرارات وشاركت في العشرات من المحاضرات والندوات والمظاهرات ورفع الشعارات في الاماكن العامة، ورغم حساسية موقعه كمدرس الا انَّ قاسم لم يتوان يومًا عن المُشاركة، والتّفاعل واتخاذ القرارات الهامة والصارمة في حياة قريتنا اليومية، وقاد مع رفاقه مسيرة نضالية مشرقة الى جانب شعبنا الفلسطيني، من اجل التحرر والاستقلال، وقاد القرية بكل فخر واعتزاز اثناء وجود الجبهة في السلطة المحلية، فكان صاحب قرار وصاحب رؤيا وطريق واضح من اجل تقدم شعبنا علميًا ثقافيًا وتربويًا وسياسيًا .

اسهم اسهامًا مباشرًا وكبيرًا في صياغة برنامج العمل، لتنفيذه من خلال السّلطة المحليّة بعد عام 1989 والتي كان من ضمنها قرار انشاء المكتبة العامة. كما قام بادراة وتدريب فريق الشطرنج التابع للمكتبة العامة، والذي لقي سمعة طيّبة ووصل إلى الدّرجة الثّانية في الدّوري القُطري، وهي مرحلة من الصّعب أن يصلها فريق في هذا المجال .

شارك في ادارة مهرجان الزجل، وكان عضوًا فعالًا في اللجنة الشّعبية للمهرجان، وقد قام بعرافة احدى المهرجانات التي لاقت سمعة طيبة عند شعبنا، وفي جميع انحاء البلاد، وقد القى فيه قصيدته المشهورة ” عروس المهرجان ” التي لخص فيها نظرته وحبه الصادق والامين لقريته، والقى قصيدة اخرى تعبر عن الوضع السياسي القائم وعن السلام المهزوز والوضع العربي الرديئ وأُلقيت بمناسبة إحتفال الجبهة بعيد الفطر سمّاها ” عربي في قصر السلام ” يسخر فيها من السياسة العربية، والوضع المأزوم، كما شارك في عرافة الكثير من الفعاليات والنشاطات الاجتماعية والفكرية في القرية، إن كان من خلال المجلس المحلي أو الجبهة

اشترك في رابطة الاكادميين، وكان عضوًا فيها وأسهم من خلالها في اصدار مجلة وادي العين، بالإضافة إلى كونه عضوًا مشاركًا في صياغة كتاب تاريخ كوكب، مع مجموعة كبيرة من الذين جمعوا المواد التاريخية والتراثية ودوّنوا الاحداث والتاريخ الكوكبي في كتاب لم يُذكروا فيه، ولم يُكتب فيه عن دورهم في صياغته فبقي ناقصًا إلى اليوم.

منذ عام 2000 وحتى عام 2008 عمل قاسم حجوج كعضو في المجلس المحلي على ايصال كلمة الجبهة، وكلمة الناس بكلّ امانة وصدق، وعمل على أن يجد القواسم المشتركة بين جميع التيارات السياسية والاجتماعية، من اجل ان تبقى كوكب هي منارة عقولنا وقلوبنا في كل ظرف وفي كل حين.

هذا بعض مما نعرفه عن قاسم، وهذا ما اتحفتني الذّاكرة في تدوينه، قد يكون ما لم نذكره اكبر واكثر، فاتساع الحياة وزحمة المواضيع لا تسمح لنا بان نتذكر كل شيئ. هذا هو قاسم حجوج صفحة ناصعة اسم ينبض صدقًا ووضوحًا في كوكب هو علم من اعلامها في التربية والتعليم، في الصدق والأمانة، في العلم والمعرفة، في الادب والشعر، رحم الله أبا سمير واسكنه الفردوس الأعلى وحفظكم جميعا من كل سوء.

 

تجدر الإشارة إلى أن قاسم حجوج قد رحل عن عالمنا مساء الجمعة 16.12.2023 وبشكل مفاجئ، اثر نوبة قلبية، الكاتب والمربي عضو الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48 ابن قرية كوكب أبو الهيجاء عن عمر ناهز 72 عاما قضى جلها في مهنة التعليم. حيث انهى تعليمه الجامعي في موضوع الكيمياء في جامعة بئر السبع، وبقي هناك عدة سنوات معلما ومديرا في احدى مدارسها وعاد الى الشمال ليدرس الموضوع في ثانوية مجد الكروم التي تكن له كل الود والاحترام والتقدير.

عرف أبا سمير بسيرته الطيبة وباخلاقه الرفيعة، وبتصرفاته المتزنة، وبسلوكه المتواضع والمستقيم التي لا تشوبه شائبة وبمسيرته النضالية محليا وقطريا في صفوف الجبهة الديمقراطية وحافظ على خطه ونهجه ورؤيته حتى نهاية المشوار.

وكان رحمه الله محبا للعلم والمعرفة، عاشقا للغة والتراث، وقد نظم العديد من القصائد والاشعار، وقد نمى وغذى هذه الروح العاشقة للتراث بين التلاميذ وبين معارفه ومحبيه، وانضم الى عضوية الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين دون تردد، رغم شح انتاجه الادبي بسبب التزامه وانشغاله في مهنته مهنة التدريس التي اخذت منه جل وقته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*