- مَسيرَتُكَ حافِلَةٌ بالإِنْتاجِ الأَدَبيّ… كَتَبْتَ الشِّعْرَ والقِصَّةَ القَصيرَةَ، وأَخيرًا كَتَبْتَ الرِّوايَةَ، كَيفَ كانَتِ البِدايَةُ؟ هل أَدْرَكْتَ حينَ بَدَأْتَ الكِتابَةَ أَهَمِّيَّةَ أَنْ يَكونَ الإِنْسانُ أَديبًا؟
أَنْتَ أَديبٌ يَعْني أَنَّكَ قَدْ بَنَيتَ مَشْروعًا أَدَبِيًّا عِمادُهُ اللُّغَةُ أَوَّلًا، والثَّقافَةُ الواسِعَةُ ثانِيًا، وحُبُّ العَمَلِ الأَدَبِيِّ ثالِثًا. أَمّا اللُّغَةُ فَهيَ كَالحِجارةِ لِلْبّنّاءِ، بِدونِها لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَبْنِيَ ولو بَيتًا صَغيرًا، مَع فارقٍ كَبيرٍ، ومِن دونِ الدُّخولِ في التَّفاصيلِ؛ اللُّغَةُ كَلِماتٌ، والكَلِماتُ رُموزٌ لَها ما وَراءَها مِنْ مَدْلولاتٍ وصُوَرٍ وإيحاءاتٍ.. وأَمّا الثَّقافَةُ فَهْيَ الَّتي تُعْطِي الأَدَبَ القيمَةَ الحَقيقِيَّةَ لِيَرْتَقي ويَدْخُلَ في خانَةِ الأَدَبِ. وحُبُّ الأَديبِ لِعَمَلِهِ تَمامًا كَفَراشِ السَّاعَةِ الَّذي يَمُدُّ عَقْرَبَيها بِالحَرَكَةِ الدّائِمَةِ. أَمّا البِداياتُ فَتَخْتَلِفُ بينَ أَديبٍ وآخَرَ، أَذْكاهُم مَنْ آمَنَ بِأَنَّ الأَدَبَ لا يَأْتي مِنْ وادي عَبْقَرَ، ولا يَسْقُطُ مِنَ السَّماءِ! بَلْ يَأْتي بالاجْتِهادِ الذاتِيِّ وبِالاسْتِفادَةِ مِنْ تَجارِبِ الأُدَباءِ المُبْدِعينَ، والأَخْذِ بِنَصيحَةِ نَقَدَةِ الأَدَبِ وتَّنْبيهِاتِهِمْ وتَوجيهاتِهِمْ لِيَسْهُلَ عَلَيهِ صُعود شِعابِ الأَدَبِ الوَعِرَةِ.
أَوَّلُ تَماسٍّ بَينَ قَلْبي ولُغَتي العَرَبِيَّةِ كانَ يَومَ دَخَلَ عَلَينا غُرْفَةَ الصَّفِّ السّادِسِ الابتِدائِيّ أُسْتاذي وصَديقي المَرحومُ الشّاعِرُ مُنيب مَخّول بِزِيِّهِ العَرَبِيِّ/الكوفِيَّةِ والعِقالِ، وبِطَريقَتِهِ الفَريدَةِ في إِلْقاءِ الشِّعْرِ.. ولا أَنْسى أُسْتاذي وصَديقي في دِراسَتي الثَّانَوِيَّةِ الشّاعِرَ المَرحومَ شَكيب جَهشان، الّذي بِذائِقَتِهِ الأَدَبِيَّةِ الرّاقيةِ، عَلَّمَني رَونَقَ الكَلِمَةِ، وطَلاوَةَ العِبارَةِ.. وأَمّا الصَّديقُ المَرحومُ الشّاعرُ سالم جُبْران فَقد خَصَّني بِمَقْعَدٍ مُمَيِّزٍ في مَدْرَسَتِهِ الأَدَبِيّةِ/ المَدْرَسَةِ الواقِعِيَّةِ الاشْتِراكِيَّةِ الحَديثَةِ… ومُتَّفَقٌ عَليهِ أَنَّ المَوهِبَةَ، مَهْما كانَتْ مُتَوَقِّدَةً، إِذا لَم تَخْضَعْ لِلِصَّقْلِ والتَّشْذيبِ والتَّهْذيبِ فَلَنْ توصِلَ الأَديبَ إِلى المَقاعِدِ الأُولى لِيَجْلِسَ بَينَ الأُدَباءِ المُبْدِعين.
مُحاوَلاتي ألأُولى في كِتابَةِ القِصَّةِ القَصيرَةِ وفي نَظْمِ الشِّعرِ لَمْ تَزِدْ عنْ كَونِها كِتاباتٍ إِنْشائِيَّةً.. ولكِنْ سُرعانَ ما بَدَأَتْ هَذِهِ الكِتاباتُ تَروقُ لِلْقُرّاءِ خاصَّةً قُرّاءَ صُحُفِ الحِزْبِ الشُّيوعي (الغَدّ والجَديد والاتِّحاد) صُحُفِ الحِزْبِ المُناهِضِ لِمَظالِمِ الحاكِمِ الصُّهيوني الجاثِمِ على صُدورِنا نَحْنُ العَرَبَ في هذا الوَطَنِ المُنْتَزَعِ من بَينِ أَيادينا انْتِزاعًا.. المُتَجَذِّرِ في قُلوبِنا! وحينَ تَرَسَّخَتْ قَدَمايَ على شارِعِ الأَدَبِ الطَّويلِ عَرَفْتُ أَنَّ الكَلِمَةَ سِلاحٌ.. وعَرَفْتُ أَهَمِّيَّةَ أَنْ تَقولَ لا في وَجْهِ ظالِمٍ حَتّى لو كانَ طاغِيَةَ الطُّغاةِ! وعَرَفْتُ أَيضًا أَنَّ الأَديبَ الحُرَّ لا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ مُحايدًا أَو لا مُبالِيًا بِما يَدورُ حَولَهُ مِنْ أَحْداثٍ.. الأَديبُ الّذي تَقودُهُ نَرْجِسِيَّتُهُ، ولا هَمَّ لَهُ سِوى اللُّهاثِ وراءَ الشُّهْرَةِ لَيسَ أَديبًا، وما يَكْتُبُهُ لا يَزيدُ عنْ كَونِهِ تَرَفًا كَلامِيًّا، وقَدْ يولَدُ هذا الكَلامُ مَيِّتًا!
- ولِدْتَ قَبْلَ النَّكْبَةِ (1945)، تَرَعْرَعْتَ وكَبِرْتَ في قَرْيَةٍ جَبَلِيَّةٍ جَميلَةٍ، وما زِلْتَ تَعيشُ فيها حَتّى لَيَكادُ القارئُ أَنْ يَشُمَّ رائِحَةَ نَباتِها وأَشْجارِها تَفوحُ من أَشْعارِكَ… ما سِرُّ هذا العِشْق؟
وُلِدْتُ لِأَبَوَينِ فَلّاحَينِ فَقيرَينِ (فَنْدي وزَيْدَة) في بَيتٍ تُرابِيٍّ مَبْنِيٍّ بِهَنْدَسَةٍ غَشيمَةٍ، لكِنَّها عَمَلِيَّةٌ لِفَلّاحٍ عَرَفَ كَيفَ يَلُمُّ عائِلَتَهُ ودَوابَّهُ وأَعْلافَها وأَدَواتِ عَمَلِهِ تَحْتَ سَقْفٍ واحِد. كانَتْ أُمّي تَقولُ لي ساخِرَةً من صَبايا وُلِدْنَ (لِزَمانٍ غِيرِ زَمانِها) ومِنْهُنَّ زَوجَتي: في حَزيرانَ وبَعْدَ يَومِ حَصادٍ شاقٍّ وَلَدْتُكَ وكانَتْ رائِحَةُ التُّرابِ لا تَزالُ عالِقَةً على ثِيابي! لَكَأَنَّ بَعْضَ هذا التُّرابِ التَصَقَ بِجِسمي يَومَ وِلادَتي؛ وكَأَنَّ أُمّي، من غَيرِ أَنْ تَدْري، تُريدُ أَنْ تَقولَ لي: مِنَ التُّرابِ وإِلى التُّرابِ تَعود.
أَحْبَبْتُ قَرْيَتي.. وكَيفَ لا أُحِبُّها وهْي قَرْيَةٌ فِلَسْطينِيَّةٌ بِامتياز!! كَيفَ لا أُحِبُّها وجِبالُها شُموخٌ وخُضْرَةٌ وراعٍ وشَبّابَةٌ وقَطيع.. بَساتينُها جَوزٌ ولَوزٌ وعِنَبٌ ورُمّانٌ وتينٌ وصَبّار.. مُروجُها حاصِداتٌ وقَنابِرُ وسَواسِنُ وقَمْحٌ وشَعير.. سَماؤُها حَساسينُ ويَمامٌ وشَحارير.. صَباحُها سَعْتَرٌ وفَيجَنٌ وأَنْسامٌ من عَبير.. مَساؤُها رَوازِنُ ودُخانٌ ورَوائِحُ طَهْيٍ وابْتِهالاتُ مُؤمِنين.. أَهْلُها يَشْرَبونَ المَحَبَّةَ من عَينِ مائِها، ويَرْتَدونَ الطّيبَةَ من ظِلِّ شَجَرةِ توتٍ تَتَوَسَّطُ ساحَتَها.. هذِهِ هي قَرْيَتي الَّتي أَراها بِعَينِ طِفْلٍ ما زالَ يَسكُنُنُي، وكُلَّما زادَتْني الأَيّامُ ضَعْفًا، ازْدادَ هو قُوَّةً حَتّى أَصْبَحْتُ لا أَرى (بُقَيعَةَ) اليَومِ، ولَمْ يَبْقَ لي مِنْها سِوى عَرائِشِ دَواليها على أَسْطُحِ الدّورِ، وتوتَتِها الخالِدةِ، وأَسْرارِ خَلَواتِها، وأَجْراسِ كَنيسَتِها أَيّامَ الآحادِ والأَعْياد.. تُرى بِهذا أَكونُ قد وصَفْتُ قِطْعَةً مِنَ الجَنَّةِ، أَو ما شُبِهَ لَها؟! ……رُبَّما!
- ما مَدى تَأْثيرُ النَّكْبَةِ والنَّكْسَةِ على أَدَبِنا العَرَبِيِّ الفِلَسْطينِيّ؟ تَمُرُّ الأَيّامُ والسُّنونَ وأَدَبُنا يَنْهَلُ من هذينِ الحَدَثَينِ دونَ تَوَقُّف. هل تَعْتَقِدُ أَنَّنا يَجِبُ أَنْ نَطْرُقَ اليَومَ مَواضيعَ جَديدَة؟
إِنَّ تَأْثيرَ النَّكْبَةِ، ومِنْ بَعْدِها النَّكْسةُ، على أَدَبِنا العَرَبِيِّ كانَ بِحَجْمِ الحَدَثَينِ! ما مَعْنى أَنْ تُهْدَمَ قُرىً ويُقْتَلَعَ شَعبٌ أَعْزَلُ مِنْ وَطَنِهِ، والعالَمُ يَقِفُ صامِتًا مَشْدوهًا إِلّا مِنْ أَصًواتٍ خَجولَةٍ ارتَفَعَتْ هُنا وهُناكَ، وقَراراتٍ ظَلَّتْ حِبْرًا على وَرَقٍ في أَرْشيفاتٍ أَصْبَحَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا؟!
أَدَبُ تِلْكَ المَرحَلَةِ، مَرْحَلَةِ النَّكْبَةِ، والشِعْر خاصَّةً، تَنَوَّعَ وتَنَقَّلَ ما بَينَ لَومٍ وعِتابٍ وبُكائِيَّاتٍ على جَنَّةٍ ضائِعَة.. تَلا هذِهِ المَرْحَلَةَ أَدَبُ الحَنينِ الى الوطَنِ مَعَ الكَثيرِ مِنَ الأَمَل.. وصارَتْ كُلَّما مَرَّتْ سَنَةٌ كُلَّما انخَفَضَ مَنْسوبُ الأَمَل بِحَلٍّ قَريبٍ لِقَضِيَّةٍ الظّالِمُ فيها يِزْدادُ ظُلْمًا، والمَظْلومُ يَزْدادُ شَقاءً وانطِواءً على جُرْحِهِ المَفْتوحِ الّذي ظَلَّ يَزْدادُ عُمْقًا واتِّساعًا سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ… في النَّكْسَةِ- والصَّحيحُ، في الهَزيمَةِ لِأَنَّها تَحْمِلُ كُلَّ مَقاييسِ الهَزيمَةِ- جاءَ الأَدَبُ مُحْتَجًا ومُعارِضًا ومُقاوِمًا عِنْدَنا هُنا في الوَطَنِ.. هذا لا يَعْني أَنْ تَظَلَّ النَّكبَةُ البِئْرَ الّتي نَنْشُلُ مِنْها ماءَنا.. فَمِنْ حَقِّنا أَنْ نَكْتُبَ قَصائِدَ فَرَحٍ نُهْديها لِشَعْبِنا بِمُناسَبَةٍ وبِدونِ مُناسَبَة.. وإِلّا سيَكونُ الواحِدُ مِنّا مُغْمَضَ العَينينِ كَثَورِ الطّاحونِ يَدورُ حَولَ الرَّحى.. يَدورُ ويَدورُ ولا يَرى ضَوءَ النَّهارِ بَلْ ظُلْمَةً تَنْضافُ الى ظُلْمَةِ اللّيل!
- حسين مهنّا يَعْشَقُ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ ويَحْرِصُ عَلَيها حِرْصَهُ على بَيتِهِ.. ماذا تَقولُ لِلشُّعَراءِ الشَّباب؟ ماذا تَعْني اللُّغَةُ بِالنِّسْبَةِ لَكَ كَأَديبٍ ومُثَقَّف؟ هَلْ يُقْلِقُكَ حالُ اللُّغَةِ اليوم؟
لَا أَقْصِدُ الإِساءَةَ لِأَحَدٍ إِنْ بَدَأْتُ إِجابَتي بِنَعَرَةٍ شوفينِيَّةٍ فَأَقولُ: إِنَّ لُغَتَنا العَرَبِيَّةَ مَلِكَةُ الجَمالِ بَينَ اللُّغاتِ. فَهيَ بِأَحْرُفِها وحَرَكاتِها وسَكَناتِها ومُحَسِّناتِها تُعطي جَرْسًا قَلَّما نَسْمَعُهُ في اللُّغاتِ الأُخْرى؛ لِأَنَّها قبْلَ كُلِّ شَيءٍ هي لُغَةٌ تَعْبيرِيَّةٌ تَصْويرِيَّةٌ، غَنِيَّةٌ بِمُفْرَداتِها/رُموزِها الّتي عَدَدُها ومِنْ دونِ تَكْرارٍ أَزوَدُ عَنْ اثنا عَشَرَ مليون مُفْرَدة؛ (الإِنْجليزِيَّةُ مَثَلًا 600 الف والفَرَنْسِيًّةُ 150 ألفا والرّوسِيَّةُ 130 ألفا)… هذِهِ اللُّغَةُ أَخَذَتْ مِنَ الصَّحْراءِ رَحابَةَ صَدْرِها، وقَساوَةَ شَمْسِها وحُنُوَّ واحَاتِها، وبُهْمَةَ لَيلِها وحَنينَ نوقِها وبَطْشَ فُرْسانِها، فَجاءَتْ رَقيقَةً لَيِّنَةً حينَ لا يَنْفَعُ إِلّا الرِّقَّةُ، خَشِنَةً قاسِيَةً حينَ لا يَنْفَعُ إِلّا القَسْوَة.. ولَيسَ المُهِمُّ ما نَقولُهُ لِلشُّعَراءِ الشَّبابِ بَلِ المُهِمُّ أَنْ يَقْبَلوا بَعْصَ ما نَقولُهُ لَهُمْ في زَمَنٍ قَدْ أَصْبَحَ النَّثْرُ شِعْرًا، والنَّظْمُ في أَعْرافِهِم صارَ بِضاعَةً قَدِ انتَهَتْ مُدَّةُ صَلاحِيّتِها؛ خاصَّةً وأَنَّ بَعْضَ الشُّعَراءِ والأَساتِذَةِ الكِبارِ يُهَلِّلونَ لِما يُعْرَفُ بِ (قصيدة النَّثر)! مَعَ أَنَّ لِكُلٍّ منَ الشِّعْرِ والنَّثْرِ خُصوصِيّاتِهِ المُحَبَّبَة… ماذا نَقولُ لَهُمْ في هَذِهِ الفَوضى الخانِقَة؟ قد نَسْأَلُهُمْ أَينَ قَصائِدُنا الغِنائِيَّةُ الّتي حَمَلَتْ أَفْراحَنا وأَتْراحَنا وأَشْواقَنا على جَناحَينِ من وَزْنٍ وقافِيَةٍ ودَخَلَتْ صالوناتِ الشٍّعْرِ العالَمِيِّ وجَلَسَتْ حَيثُ لا يَجْلِسُ سِوى الخالِدين. القَصيدَةُ العَرَبِيَّةُ نَوعانِ (وهذا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ غَيرُ مُلْزِمٍ لِأَحَدٍ): قَصيدَةُ الشَّطْرِ، أَي المَوزونَةُ المُقَفَّاةُ، وابْنَتُها الشَّرعِيَّةُ أَي قَصيدَةُ السَّطْرِ، وهيَ قَصيدَةُ التَّفْعيلَةِ. أَمّا ما حادَ عن ذلِكَ فَهْو نَصٌّ نَثْرِيٌّ جَميلٌ لا يَقصُرُ عَنِ الشِّعْرِ قامَةً.
وأَمّا اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ فَبِالنِّسْبَةِ لِي هي إِعْزازي بِقَومِيَّتي.. هيَ هُوِيَّتي.. وهيَ قَميصٌ أَرْتَديهِ تَحْتَ قَميصي، بِدونِهِ أَحِسُّ أُنَّنِي أَسيرُ عارِيًا.. ولا خَوفَ عِنْدي عليها لا اليَومَ ولا غَدًا مِن لُغَةٍ في طَورِ البِناءِ كَالعِبْرِيَّةِ مَثَلًا.. كَيفَ وقَدْ مَرّ عَلَيها ما مَرَّ مِنْ فاتِحينَ وهيَ هِيَ تَأْخُذُ ما تَشاءُ مِنَ لُغاتِهم، فَتَهْضُمُهُ وتُعَرِّبُهُ؛ ولا تَصُدُّ مَنْ يَأْخُذُ عَنْها، وفي الحالَتَينِ هيَ الرّابِحَةُ.
أَقولُ: ما دامَتْ لُغَتُنا العَرَبِيَّةُ تَلْبَسُ قُرآنَها تاجًا ومُعًلَّقاتِها قِلادَةً ورَوائِعَ مُتَنَبّيها وفَلْسَفَةَ مَعَرّيها سِوارَينِ عَلى مِعْصَمَيها؛ فَلا خَوفَ عَلَيْها مِنْ خَلاخيلَ مُسْتَورَدَةٍ تُزَيِّنُ بِها ساقَيها.
- في قَصائِدِكَ الكَثيرُ مِنَ الحُزْنِ والقَلَقِ والخَوفِ مِنَ الآتي… ما سِرُّ هذا القَلَق؟ أَلَا مَكانٌ لِلْفَرَح؟ هل هي الظُّروفُ الخاصَّةُ أَمِ الظُّروفُ العامَّة؟
الفَرَحُ والحُزْنُ تَوأَمانِ مُتَشابِهانِ/ مُخْتَلِفانِ؛ فَإِذا تَوَجَّعْنا وَبكَينا دَمَعَتْ عُيونُنا، وإِذا فَرِحْنا وضَحِكْنا دَمَعَتْ عُيونُنا أَيضًا! فَهَلْ لِلْفَرَحِ دُموع؟ أَقولُ، وبِدونِ تَفْكيرٍ طَويلٍ: نَعَمْ! فَرَحُنا نَحْنُ العَرَبَ الفِلَسْطينيّينَ مَنْقوصٌ دائِمًا.. فَإِذا بَنَينا دورًا جَديدَةً تَذَكَّرْنا أُخْوَةً لَنا في الشَّتاتِ يَسَكُنونَ خِيامًا، أَو أَكْواخًا من تَنَكٍ لا تَقيهِمْ حَرَّ صَّيفٍ ولا بَردَ شِّتاءٍ. وإِذا اشْتَرَينا مَلابِسَ جَديدَةً لِأَطْفالِنا، تَذَكَّرْنا أَطفالًا من شَعْبِنا يَتَوارَثونَ القَميصَ الواحِدَ منَ الأَخِ الكَبيرِ الى الأَصْغَرِ فَالأَصْغَرِ…! هَلْ خُلِقْنا- نَحْنُ الفِلَسْطينِيّينَ- مُحاصَرينَ، من دونِ خَلْقِ اللهِ، بِحُزْنٍ مُقيم! وأُسْأًلُ: لِماذا أَنْتَ حَزين؟ أَقولُ: وأَينَ الفَرح؟! لَو كانَ حُزْني نَتاجَ ظُروفٍ خاصَّةٍ لَهانَ الأَمْرُ، فَلِكُلِّ عُقْدَةٍ ولَها حَلّالٌ كَما يقولُ مَثَلُنا الشَّعْبِيُّ، لكِنَّهُ حُزْنٌ مُقيمٌ ما لَمْ يَسدْ هذا العالَمَ سِلمٌ وعَدْلٌ.. ولا يَبْقَى (مَنْ لا يَمْلِكُ يُعْطي مَنْ لا يَسْتَحِقّ!) والحَديثُ هُنا عَنْ بِلادٍ اسْمُها فِلَسْطين.. عَنْ بِلادٍ لَها سَماءٌ وأَرضٌ وشَمْسٌ وقَمَر.. الحَديثُ هُنا عَنْ وَطَنِ شَعْبٍ أَكَلَتْهُ السِّعْلاءُ ولَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوى ما لَمْ تَسْتَطِعْ هَضْمَهُ.. نَحْنُ جيلُ الهَزائِمِ.. والهَزيمَةُ تَبْقى ذُلًّا ما لَمْ تَرْتَفِعْ راياتُ العَدْلِ المُنْتَظَر.. والعَدْلُ المُنْتَظَرُ لا يَأْتي بالاسْتِخْذاءِ بَلْ يُسْلَخُ سَلْخًا من جُلودِ المُغْتَصِبين! وما دُمْتُ في أَواخِرِ العُمْرِ فَمِنْ حَقّي وحقِّ جيلي أَنْ نَعيشَ في زَمَنٍ أَفْضَلَ فَنَشْرَبَ قَهْوَتَنا على مَهَلٍ، ونَذْهَبَ الى شُؤونِنا على جَذَلٍ، ونَجْلِسَ مَعَ أَحْفادِنا لا يَخْدِشُ فَرَحَنا طَيفُ طِفْلٍ مُشَرَّدٍ مِنْ أَطْفالِ هذا العالَمِ القاسي وفي المُقَدِّمَةِ أَطْفالُ فِلَسْطينْ.
- أَعْتَقِدُ أَنَّ شِعْرَكَ لَمْ يَنَلْ ما يَسْتَحِقّ… هَلْ لَدَيكَ ما تَقولُهُ لِلنُّقادِ والدّارِسين؟ أَمْ أَنَّكَ راضٍ عَمّا كُتِبَ عَنْك؟
لَيسَ مِنْ بابِ التَّواضُعِ أَقولُ إِنَّ مَشْروعيَ الشِّعْرِيَّ قَدْ نالَ لِلآنَ ما يُرْضيني، فَشِعاري مُنْذُ البِدايَةِ كانَ ولا يَزالُ (أَقْرَأُ وَحْدي، وأَكْتُبُ وَحْدي، وأَتْرُكُ لِلْأَيّامِ..) ثُمَّ العِبْرَةُ ليسَتْ بكَثْرَةِ مَنْ يَكْتُبونَ، بَلْ بِمنْ يَكْتُبُ، وماذا يُكْتَبُ. وأَكْثَرُ ما يُرْضيني في ما كُتِبَ عَنْ شِعْري أَنَّهُ ليسَ وَليدَ عَلاقَةٍ مَعَ مَنْ كَتَبَ أَو بِطَلَبٍ مِنّي إِلَيهِ – الأَمْرُ الدّارِجُ هَذِهِ الأَيّامِ – بَلْ جاءَ وَليدَ تَفاعُلِ النَاقِدِ بِالمادَّةِ الأَدَبِيَّةِ الّتي قَرَأَها. هذا هُوَ النَّقْدُ الجادُّ الَّذي يُعْطي النَّاقِدَ الحُرِّيَّةَ الكامِلَةَ، والمُتْعَةَ والإِبْداعَ أَيضًا في عَمَلِهِ النَّقْدِيّ…أَشْكُرُ كُلَّ الّذينَ وَجَدوا ما شَدَّهُمْ في شِعْري فَكَتَبوا.. وشُكْري الجَزيلَ لِجامِعَةِ الأَزْهَرِ/ غَزَّة، وأَساتِذَتِها لِتَبّنّي دِراسَتَي ماجِسْتير هامَّتَينِ عن شِعْري.. الأُولى بِعُنْوان (شِعر حسين مهَنّا) إِعْدادُ الطّالِبَةِ افتِتان مُحَمَّد إِسْماعيل مُحْسِن كَسّاب وبِإِشرافِ الأُستاذِ الدُّكْتور (اليوم بروفسور) مَحَمَّد البوجي سَنَةَ 2014.. وأَمّا الثّانِيَةُ فَهي بِعُنْوانِ التَّناصُّ في شِعْرِ حسين مهنّا لِلْباحِثِ الفِلَسْطينِيِّ أَحْمَد أَبو عيشَة بِإِشْرافِ الأُسْتاذ الدُّكْتور فَوزي إِبْراهيمِ الحاجّ سَنَةَ 2019.
- إِلى أَيِّ مَدىً يَسْتَطيعُ الأُدَباءُ أَنْ يُؤَثِّروا في المُجْتَمَع؟ لَقَدْ عَلَّمَنا التّاريخُ أَنَّ بَعْضَ الأُدَباءِ والفَلاسِفَة قَدْ تَمَكَّنوا من تَثْويرِ المُجْتَمَعِ ضِدَّ الظُّلْمِ والاسْتِبدادِ، كَما تُشيرُ الى ذَلكَ الثَّورَةُ الفرَنْسِيّةُ على سَبيلِ المِثال؟ ما رَأْيُكً؟
رَحِمَ اللهُ زَمانًا كانَ الشِّعْرُ فيهِ عَدا عَنْ كَونِهِ لُغةَ العُشّاقِ، كانَ التَّعْبيرَ الأَرقى عِنْدَ الخُطَباءِ مَثَلًا، فَكانوا يَفْتَتِحونَ خِطاباتِهِمْ، أَو يُذَيِّلونَها بِبَيتٍ مِنَ الشِّعر؛ مُعْتَقِدينَ أَنَّ لِلشِّعْرِ تَأْثيرًا خاصًّا على المُسْتَمِعينَ، وكانَ الشّاعِرُ، حَيثُما وُجِدَ، يُرْشَقُ بِنَظَراتِ الاحْتِرامِ والإِعْجابِ النّابِعَينِ مِنْ مَكانَةِ الشّاعِرِ عِنْدَنا مُذْ كانَ صَوتَ القَبيلَةِ، ويومَ كانَ الشُّعَراءُ مُقَرَّبينَ مِنَ الخُلَفاءِ كَي يَكْتُبوا المَدائِحَ فيهم، أَو يَهْجوا شانِئيهِمْ، ولا تَزالُ أَطْرافُ هذهِ الظّاهِرَةِ ماثِلَةً الى الآن ولو بِشَكْلِها الأَدْنى.. لا يَذْكُرُ تاريخُنا العَرَبِيُّ أَنَّ الأَدَبَ كانَ سَبَبًا لِإِشْعالِ ثَورَةٍ ما؛ – إِلّا إِذا كانَتِ الذّاكِرَةُ قَدْ شاخَتْ وأَنا لا أَدْري! – لكِنَّ غالبِيِّةَ الأُدَباءِ كانوا في طَليعَةِ الحَرَكاتِ التَّقَدُّمِيَّةِ الثورِيَّةِ، على سَبيلِ المِثالِ لا الحَصْر (ثَورَة 36 وقَصائد نوح إبراهيم). قَدْ تَكونُ الثَّورَةُ الفَرَنْسِيَّةُ مِثالًا فَريدًا في ظُروفٍ قَلَّما انْوجَدَتْ عِنْدَ الشُّعوبِ المَقْهورَةِ الأُخرى إِذْ كانَ قادَةُ الثَّورَةِ الفَرَنْسِيَّةِ مِنَ الطَّبَقَةِ البُرْجُوازِيَّةِ، وهي الشَّريحَةُ القارِئَةُ آنَذاكَ، وهي الّتي أَوصَلَتْ شِعاراتِ الثُّوّارِ كَالحُرِّيَّةِ والعَدالَةِ وما الى ذلكَ الى عامَّةِ الشَّعْب، فَاسْتَجابَ وثارَ ومارَ.. مُطالِبًا آل بُوربون بِالخُبْز.. والخُبْزُ لا يَأْتي إلّا إِذا سادَتِ العَدالَةُ الاجْتِماعِيَّة..
- لا تَسْتَطيعُ أَنْ تَتَحَدَّثَ عنِ الشِّعْرِ الفِلَسْطينِيِّ دونَ ذِكْرِ الشّاعِرَينِ مَحْمود دَرويش وسَميحِ القاسِم، كَيفَ تَرى مُسْتَقْبَلَ الشِّعْرِ عِنْدَنا؟ هل يُقْلِقُكَ حالُ الشِّعْرِ والشُّعَراء؟
لا آتي بِجَديدٍ إِنْ قُلْتُ: إِنَّ (مَحْمود دَرْويش وسَميح القاسِم) شاعِرانِ مُبْدِعانِ واكَبا الجُرحَ الفِلَسْطينِيَّ فَجَعَلاهُ قَضِيَّةً إِنْسانِيِّةً بِما أَعْطَياها مِنْ شِعْرٍ إِنْسانِيٍّ. كَونُهُما أَبْرَزَ اثْنَينِ لَمْ يَمْنَعْ بُروزَ شُعَراءَ مُهِمّينَ مِثْلِ راشِدِ حسين وسالِم جُبْران وتَوفيق زَيّاد وحَنّا إِبْراهيم وشَكيب جَهْشان… في تِلْكَ الفَتْرَةِ.. بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ شُعَراءُ ثَبَّتوا أَقْدامَهُم على السّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ وظَلّوا أَوفِياءَ بِكِتاباتِهِم لِمَنْ سَبَقوهُمْ بِتَقْديمِ أَدَبٍ يَليقُ بِالقَضِيَّةِ ويُعْلي شَأْنَها.. أَو على الأَقَلِّ بِالحِفاظِ على مُسْتَوى شِعْرِنا الفِلَسْطينِيِّ المَحَلِّيِّ.. سُئِلْتُ مَرَّةً: كَيفَ تَرى الشِّعْرَ بَعْدَ غِيابِ الشّاعِرِ مَحمود دَرويش؟ قُلْتُ: الشِّعْرُ في غِيابِهِ كَالشِّعْرِ في حُضورِهِ.. بِمَعْنى أَنَّ الشِّعْرَ لا يَغيبُ بِغِيابِ شاعِرٍ مَهْما علا شَأْنُهُ؛ لو كانَ السُّؤَالُ عَنْ شاعِرِيَةِ الشّاعِرِ وحُضورِهِ الشِّعْرِيِّ لاخْتِلَفَ الأَمْرُ.. أَسوقُ هذا الكَلامَ وعَيني وقَلْبي على حالَتِنا الأَدَبِيَّةِ الآنَ وَما حَلَّ بِها مِن تَدَنِّي المُستَويَينِ: الإِبْداعي والفَنّي مِنْ ناحيةٍ، واللُّغَةِ – صَرْفًا ونَحْوًا – مِنَ النّاحِيَةِ الأُخْرى.. لا أُريدُ أَنْ يُفْهَمَ من كَلامي أَنَّ على الأَديبِ أَنْ يَكونَ (سيبَويهِ) عَصْرِهِ، ولكنْ عَلَيهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ أَخْطاءً قَدْ نَجِدُها عِنْدَ طُلّابِ المَدارِسِ الثّانَويَّةِ.. أَعْتَقِدُ أَنَّ ما يُعَرَّفُ بِقَصيدَةِ النَّثْرِ، وإِساءَةَ فَهْمِ الشُّعَراءِ الشَّبابِ لَها سَبَبٌ مَرْكِزِيُّ في تَرَدِّي الشّعر، حتّى إِنَّ بَعْضَ الكُتّابِ قَدْ تَحَوَّلوا عَنِ النَّثْرِ الى الشِّعْرِ. كَيفَ لا؟ والواحِدُ مِنْهُمْ يَكْتُبُ لا وَزْنٌ يُعيقُهُ ولا قافِيَةٌ تَسُدُّ عَلَيهِ طَريقَهُ عِلْمًا أَنَّ الأَوزانَ الشِّعْرِيّةَ والقَوافي، وَحْدَها، لا تَصْنَعُ شاعِرًا. الشّاعِرُ المَطْبوعُ يولَدُ شاعِرًا.. تَمامًا كَأَيِّ فَنّانٍ يِحْتَرِفُ الفَنَّ. ولا عُذْرَ عِنْدي لِشاعِرٍ يَقولُ لي إِنَّ الميديا الحَديثَةَ قَدْ أَكَلَتْ كُلَّ قَديمٍ، وجَعَلَتْ منَ الصَّعْبِ سَهْلًا، ناسِيًا أَو مُتَناسِيًا أَنَّ شَبَكاتِ التِّواصُلِ الاجْتِماعِيِّ لَيسَتْ المَكانَ المُعَدَّ لِلْأَدَبِ.. لا.. ولا تَصْنَعُ أَديبًا!
- انتَمَيتَ لِلْحِزْبِ الشُّيوعيِّ، وتَرَعْرَعْتَ في بيئَةِ المُوَحِّدينَ من بَني مَعْروفٍ… ماذا أَخَذْتَ من هذينِ الفِكْرَين؟
انتِمائِي لِلْحِزْبِ الشُّيوعي لَمْ يُبْعِدْني عَنْ بيئَتي التَّوحيدِيِّةِ إِلّا بِالمَدى الأَقَلِّ بُعْدًا.. فَالوَصِيَّةُ الأُولى في العَقيدَةِ التَّوحيدِيَّةِ هي صِدْقُ اللِّسانِ والثّانِيَةُ حِفْظُ الإِخوان، ثُمَّ النَّهيُ عَنْ اقتِرافِ الكَبائِرِ، كالقَتْلِ والزِّنى والسَّرِقَةِ والحَسَدِ وشُرْبِ الخَمْرَةِ وكُلِّ ما يُذْهِبُ العَقْلَ.. والإيمانُ بِالعَقْلِ مِنَ الثَّوابِتِ التَّوحيدِيّةِ، فَهْوَ قَبَسٌ مِنَ العَقْلِ الكُلِّيِّ الَّذي هو الله. العَقيدَةُ التَّوحيدِيَّةُ ظَهَرَتْ في بِدايَةِ القَرنِ الحادي عَشَرِ الميلادي، وكانَ الفِكرُ العَرَبِيُّ قَدِ ازْدَهَرَ وأَثَّرَ في الدّاعينَ إِلَيْها، فَجاءَتْ تُخاطِبُ العَقْلَ والوِجْدانَ مَعًا.. وجَدْتُ هذا التَّخاطُبَ عِنْدَ أَبي، فَإِلى جانِبِ أَدائِهِ الفُروضَ الدّينِيَّةَ كانَ يَقْرَأُ كُتُبًا تاريخِيَّةً/ فَلْسَفِيَّةً (مُقَدِّمَة ابن خَلدون..) مَثَلًا؛ وأَدَبِيَّةً (جواهِرُ الأَدَب، الأَغاني..) وكُلَّ كِتابٍ كانَ يُثيرُ حُبَّ الاسْتِطلاعِ عِنْدَهُ.. مِن هُنا كانَتْ البِدايَةُ، فَإِيماني عَنْ طَريقِ عَقْلِي جَعَلَني أَرى المُشْتَرَكَ بَينَ العِلْمِ والعَقيدَة. فَإِلى الَّذينَ يَرْجُمونَنا- نَحْنُ الشُّيوعِيّينَ- بِالإِلْحادِ صَباحَ مَساءَ أَقولُ: إِنَّ الإِيمانَ بِاللهِ أَو عَدَمَ الإِيمانِ بِهِ لا يَأْتي بِقَرارٍ مِنْ سُلْطَةٍ أَو حِزْبٍ بَلْ هُوَ طَقْسٌ ذاتِيٌّ يُمارِسُهُ كُلُّ إِنْسانٍ على طَريقَتِهِ. تَعَلَّمْتُ مِنَ العَقيدَةِ التَّوحيدِيَّةِ حُبَّ الوَطَنِ والعَدالَةَ الاجْتِماعِيَّةَ ونُصْرَةَ المَظْلومِ وَحِفْظَ الجيرَةِ والجارِ.. وغَيرَها… وَغَيرَها؛ وقَدْ وجَدْتُ هذا في الأَدَبِيّاتِ الشُّيوعِيَّةِ، فَجاءَتْ مُعْظَمُ قَصائِدي وَطَنِيَّةً أُمَمِيَّةً وِجْدانِيَّةً تَتَغَنّى بِحُبِّ المَرْأَةِ الوَطَنِ، وبِالانْتِصارِ لِشَعْبِيَ المَظْلومِ، ولِكُلِّ شَعْبٍ مَظْلومٍ في هذا العالَمِ.
- قُلْتَ لي في أَحَدِ لِقاءاتِنا إِنَّكَ قَرَّرْتَ التَّوَقُّفَ عَنْ قَولِ الشَّعْرِ لِتَتَوجَّهَ أَكْثَرَ نَحوَ الرِّوايَة… لِماذا؟ هل جَفَّ نَبْعُ الشِّعْرِ؟ أَمْ أَنَّ هُناكَ دَوافِعَ داخِلِيَّةً نَجْهَلُها؟ ما هي مَشاريعُكَ المُسْتقْبَلِيّةُ؟ ماذا تُعِدُّ ولِماذا؟
لِلْحَقيقَةِ أَقولُ: إِنَّ نَبْعَ الشِّعْرِ عِنْدي لَمْ ولَنْ يَجِفَّ! إِذ كَيفَ يَجِفُّ ورَبَّةُ الشِّعْرِ ما زالَتْ تَسْكُنُ قَلْبي وعَقْلي!؟ هي الّتي تُقَرِّرُ لي مَتى أَجْلِسُ لِأَكْتُبَ، وهي الَّتي تُمْلي عَلَيَّ الكَلِماتِ إِنْ كَانَتْ شِعْرًا أَمْ نَثْرًا. ما كُنْتُ لِأَخْطُوَ هذهِ الخُطْوةَ لَو لَمْ أَجِدْ نَفْسي راضِيًا عَمَّا كَتَبْتُ من قَصائِدَ في الحُبِّ والوَطَنِ على مَدى نِصْفِ قَرْنٍ وأَكْثَرَ، وما كُنْتُ لِأَقَعَ في خَطَإ شُعَراءَ نَشَأْتُ على رَوائِعِهِمْ، بَحَثْتُ عَنْهُمْ في قَصائِدِهِمْ الَّتي كَتَبوها في أَواخِر أَيَّامِهِمْ، فَلَمْ أَجِدْهُمْ فيها! لَمْ أَنْقَطِعْ عَنْ كِتابَةِ النَّثْرِ يومًا، ونَثْرِيَّاتي كانَتْ تُراوِحُ ما بَينَ المَقالَةِ الأَدَبِيَّةِ والقِصَّةِ القَصيرَةِ والنُّصوصِ الأَدَبِيَّةِ والرِّوايَةِ – وهذِهِ كانَتْ أَوَّلَ تَجْرِبَةٍ لي، وأَرْجو أَلَّا تَكونَ بَيضَةَ الدّيكِ – رُبَّ سُؤالٍ يُطْرَحُ الآنَ، أَلا تُبْعِدُكَ الكِتابَةُ النَّثْرِيَّةُ عَنِ العائِلَةِ كَما يَفْعَلُ الشِّعْر؟ أَقولُ: بَلى.. لكِنَّ قَلَقَ الشّاعِرِ الدّائِمَ يُقْصيكَ عَنْ كُلِّ شَيءٍ الى أَنْ يُنْجَزَ العَمَلُ الشِّعْرِيِّ.. القَصيدَةُ مِزاجِيَّةُ الطَّبْعِ، قَدْ تَزورُكَ وأَنْتَ في مِزاجٍ لا يَتَلاءَمُ مَعَ مِزاجِها، فَإِنْ لَمْ تُطِعْها لَعَنَتْكَ وهَجَرَتْكَ ولاتَ حينَ عَودَةٍ! النَّثْرُ عِنْدِي لا يَقِلُّ مَرْتَبَةً عَنِ الشِّعْر! بَلْ أَراني لا أُبالِغُ إِنْ قُلْتُ إِنَّ شاعِرِيَّةَ الشّاعِرِ (تُقاسُ) بِنَثْرِهِ لا بِشِعْرِهِ… ولا أَدْري لِماذا لا يَزالُ الكَثيرونَ يَنْظُرونَ الى النَّثْرِ وكَأَنَّهُ أَقَلُّ مَرْتَبَةً مِنَ الشِّعْر!!! مَشاريعِي الكِتابِيَّةُ لا أَسْتَطيعُ تَحْديدَها ولا التّحَكُمَ بِقِيادِها، وهيَ، أَصْلًا، عِنْدي بِنْتُ القَضاءِ والقَدَرِ.. أَمّا المَشْروعُ الَّذي أَسْتَطيعُ التَّحَكُمَ فيهِ فهو مُجالَسَةُ شَريكَةِ حَياتي (مُنيرة) بَينَ بَناتي وأَبْنائي وأَنْسِبائِي وحَفيداتي وأَحْفادي تَوّاقًا الى تِلْكَ السّهَراتِ العائِلِيَّةِ الدّافِئَةِ حَيثُ لا يَخْلو الحَديثُ مِن الجِدِّيَّةٍ حينًا؛ ومن هَزْلٍ قَد يَصِلُ حَدَّ السَّخافَةِ حينًا! ….. هذا إِذا ما زالَ في سِراجِ العُمْرِ بقِيّةٌ من زَيت…!
- حوار أجريته مع المرحوم الأديب حسين مهنا ونشرته في كتابي “حوارات في الفكر والأدب”، 2021.