يأخذني موسم الزيتون الذي أنتظره كلّ عام بفارغ الصبر، إلىطفولتي السعيدة، حين كنت أذهب مع أسرتي إلى كرم الزيتونالمشترك بيننا وبين أعمامي. كنت ألتقي هناك مع أبناء وبناتأعمامي، نساعد عائلاتنا في قطف الزيتون، ونخصّص بعضًامن الوقت للّعب على الأراجيح التي كنّا ننصبها على جذوع الأشجار. وبين الفينة والأخرى، كانت تنبعث نكات أعماميوزوجاتهم، فنضحك جميعا، وتختلط الأصوات والضحكاتببعضها البعض، لتعزف لحنا خاصًّا لموسم القطاف.
عند الظهر كنّا نفترش جميعا الأرض، تضع أميوزوجات أعمامي ما أحضرنه من طعام وشراب وحلوى مما لذّوطاب، تتسابق الأيدي إلى الأطباق فنأكل بشهيّة وفرح، ثمنعود لمزاولة عملنا في قطف الزيتون.
اجتمعت وأفراد أسرتي ذات صباح في كرم الزيتون الذيورثته عن والدي– رحمه الله–؛ لنتفقّدَ أشجارَنا ونزيل الأعشابالضارّة التي نبتت حولها؛ لنضمن قدوم موسم مثمر ومباركبإذن الله. كان أحفادي الأربعة: مجيد جون باسل وألما، أكثرنافرحا، فقد انطلقوا في الكرم يركضون ويمرحون بحريّة، كانتأصوات ضحكاتهم تنعشنا؛ فتبعث الأمل في نفوسنا؛ فنزدادنشاطا ونعمل بجدٍّ في تعشيب الكرم.
شيئا فشيئا بدأت أصواتهم تخفت، قلت لأولادي بقلق: لاأسمع صوت الأحفاد. أين ذهبوا؟
قال ابني: هم هناك في الكرم المجاور يلعبون، انا أراهم منأعلى الشجرة.
تركت العمل وذهبت لأطمئن عليهم، وجدتهم يلتقطون حبّاتالفول الأخضر ويضعونها في قبعاتهم.
تساءلت في نفسي باستغراب: كيف نبت الفول في الكرم؟ منقام بزراعته؟ ألا يعلم زارعه أنّ نبات الفول يضر بالأشجار؟
قلت لأحفادي: هذا الفول ليس لنا، ولا يجوز لكم التقاطه.
قال حفيدي مجيد: هي بضعة حبيبات يا جدتي، لم نكن نعلمأن هذا الكرم ليس لنا. سامحينا!
قلت له: حسنا، عودوا للعب في كرمنا، وأنا سأقدّم اعتذارالجيراننا أصحاب الكرم.
عاد أحفادي معي وبدأوا يلعبون في حبّات الفول الأخضر، تارةً يصنّفون حبّات الفول إلى مجموعات حسب حجمها،وطورًا يعملون منها بيوتًا.
قلت لهم: ما رأيكم أن يصنعَ كلُّ واحد منكم قلادةً من الفول؟
قلادة من الفول؟ قالت حفيدتي جون باستغراب.
قلت لها: نعم يا حبيبتي. حين كنت طفلةً كنت وأخواتيوإخوتي نعمل قلائدَ من الفول الأخضر ونشويه في الطابونونأكله بعد شيّه، فهو لذيذ جدًّا.
كيف كنتم تصنعون القلائد يا جدتي؟ سأل حفيدي مجيد.
كنّا نحضر إبرة وخيطا، نغرسهما في طرف حبّة الفول، ثمندخل الإبرة في باقي الحبات وهكذا حتى تصبح لدينا قلادة،فنأخذ القلائد إلى جارتنا لتشويها لنا في الطابون، ففيالماضي لم تكن هناك أفران من الكهرباء، وكان الناسيستعملون الطابون للطبخ والخبز والشواء.
وما هو الطابون يا جدّتي؟ سأل باسل.
وهو مدفون في الأرض الطابون غرفة صغيرة سقفها منخفضومدخلها صغير للمحافظة على الحرارة في الداخل،
ومصنوع من الطين الأصفر المخلوط بالقش وله غطاء من حديد. كان يستعمل الطابون من الداخل للخبز والطبخ وشواء الباذنجان وتحميص حبوب القهوة، أما “ساس الطابون” وهوالجدار الخارجي المغطى بالرماد (السكن) فيستعمل لشيالبطاطا والكستناء والبلوط والفول.
جدتي نريد أن نصنعَ قلائدَ من فول، أرجوكِ ساعدينا فيذلك!
حسنا يا جون، لكنّي أخشى عليكم من الضرر والأذى منالإبرة؛ فلا زلتم أطفالا ولا يجوز لكم اللّعب بالإبرة.
حسنا يا جدتي اذن اصنعي لنا انت القلائد. قال أحفادي بصوت واحد.
أمري لله. سأجهّزها لكم. أخذتُ استراحةً قصيرةً من العمل،أحضرتُ إبرة وخيطا من حقيبتي ، وبدأت بتحضير القلائد لأحفادي. وضعتُ في عنق كلِّ واحدٍ منهم قلادةً. فرحوا جميعا بالقلائد وبدأوا بتقبيلي.
ثم قالوا لي بصوتٍ واحد: متى سنشوي قلائدَ الفولِ في الطابون؟
لم يعُد وجودٌ للطابون في قُرانا يا أحفادي، إذ حلّ محلّه الفرن الكهربائيّ، وعندما ننهي عملنا في الكرم، ونعود إلى البيت، سأقوم بشيّ الفول لكم في الفرن. تابعت عملي فيتعشيب الكرم، في حين كان أولادي يقنّبون الأشجار بعناية.
عادت بي الذكريات الى طفولتي حين كنتُ أجتمع معصديقاتي في أيام الشتاء الباردة، في غرفة الطابون؛ نتدفأونشوي البطاطا والفول والحمص، نتحدّثُ ونضحكُ ونقضيأوقاتًا ممتعةً معًا.
ذهب الماضي الجميلُ ولم يبقَ لنا منه سوى الذكريات وسرد الحكايات.