“كان طلع عبالي ضُمّ زهره وألب.. وأدِّمُن للعيد عيديّه”!
ومشيت.. الصوت يتبعني: إرجعي! لوين رايحه؟ ارجعي ارجعي!! كنّك ما شفتِ العيد راكب صاروخ من نار وحديد!؟ كنّك ما سمعتِ إنو مسافر عبلاد بعيده بعيده وما فيها حدا؟؟ عبلاد ما بنسمع فيها صدى؟؟ بقولوا يمكن ساكنها العدا! ويمكن حاكمها الردى.. ! يمكِن يكون مخطوف.. يمكِن يكون…!
ومشيت… سلكتُ أقصر الطرق وأسلمها بين ضعف إيماني وقوته، وسريتُ بحذر شديد في رحلة إلى مجاهل يلفّها الغموض.. إلى سماء لا يُرى مداها ولا يُسمع صداها. عجبتُ من إصراري على تتبّع آثار خطى الحكيم ملك المحبة السرمديّ. وعجبتُ من جموحي لا يقف دونه لجام! فهذه مملكة الله! وهو خالق هذا الكون العجيب، مدبّر شؤونه ومنظِّم حركة مراوح أمجاده.. ومواسم أعيادة المهيبة، وأدنى درجات اللباقة الأخلاقيّة، في حضرته، أن آخذ الأمر بالحسبان.
بين قوة ضعفي وضعف قوّتي كدتُ أُضيّع هدفي. تساءلت: أتراني أخوض مغامرة مجنونة؟ أم أنّها مجرّد رغبة باستراحة محارب خارج دوّامة محيط عصره الهائج؟ مهما يكن، فحسبي من الخطوة أن أنفرد بذاتي، وأطيّب خاطرها بنسمة… لكنّ الحكمة تحذّرني من تعظيم ثقتي بالنتيجة.
تواريتُ عن خاطري خلف غيمة مثبّتة ببرج إيماني المتهادي، وانخطفتُ لنوره أتتبّعه.. حتى أبصرته يذرع الأجرام جيئة وذهابًا، شابكًا كفيه من الخلف يسند خاصرتيه، وفي ظهره انحناءة تُبرز حدبة تثقلها عصاً تربط ما بين كتفيه المتعبين، وقد تدلّى من طرَفها الأيسر جراب برزت منه أطراف أوراق بيضاء متآكلة تعزف الريح عليها معزوفة لم أسمع نظيرًا لها.. هتفتُ: ما أحنَّ صدى زفيره! بطرَف العصا الأيمن يتأرجح قلم ممشوق العود، رأسه نجمة متعدّدة العيون، وكعبه مبراة وممحاة وحّدهما الاحتكاك المتواصل بالتراب.. -: يا لَسحر هذا التلاحم بين هاتين الضرّتين!
تحجّرتُ عن السير أستنبتُ إيمانًا داعمًا، ولبثتُ أرقبه حتى جلس القرفصاء، فرك ما بين حاجبيه يمرّر القلم خطّ شفتيه يرافقه نفخ عزف سماويّ الهوى… حملقتُ مترنّحة منبهرة: يا للعظَمة!! الله مرنّم الدنيا بعلوّ مقامه يعزف على آلة هرمونيكا الريش الأرضية!؟
لكن، ما الذي يشغَل صائغ الكون ومهندس عقله وروحه؟ هل مثله، تعالى، يغرق مثلنا بين مشاغله؟ أتراه يتنزّه بين أتراف نعيمه؟ أم يستشفي من ضجرة الوحدة ورتابة أيام السماوات؟
أجواء الرهبة هذه لا تبعث الرِيبة في النفس! فلا نار هنا ولا دخان.. لا عجاج ولا حواجز.. لا أسلاك حديديّة أو أشواك فولاذيّة.. يبدو أنّ جهنّم لا تُرى من هذا البعد! ما أحسن هذا! سأنتزع من الوقت يومًا آخر أُمضيه هنا.
مطمئنة على سلامتي، واثقة من عظيم أبُوّته، رقّته ولطفه كلّ الثقة، دنوتُ منه خطوة لأستأذنه البقاء، وإذ، فجأة، يحيط به لفيف من الملائكة يصطفّون حلقات ويرنّمون: “المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام.. وللناس المسرّة”.
تخشّبتُ لحظة قبل أن أنخرط في الأجواء مهلّلة: ما أطيب العيش في منازل السلام ودنيا المسرّات!! وسرعان ما استدركت: سلام؟! تُرى أيّ سلام يعنون؟ وبأيّ مسرّة يتغنَون؟ واستدرتُ أُتمتم: لعلّ هؤلاء الأبرار يجهلون حقيقة ضيق الأرض بالسلام.. وعقمها عن ولادة المسرّات! يبدو أنّهم منذ زمن بعيد بعيد لم يقرأوا صُحف الأرض أو بريدها الإلكتروني. فكيف، إذاً، يتحقّقون من سلامة الجنة التحتى؟؟ من يُعلِمهم أنّ جند الشيطان قد استولَوا عليها من أقاصيها لأقاصيها، وحوّلوا أربع جهاتها إلى ثكنات حربية، وجعلوا من منازله ومعابده خانات.. متاجر.. وبسطات.. ومصاف.. ومن روابيه منصّات مظلّلة بغيوم لا تمطر إلّا دماءً ودخانا؟
زحفتُ أستجمع ثقتي حتى تجرّأتُ واقتربتُ خطوة أخرى كدتُ معها أُلامس أُذنه، فتماديتُ واستأذنته بشأن إطلاعهم على واقع “جنّتنا”. ولم أسمع ردّه، وقد لوى على لسانه النعاس، حتى أطبق عيونه وراح في غطيط لولاه لظننتُ السرمديّ قد دخل في غيبوبة!
ليّل العتم سطوح الأعالي وأُطفئت مصابيح السماء، فنام العالم في أحضان الملائكة.. والله/ روح الزمان يتردّد وصدى التسبيح في كياني: ألمجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة! فجأة تيقّظت متسائلة:
هل يكون العيد قد غادرنا قاصدًا هذا النعيم؟؟
لجمتُ شعوري بالذنب لأنّني فضضتُ هذا الغلاف المحرّم، واقتحمتُ عالم المقدّسات العليا! وبتُّ أستعجل انزياح خيمة المبيت لكي أعترف لقدسه وأُعلن توبتي. سأنتظر. ولكن، ما الذي يجعل ربّ الكون الساهر منذ الأزل ينام كما البشر؟
فاض في الليل نوره إشراقًا تلحّفته أُعظّم السلام في روحي.. فتسلّلتُ إلى ابتسامته، ونمتُ فيها حتى الصباح.. وكان رباح! يا لَلنعيم! منذ الطفولة لم أهنأ بنوم آمن كهذا.. منذ الشباب لم أُشاهد مرور فرق الأحلام تغنّي بانسجام كهذا!! حسنًا فعلتُ وقد بيّتُّ الليلة هنا، فقد أتمكّن من استراق فرصة للحديث مع جلالته بخصوص تدمير مملكته الدنيا. هذا ما سأهتمّ به، ولكن بعد انقضاء زمن استراحته. وهكذا كان.