يقول الفيلسوف العربي ابن خلدون في مقدّمته: “إنّ حقيقة التاريخ أنّه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم” ويعني بذلك أن الحياة المدنيّة هي أساس التاريخ، وليس تاريخ السياسة والملوك والحروب، بل هو في الحقيقة جميع أنشطة البشر العاديّين من فكريّة واقتصاديّة واجتماعيّة.
جاءت الرواية التاريخيّة لتُعبّر عن واقع تاريخيّ في خيال الروائي ليتّخذ من الأحداث ركيزة لإيصال رسالته بنصّ أدبيّ بعيد عن التكلّس في سرد الوقائع التاريخيّة التي تأتي جافّة، فهي عمل فنيّ يتّخذ من التاريخ مادّة خامّ للسرد الروائي يشوبها الخيال والإبداع دون الالتزام بحذافير الأحداث، حيث تحمل تصوُّر الكاتب عن المرحلة التاريخيّة وتوظيفه لهذا التصوّر في حديثه عن ذلك العصر، فيتخّذ من التاريخ مرجعًا وركيزة لحبكته الروائيّة، ممزوجة بالخيال والإثارة.
وها هو أحمد الحرباوي يكتب لنا في رواية “احتضار عند حافة الذاكرة” (133 صفحة، صورة الغلاف: Viktoria Haack/ Trevillion Images ، تصميم الداخل: ماري تريز مرعب، تحرير ومتابعة: رنا حايك، الصادرة عن نوفل، دمغة الناشر هاشيت أنطون، ومن مؤلّفاته: “أمرُ من السُكر”، “في كانون يموت الحب حياً “و”خيانة مقدسة”)، تجربة مبنية على ذاكرة مدينة مُحتضرة، لملمها من حكايات نعيمة وزُلفة وعائكة والصفيّتين (الحرباوي والدويك) ودهبة ورِفقة ونسيبة وغيرهن؛ وحكايا أهل البلد الأصليّين المنسيّين.
جاء “الإهداء” صادمًا: “إلى مدينة سرق الوشاة رداءها ووضعوه فوق سرير مُدنّس ليوهمونا بأنّنا أولاد الخطيئة.
نحن أبناءها المُجهضين إلّا من الأمل.
سنبقى نبحث عن ملامحنا المُبعثرة حتّى في احتضارنا عند حافة الذاكرة”.
يحاول الاحتلال تجيير التاريخ والجغرافيا، الزمان والمكان، بخطى حثيثة يوميّة محاولًا تهميش الحقيقة وطمسها وجاء أحمد ليقولها بصريح العبارة؛ احتضنت الخليل كل الأطياف والأديان، قبل أن تصبح قضيّة ونزاعاً، قبل الوعود والمؤامرات والتحالفات بين قوى أجنبية بتواطؤ محليّ، نتاج جهل أو تجهيل أو مع سبق الإصرار لمصالح شخصيّة آنيّة.
تصوّر الرواية التحوّلات في الخليل في نهايات الحكم التركي للبلاد، رفض التتريك، وبداية الانشقاق العربي نحو حركات التحرّر.
برع الحرباوي بوصفه للخليل في الزمن الجميل، بأزقّتها وحاراتها، شجرة التوت باب البيت، والأواني الفخارية والبريموس، وطراز البناء والأثاث المستورد، وعادات الخليل وأهلها: “قطع حبل السُرّة لإبنِك” وغيرها، أكلاتها وطقوس الأكل، صناعة الدبس والمربَّى الخاص بشتى أنواع الفواكه التي تُزرع في جبال الخليل، وخاصَّة مربَّى السفرجل والعنب والمشمش، والكُسبة.
كما تطرق الحرباوي إلى “العنصرية” في المجتمعات الفلسطينية كما ورد في الصفحة (25) “بدي ألعن أبوها بنت الفلاحة عاملة حالها مدنية وستّها خواجاية بطرابلس، بدها تفضحني قدام الخواجات “؛
ويصف الفقر والجوع والظلم الذي يحيق بالعرب.
وصفه للأحداث السياسية والاجتماعية في الخليل ما بين العام 1914 إلى غاية العام 1953،
تطرّق إلى الديانات ودور الرهبان والحاخامات في تَشَكّل اللجان الشعبية، تحدثت الرواية أيضاً عن حكومة الاتحاد والترقي وتحالفها مع الصهيونية، وسياساتها القمعية ضد العرب وبينهم الفلسطينيون، حيث أي مناهض لهاتين الجهتين، كما حال “إيلي” اليهودي الخليلي الذي انتهى به الأمر شنقاً على يد “الأتراك” هو و”المختار” المسلم الخليلي والعشرات في إحدى ساحات بيروت، كما لم يغفل الحديث عن “السفربرلك”، أي التجنيد الإجباري في الجيش العثماني.
تناول استغلال الكنيس من أجل الحديث عن هيرتزل وأحلام الدولة اليهودية بدل الصلاة، وتكفير إيلي ولئا واتهامهم بالعمالة لحساب المؤسسات التبشيرية الأجنبية بسبب آرائهم السياسية ومواقفهم ورفضهم للصهيونية ومخططاتها (كان “إيلي” ومن ثم “المختار” (مختار الخليل)، من أبرز المطلوبين للحكومة العثمانية ذات الصبغة الصهيونية، كونهما يرفضان مخططات الجهتين المتمثلة بفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين على مصراعيها، والسماح لليهود بالتملك دون قيد أو شرط، والعلاقة القويّة التي تربط الاتحاديّين وناشطي الحركة الصهيونية.
سرد حُرّ وسَلِس؛ إذ تبدأ أحداثها مع العام 1914 وحتى عام 1953، ويتناول بجرأة دور اليهود: حوانيت خياطة في مدينة الخليل، محلّات الصياغة، إعطاء القروض بالربا، تمامًا كما وصفها شكسبير في مسرحيّة تاجر البندقيّة وبطلها شايلوك (ص. 41). المختار مأخوذ بتلك الحسناء، ورجال الأعمال المسلمون مأخوذون بليالي الخميس في الفنادق “يأتون في الخفية من أجل الشرب والطرب، وكيف ينفقون على البنات مبالغ طائلة مقابل اللهو… وكيف أنّهم، وهم في الفراش، تسقط تلك الهيبة التي يذلّون بها الناس من خلال مناصبهم المدنية والعسكرية، أو حتى القائمة على الوجاهة والعائلة، في دقائق معدودة، بين فخذي حسناء يهودية صغيرة في السن” (ص. 36) وهيك راحت البلاد.
يرتكز الحرباوي على التراث الشفهيّ وقصص وحكايا سمعها من الكبار، تحكي تلك الأيام، ونجح بتوظيفه العامية والمحكيّة الخليليّة لتقريبها للمتلقّي ولأجوائها زماناً ومكاناً، وهو ما فعلته تلك الأهازيج الخاصة والأغنيات التراثية بمنطقة الخليل، التي كان لها حضورها اللافت بتوظيف ذكي، يُسمعنا أحمد هذه الأهازيج التي شكّلت متن الرواية ورافعة لها؛ شيفرا تفك رموزها، وجاء استعماله للهوامش موفّقًا.
ويبقى حلمنا بالهجرة معشّشًا “يأمل بالسفر بعيدًا لما وراء المحيط، في بلاد لا تعامله حسب معتقده أو اسم أمّه”!
وأخيراً؛ أخذني “مقهى بدران” الذي جاء ذكره عدّة مرّات، وسبق أن كتب عنه وحدّثني عن طقوسه الصديق الأسير أيمن الشرباتي (المواطن) وكتب عنه في كتابه “أسرى وحكايات” ممّا جعلني أزوره لأعيش أجوائه.
***مداخلتي في ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية يوم الخميس 26.05.2022