فيروز في زمن الحرب حاجة… وفي زمن السلم مكرُمة… – عفيفة مخول- خميسه

فيروز في مئذنة السلام رنين منذور لصوت الحياة بشغفها وحبها وهواها.. وصبوتها وهيامها.. قامة تبصرها الحياة بطولها وعرضها، مرتفعاتها ومنخفضاتها.. وتلحظها بظرفها العفوي ولطفها وعفّة روحها.. وتبارك غضبها واندفاعها وحماسها.. وتثني على انحيازها الساطع الصريح لانتمائها لوطن السلام الأكبر والأصغر.

فيروز مدوَّنة للتاريخ تُقرأ فيها روايات الوطن الكريم بمساراته وتنقلاته بين بيادره وطواحينه، كرومه ومعاصره، متاحفه ومعابده، ومكتباته ومناجمه الفكرية…  وأسطحه المعرّشات، ولياليه المقمرات والساجيات، ومواقده الناعسات والساهرات… ولا يمّر بالذكر مرور الكرام في ملاعب أحلامه الجوريات وميادين آماله المزنّرة بالمواويل والموشحات.

كل هذا وأكثر وتسمعها ” إن سعيد عقل حكى”، تسمع، تصغي، تتأمّل، تختار وتغني: بحبك ما بعرف هِنْ قالولي! هذا اللقاء السّامي العفيف بين الروح وجسدها في لحظة تجلٍّ شاعريّة يسكت الكلمة. هذه الغمزة عابرة الحدود الغامضة بين هوى الجسد وعشق الروح توقظ المداعبات النائمة بين الغزل والصلاة، فتُنَيّم التعابير عن بلاغتها!

هذا التناغم العجيب بين إيقاعات الذات البشرية يصوّر بعدًا يتسع لخيرات الحب المغزول من فكرٍ مهذّب وخيالٍ طيّار. بين هذا السعيد الذي يهتدي لفكره من خلال قلبه، ولإحساسه من خلال عقله، علاقة جوهرية عميقة بمن الّفت بين الفكر والإحساس وجعلت منهما منصّة للتأذين للاهوت مثلث الأبعاد يعزّز قدسية الحب والخير والجمال. إنه تجسيد لعظمةٍ بنكهةٍ شعبية واقعية بالغة السلاسة، البساطة والتلقائية.

أغنية حسمت موقفي فقدّمت أوراق اعتمادي الفكر/حسية لمملكة الحب الربّانيّ، وقد وقفت على سر ميلان روحي للقطب الشمالي من الدنيا. وكنت على مدى عقود أحاول تتبع أسباب هذا التطرّف، وألومني …حتى أُستدرج إلى حيث بدأ الوعي يحبو خلف الجمال المحسوس والفرح المسموع. إنه، إذًا، انخطاف لجغرافيا العاطفة، لا لجغرافيا الأرض. وكان ترسيم لأحد امتدادات انتماء جيل بأمه وأبيه! ما أدهى العقل الباطن وأصدقه!

بين 11/21 ذكرى ولادة صوت المحبة، و11/27 ذكرى رحيل سعيد عقل الفكر عن عامين وقرن (2014-1912) تسكت الترنيمة لحظة تأمل، لترهف أجراس السلام لحظات. وتدوّن الحقيقة في ملفاتها: إن مسألة الموت والحياة لا يفسدان لجوهر عظمة الإنسان قضية.

شو صار لو شلح الورد عتختها؟! لا شيء! شو همّ كانوا صغار! رغم القلائل ووشوشات والجيران، حتى وإن قالوا : “عميضحك عليها” ….تسمعها تطلب من الحبيب: حّد قلبك هيك خليني ويخبروا حكايتنا الجيران (يبلطوا البحر)! ! هذا تأكيد على أن أمواج الحب ستبقى تعلو مع الزمان كبرًا يصبو لشاطئ السلام حيث تستكين له الحياة رغم الضجيج… ويتكرس البحر الفيروزيّ كاتم أسرار العشق الأرض/سماويّ العاقل العظيم. ويتأكد للمتتبع مديات التأذين للسلام الداخلي الذاتي أن ملائكة الجنة الأرضية طلاب محبة فرح وحرية. هذا هو الثالوث القائمة عليه قدسية الحياة مترجمة بكلمة وصوت ووتر. وحسبنا من هذه الحالة حفيف سنبلة كرست لتوثيق العلاقة بين السامع ونفسه توثيقا صادقًا يحرر النفس من العدائية للآخر تحررا جذريا.

هذه فيروز الفرح حافظة أسرار كل نفس لا يتقوقع الغزل في أذنها هذه، متى دخل النعي والرثاء من الأخرى.. ولا تنطوي الترنيمة والموّال في اذنه هذه، متى دخل الأزيز من الأخرى. سعي للحياة وإقدام لا تقعده الكدرات. لذا أجمعَ على حبها الرضّع والأطفال والشيب والشباب من كلا الجنسين وفي اللحظة ذاتها، أينما كانوا وفي أي ظرف اجتماعي أو معيشي.. فهم يتناغمون مع من تغني حكاياتهم اليومية ليس الّا.

هذة حالة ضمن الحالة العامة الموصولة بذاك البعث الكبير. وكان قد انطوى خريف عثماني طويل، وهرّب الله لنا تحت قصف القرن المسعور شتاءً مطيراً دام هطله عقودا، فروى الربوع السورية رياً عميقاً، وفجّر ينابيعها الثقافية حتى الأطراف. فيضان غمر حقول الإنتاج الإبداعي فأثمر فناً راقياً تمدّد حتى أزال الحدود الجغرافية بين أقطار أعادت للضاد الحقّ برسم تضاريسها النهضويّة من النهر إلى النهر. وعادنا الزمان بربيع عبِق نوّر ألقاً في الجسم العاطفكري المشرقيّ. وتدفقت في قنوات سمعه أدبًا زاهرًا زاخرا نظيمًا ملحنًا مغنًى استرجعت المنطقة به عباءة مجدها المنهوب. وتلاه صيف تبلورت فيه ذرات الحروف في وجدان الجماعة قانون إيمان متجدد بفرح الحياة كحقّ شرعيّ موروث. وتوهج الوطن الأكبر بمرجعياته على ألوانهم، على الرغم من شدة الظلمة!

فسعيد عقل إن حكى وأترابه، وأحمد رامي إن نظم وترجم، وكل رواد الفكر النافذ المتنور… وعبد الوهاب والسنباطي وفريد الأطرش و..و.. إن دوزن وقسَّم، وكل من مسّ الأذن بالوتر المرهف.. وإنّ فيروز إن هدلت وأم كلثوم إن هدرت وصباح إن كركرت و.. وكل من دغدغ بالموال خد صخرة أو نسّم جبين كدرة، فقد أثرانا، وما علينا ان نترفّع عن المفاخرة بوزناتنا النوعية المكتسبة، وهي تعادل حمولة جمل من الامتيازات. وكفانا من كل هذا انّا اصطبغنا وجدانيًا وعاطفيًا بصبغة فيروزنيلية وحدت ألوان جلودنا، وخصبت الأحلام في نفوسنا، فاندمجت تحكي قصة سريان الروح في شرايين الحياة المشرقية.

كان هذا ترفا مسترقا من ضمير قرن” ضامر” عالسبعة ونص.. وكشف العصر عن أوراقه.. وبات ترف الأمس لليوم حاجة نفسية اجتماعية وروحية أساسية كحاجة الجسد للخبز والماء

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*