مع كتاب: “لمّا إمّي تحكيلي” – سمير أبو الهيجاء
مطبعة كفر قاسم، ط1، 2022
د. محمود أبو فنّه
قرأت الكتاب مرّتين وأكثر، وقد تأثّرت وتفاعلتُ بالعديد من الأحداث والمواقف التي وردت في الكتاب، وهذا ما حفّزني للكتابة عنه.
جاء الكتاب لينقل الرواية الشفويّة لأمّ تتحدّث عن سيرتها منذ طفولتها وحتّى شيخوختها المتأخّرة، وهو يتناول عرضًا للأحداث التي عاشتها الأمّ في ثلاث محطّات رئيسيّة:
- محطّة بلدة إجزم مسقط رأسها منذ ولادتها عام 1935 وحتى النزوح عام 1948.
- محطّة اللجوء في دالية الكرمل من عام 1948 – 1954
- محطّة الرجوع لعين حوض الجديدة عام 1954 – حتّى أيّامنا.
(سأتوقّف عند أبرز الأحداث والمميّزات لكلّ محطّة)
محطّة إجزم:
الأمّ ميسّر (التي كان اسمها “تيسير” فغيّرته لكونه اسمًا لمذكّر أيضًا) تسترجع ذكريات الطفولة السعيدة في بلدة إجزم، فهي الابنة البكر لمعروف الماضي وفتحيّة وولدت عام 1935، وكان لها أخوان صلاح ومحمّد، وأختان هما سهيلة وناديا. كان الأب يعمل شرطيًّا في شفاعمرو ويعود لإجزم، والأمّ فتحيّة كانت “تخيّط للناس بالأجرة، وتخيّط جهاز العرايس” (الكتاب:14) بعد أن تعلّمت تلك المهنة بجهودها الذاتيّة.
وتصف الأمّ ميسّر والديها فتقول عنهما: “كان والدي إنسان مسالم، عمره ما آذى حدا، وأمّي كانت نِشطة ومدبرة، وهي مسؤولة عن البيت ومصاريفه” (الكتاب:15)
ومن الجدير بالذكر أنّ والدة ميسّر فتحيّة سكنت في حيفا وانتقلت لقرية إجزم بعد الزواج، لذلك: “ما كانت تعمل مثل القرويّات، كانت أمّي تستأجر وحدة تجيب إلنا الميّ كلّ صباح… وهي ما كانت معتادة على شغل الأرض مثل باقي النسوان” (الكتاب:14)
الأمّ ميسّر تعلّمت عند ثلاث معلّمات حتّى الصفّ الخامس وختمت القرآن وكانت: “الأولى على الكلّ” (الكتاب:13).
واللافت في هذا السياق وجود: “معلّم ختيار اسمه أبو عايدة ييجي على البلد، ويستأجر غرفة، ويعلّم فيها عربي وحساب بعد الدوام المدرسيّ” (الكتاب: 13)
كانت تسود السكينة والبساطة وحياة الفلاحة قرية إجزم، والأطفال يمرحون ويلعبون في البساتين والحارات، فحياتهم كانت: “كلّها لعب وشيطنة، لكن الحياة كانت سعيدة” (الكتاب: 15)
هذه البساطة والسكينة في إجزم – وغيرها – بترت بأحداث عام 1948، فالحرب أدّت لإصابة جرحى وسقوط ضحايا، ممّا أدى للتهجير والنزوح!
محطّة اللجوء في دالية الكرمل:
تسرد الأمّ ميسّر مأساة اللجوء ومغادرة قرية إجزم مسقط الراس في شهر الصيام رمضان، يومها توجّهت أسرتها لقرية دالية الكرمل تاركين جميع أغراض البيت وأمتعته وراءهم.
وتنقّلت أسرة الأمّ ميسّر عدّة مرّات في دالية الكرمل من بيت لآخر، وفي فترة اللجوء في الدالية اشتغلت أمّها: “بخياطة الثياب، وما احتجنا لمساعدات مادّيّة” (الكتاب: 22)
ودالية الكرمل وأهلها الكرام يستحقّون كلّ التقدير والاحترام، فقد فتحوا بيوتهم وقلوبهم لاستقبال المئات بل الآلاف من المهجّرين النازحين من القرى المنكوبة مثل: “إجزم وعين غزال وجبع والطنطورة وأمّ الزينات وغيرها…(الكتاب: 24).
وفي دالية الكرمل تعرّفت أسرة الأمّ ميسّر اللاجئة من إجزم على أسرة الزوج عبد الرؤوف أبو الهيجاء اللاجئة من عين حوض، وفي عام 1952تمّت خطوبة متواضعة بين ميسّر الماضي وعبد الرؤوف أبو الهيجا، وبعد 3 شهور من الخطبة تمّ الزواج والعروس ميسّر كانت دون السابعة عشرة من العمر، وسكن الزوجان في: “غرفة يفصلها جدار واحد عن صيرة المعزا (الزريبة)”. (الكتاب: 32).
استمرّت حياة الزوجين في دالية الكرمل لمدّة سنتين في ظروف صعبة وقاسية تعلّمت فيهما الزوجة ميسّر: “الخبز والطبخ والنفخ” (الكتاب: 33) وكان رئيس العائلة الموسّعة العمّ محمّد محمود أبو حلمي هو: “الآمر الناهي في العيلة، ومن بعده الكلّ طايع…” (الكتاب: 33)
محطّة الرجوع لعين حوض الجديدة عام 1954:
في عام 1954 انتقلت أسرة الأمّ ميسّر مع زوجها وعدد من أفراد عائلة أبو الهيجاء للعيش في “قرية” عين حوض الجديدة التي كانت عبارة عن: “مجموعة من البراكيّات المبنيّة من الزينكو مبنيّة من الطين والقشّ، لا شارع ولا كهرباء ولا ميّ ولا إشي!” (الكتاب:33) وقد بادر بالعودة وأشرف عليها رئيس العائلة الموسّعة الشيخ أبو حلمي!
عانت الأسرة الأمرّين في هذا الموقع الجديد، فالعيش في البراكيّة والأعمال البيتيّة الصعبة ومع قطعان الغنم والبقر والاعتناء بها، ومعاملة الزوج القاسية والعنيفة، أحيانًا، زادت الطين بلّة، ولكن ميلاد الأبناء محمّد وسمير وسميرة خفّف المعاناة، فقد كان الأب عبد الرؤوف سعيدًا بأولاده: “يلاعبهن ويشتريلهن أواعي … وكان يلاعب أطفال الحيّ كلهن سوا” (الكتاب:38)
وبالإجمال تقول الأمّ ميسّر: “الحياة ضمن العيلة الكبيرة مليحة…” (الكتاب: 40) باستثناء شغل السلفات. وأفراد العيلة الكبيرة: “كلهن بوكلوا على صحن واحد، نفس الطعام، وهناك أبو العيلة وأمّ العيلة… والكلّ يعمل، والخزنة مع الكبير هو اللي يشتري لوازم العيلة كلها، واللي بده يشتري أي شي ولو زغير كان لازم يوافق عليه أبو العيلة” (الكتاب: 41- 42)
في مرحلة ما، استقلّت أسرة الأمّ ميسّر وطلعت عن حياة العيلة، وبدأ الزوج عبد الرؤوف يعمل في كيبوتس “نفيه يام” جنب عثليت وصارت العلاقة طيّبة داخل الأسرة حتّى مرض الزوج بمرض السرطان وتوفي في مستشفى رمبام في حيفا بتاريخ 28.6.1958 فعم الحزن والحداد في العيلة.
رفضت الأمّ ميسّر الزواج والتخلّي عن أولادها، فعندها: “كلّ شي يهون كرمال أولادي، فأنا نذرت نفسي لخدمتهن حتّى يكبروا ويصيروا مسؤولين عن حالهن” (الكتاب: 52).
بعد وفاة الزوج عادت الأمّ ميسر مع أولادها لأحضان العائلة الكبيرة لتعمل كباقي السلفات، وقد تحمّلت الأعمال الشاقّة لأنّ العمل كان: “أوّلًا كرمال رضا زعيم العيلة لكبير وهو الشيخ اللي الو احترامه في البيت وبرّات البيت” (الكتاب: 55).
انتقل أهل ميسّر (عائلة والدها) في البداية لقرية الفريديس، وبعد سنّة انتقلوا للسكن في حيفا، وكان أبو العيلة يسمح للأمّ ميسّر وأولادها زيارتهم مرّة واحدة في السنّة لمدّة أسبوع في العطلة الصيفيّة، وهناك يحظون بالحنان والعناية خاصّة من الجدة فتحية الماضي، فعندهم يتفرّجون على التلفزيون والمسلسلات ويستمعون للحكايات والقصص من جدّتهم. (الكتاب: 55).
تحلّت الأمّ ميسّر بالجلد والصبر والتضحية والتسامح، وحرصت على تعليم أولادها، في البداية في دالية الكرمل ثم في مدرسة عين حوض الجديدة التي افتتحت في 21.1.1962، ثمّ انتقل الابنان محمّد وسمير ليتعلّما في ثانويّة راهبات الناصرة في حيفا (البنت سميرة توقّفت عن الدراسة بعد الصف الثامن رغم تفوّقها).
كان الجدّ أبو حلمي يتكفّل بمصروف الأسرة وتكاليف دراسة حفيديه، ولكنه قرّر، بسبب الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة، التخلّي عن هذه المسؤوليّة ممّا أجبر أسرة الأمّ ميسر الاعتماد على نفسها، فترك سمير الدراسة بعد الصف الحادي عشر وصار يعمل في العمار ليعيل الاسرة وليدعم أخاه في دراسته في التخنيون.
وفي هذه الفترة بنت الأسرة بيتًا جديدًا عصريًّا.
مع تحسّن الأوضاع تمّ زواج الأخوين محمّد وسمير من بنتيّ عمّهما عبد الحليم عام 1977 بحضور كبير العائلة الذي فرح وبارك هذا الزواج، كذلك تزوّجت البنت سميرة من “باسم” ابن عمّها عبد الحليم.
بعد الزواج بنى سمير بيتًا لأسرته وقررت الأمّ ميسّر العيش في بيت ابنها محمّد الميسور الحال!
عام 1982 توفي أبو العيلة أبو حلمي فحظي بجنازة تليق بمكانته وكفاحه في إقامة بلدة عين حوض الجديدة، وحزنت الأمّ ميسّر عليه وبكته بمرارة معترفةً بفضلة، وودّعته بحزن محمّلة إياه سلامًا لابنه زوجها المرحوم عبد الرؤوف.
مع تقدّم الأمّ ميسّر بالعمر تاقت نفسها لزيارة مسقط رأسها إجزم، فأخذها ابنها سمير للقرية فوجدت معالمها قد تغيّرت، والبيوت اختفت، والجامع أهمل، ومدرسة القرية تحوّلت لكنيس فعادت حزينة مغمومة!
وفي السنوات الأخيرة أدّت الأمّ ميسّر (أمّ محمّد) العمرة ثم فريضة الحج برفقة ابنها سمير وعلى نفقة ابنها محمّد ففرحت كثيرًا رغم عجزها وشيخوختها، لكن بعد عودتها من الديار المقدّسة عانت الملل والوحدة والعجز وضعف النظر، وكان الأحفاد وزيارتهم لها مصدر سعادة. كذلك حظيت بعناية ابنتها سميرة التي وصفتها بالقول: ” الله يرضى عليها بتيجي عندي كلّ يوم بعد متخلّص شغل بيتها، بتحمّمني وبتغسّلي وبتساعدني على بعض الشغلات، وبتسلّى أنا وياها” (الكتاب: 90).
وتذكر الحاجّة ميسّر أنّ أخويها محمّد وصلاح توفيا، لكنّها ما زالت أحيانًا تتواصل هاتفيًّا مع أختيها سهيلة وناديا في حيفا!
أمّا وصيّتها لأولادها فكانت الحفاظ على الوفاق والمحبّة والتعاون بينهم، والتحلّى بالتقوى، وأن يقوموا بتعليم أبنائهم وأحفادهم.
وفي الختام ارتأى أهل بلدها منحها شهادة شكر وعرفان على عطائها وأعمالها وتضحيّاتها لأبنائها وأحفادها.!
بعض التأمّلات والاستنتاجات والعبر:
كتاب: “لمّا إمّي تحكيلي” يعتبر مادّة هامّة للرواية الشفويّة التي توثّق الأحداث والوقائع التي عاشها الكثير من سكّان القرى والمدن المهجّرين النازحين عن بلداتهم وبيوتهم، وتصف المعاناة التي كابدوها بعد اقتلاعهم من مسقط رأسهم!
- فالأمّ ميسّر في هذا الكتاب تعود لذكريات طفولتها ويفاعتها في قرية إجزم، تلك القرية التي كانت عامرة مزدهرة تتمتّع بمستوى راقٍ حضاريًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا، فهي قرية: “معروفة بغناها بالآبار والينابيع… بلغت مساحة أراضيها 46905 دونمات نصفها من الأراضي السهليّة التي زرعت بالغلال والخضروات والتبغ، أما النصف الأخر فقد زرع بالفواكه والزيتون والتين، وكان عدد سكانها عام 1948 حوالي3445 نسمة”. (من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة)
والقرية، كما ورد في شهادة الأمّ ميسّر، أتاحت للأطفال التعلّم في مدرستها، وكان هناك معلّمون ومعلّمات، وإحدى المعلّمات من بيسان، وقد تزوّجت مواطنًا من إجزم. وكان هناك المعلّم المسنّ أبو عايدة الذي كان يأتي لإجزم: ” يستأجر غرفة، ويعلّم فيها عربي وحساب بعد الدوام المدرسيّ” (الكتاب: 13)
كذلك لم يقتصر عمل سكان إجزم على الفلاحة والزراعة، بل كان من بينهم الموظّفون مثل والد الأمّ ميسّر الذي عمل شرطيًّا في شفاعمرو، وكذلك أمّها فتحيّة التي عملت في الخياطة للناس بالأجرة.
- وتكشف رواية الأمّ ميسّر معاناة أهل إجزم وسقوط الضحايا في الحرب عام 1948، ورحلة التهجير واللجوء لقرية دالية الكرمل التي احتضنت المئات والآلاف من اللاجئين المشرّدين، وقسمٌ منهم من عائلتها (عائلة الماضي)، ومن عائلة زوجها عبد الرؤوف (عائلة أبو الهيجاء) مكثوا في الدالية حوالي ستّ سنوات!
- كما نتعرّف من رواية الأمّ ميسّر على انتقال أسرة زوجها برئاسة أبيه الشيخ محمّد محمود أبو حلمي للعيش في أراضي عين حوض، ومواجهة الظروف المعيشيّة الصعبة والقاسية، والجهود الجبّارة التي بذلوها، بإدارة الجدّ أبو حلمي بحكمته وشجاعته وكرمه، حتّى نجحوا بـتأسيس بلدة عين حوض الجديدة، تعويضًا عن بلدتهم الأصليّة عين حوض التي كانت بلدة غنيّة تعجّ بالحياة والعطاء.
- وكشفت رواية الأمّ ميسّر عن الصعوبات والمشاكل التي واجهتها الأمّ بعد وفاة زوجها عبد الرؤوف عام 1958 مخلّفًا وراءه ثلاثة أبناء صغار تفرّغت الأمّ لتربيتهم وتعليمهم حتّى تزوّجوا واستقلّوا في حياتهم وبيوتهم.
- وأظهرت رواية الأمّ ميسّر أن تربيتها للأبناء كانت موفّقة ناجحة، فكان الأبناء بررة بأمّهم، احتضنوها ورعوها في شيخوختها، أسكنوها في بيوتهم، ورافقوها لأداء العمرة وفريضة الحج.
- وفي رواية الأمّ ميسّر نجدها تستعمل الأمثال الشعبيّة والحكم ممّا يكشف عن امرأة حكيمة متسامحة، مضحيّة نجحت بقيادة سفينة أسرتها وسط أمواج الصعاب العاتية، إلى شاطئ الأمان والسلامة!
أذكر من تلك الأمثال والحكم:
العتمة ما أجت عقد إيد الحرامي. (الكتاب:14، 56)
ربّ ضارّة نافعة. (الكتاب: 46)
لو طلب لبن العصفور كان جبناله. (الكتاب: 48)
كلّ واحد يقلع شوكه بايديه. (الكتاب:74)
ما في حدا بموت من الجوع. (الكتاب: 75)
اللي في القلب في القلب. (الكتب: 75)
لحمات أخوك أقوى من عظماتك. (الكتاب: 79)
والله الوطن غالي، وحب الوطن ما بتقدّر بثمن. (الكتاب: 82)
بعض الملاحظات:
- تكرار الأمّ ميسّر لزواجها وعمرها 17 سنة، واستهجانها لذلك – أعتقد أنّ ظاهرة الزواج المبكّر لم تكن غريبة ومستهجنة، بل كانت شائعة لدى مجتمعنا في تلك الفترة.
- وفاة الزوج عبد الرؤوف كان عام 1958، وعمر الأمّ ميسّر كان 23 عامًا وليس 21 عامًا كما ورد في الكتاب.
- أسلوب ضرب الأزواج لزوجاتهم لم يكن شائعًا كما ظهر في الكتاب، ومن مشاهداتي وتجربتي لم ألمس ذلك في بيتتي ومحيطي!
ثمّ ظهر في الكتاب وفي رواية الأمّ ميسّر أنّ زوجها عبد الرؤوف كان يحبّ أولاده يلاعبهم ويشتري لهم الملابس، وكان كذلك يلاعب أطفال الحيّ كلّهم ويشعر بالسعادة معهم، وكان يحبّ قرايبه ويوزّع عليهم الخضروات والفواكه. (الكتاب: 38، 47)
- الجدّ محمّد محمود أبو حلمي ظهر في رواية الأمّ ميسّر رجلًا عطوفًا حكيمًا شجاعًا مضيافًا حظي باحترام الجميع، وقد تكفّل بعائلة ابنه المرحوم عبد الرؤوف، وساعد الأسرة في تعليم الأبناء، وأعتقد أن التوقّف عن دعم أحفاده نبع من ضائقة ماديّة!
- في مقدّمة الكتاب وقعت أخطاء عديدة في التشكيل، (الكتاب: 5- 8) ويجب تصحيحها في حالة إصدار طبعة ثانية للكتاب.