“يلعن الدنيا! قرّبت المدرسة!!” ما في حدا متحمّس!!…
ما أطوعني متى الحلم دعاني! وما أسهل أن ألبي.. يدفعني إيماني بأنّ الحياة بلا حلم عيش بلا وطن، كما الحياة بلا ذاكرة! فهما أمس اليوم وغده… وما اليوم بينهما إلّا محطة التقاء الأرض بالسماء.
وأمضي على انفراد أحلم.. وبصوت مكتوب.. أو على طريقة عصافير المخابرات أحلم.. وأنتظر، لعلّ عابرًا ينضمّ اليّ.. فنتسلى معًا.. ونغني معا: “رزقالله عالعربيات، وعإيام العربيّات”… فتصغي الأرض وتفرح.. وتبللنا السماء بأحلام صغيرة تلعب معنا وتصدح.. ونجعل العربية سرج سابح يطيّرنا معًا حتى نطال غيمة تصهل وتجوّد الغناء: “عربيّة جدي بلونين.. يبقوا يجرّوها حصانين”.. ونسمي أحدهما “عربي” والآخر “حساب”! ويعودان بنا الى الوراء ستين عامًا وأكثر فندخل ابتدائيّاتنا يحمل كلًّ منا حقيبته حمّالة بستان تساكنت فيهِ الفصول ملمومةً بأقل من ثلاثة كيلو غرامات من ورق، سيثمر أشكالًا عديدة من المعارف القائمة على أسس متينة توثّق الروابط الطبيعية بين كافة العلوم المقروءة وعين اللغة على الطبيعة/العلوم، الجغرافيا والتاريخ.. لنقرأ فيها أحياء تنبض بالحروف. فلا يعيش محسوبها في عزلة عن محسوسها. فنفهم المقروء حسابًا محسوسًا يصغي لخرير سواقي القواعد في عروق الكلام.
وتنطلق المهور من التهجئة الى امتحانات الثوامن (البجروت التمهيدي) مشيًا موقعًا على الأقدام… رحلة لا تخلو من ضربات الحر والبرد، فنصل متحمسين لاقتحام “معالف” الأدب المغربل خصيصًا لتغذية فكر وعواطف الناشئة.
نتذكر.. فنطبق الأجفان معًا ونغني على مسمع زمن العلوم المعلبة أو المجففة أو الفجة: رزقالله أيام اشتهينا العلوم الباسقات، وتسلقنا للوصول الى الأعالي حيث الثمار الناضجة! فتواضع معلمونا حتى رفعونا أشركونا بجمع قصص في الحب المتبادل بين عناصر الحياة! وكم استولدنا من جوانب الطريق إنشائيات! وادعينا أنها صالحة لكل زمان! وكم قصر الأدب، شعرًا ونثرًا، المسافة بيننا وتلك الجوانب المظللة من تاريخنا الثقافيّ والاجتماعيّ والعاطفيّ!
توقفت العربية دقيقة صمت على ما كان بينما أحدهم يحلم بصوت مسموع: رزقالله على أيام الحصان “حساب” يطأ أرض العقول خبطَ قدم طفل يتعلم الجري بين الحصى! ويحمحم الحصان برفق ممسكًا بأدوات تفكيك المسائل الكلامية، زاعمًا أن الحياة جملة مسائل قلّما تستغني عن استخدام الأرقام: “الحساب إنشاء حلول ورجوني شطارتكو!” كان هذا الحصان استاذًا برتبة معلم!
مضت “الثلاث ساعات”.. فترجّلنا.. ومضى كلٌّ في سبيله. لكن صدى الحلم يتردد في الواقع بحيث يمكن تجاهله. فأخاطبه: معذورة ظبيتي الرشيقة وزملاؤها المثقلون بأحمال خالية من المحفزات، مزدحمة بورق لا يصدر عنه حفيف أو رائحة مستحبّة! مساكين أولادنا المتحولون الى آلات تسجيل لا تملك حقّ النطق بما يلوح لها من أحلام!
حسنًا فعلت وقد ابتلعت أمَّ الحكايات! وكيف تصدق “الآلة” أن معلمينا كانوا آباء أحاطونا بالمحبة، وظلّلونا بالثقة، وأوكلوا لنا مهمة تهذيب عواطفنا وحواسنا.. وتعبيد مسارات مداركنا..!
حسنًا فعلت ولم أحكِ عن ورشات النبش في أعماقنا حيث مخابئ المواهب والهوايات.. فتنافسنا ولم نتناحر.. ولم المح لها بالكلام عن “الخطاطين” منا أو المدعين يجعلون من جدران الصفوف واجهات عرض لمصاغات الفكر الجمعيّ.. والقيم العليا (وما كان أوفرها)! وما كان أمتع تجاذب الحِكَم والأقوال المأثورة والطرائف والأحاجي.. وتخاطف أبيات الشعر ذات الاشعاع الخاص.. والمناظرات رسمًا بالحروف وأقلام الرصاص.. فإنني لو فعلت لغرقت في غيبوبة الـ “نيالكو”! فسكتّ!
وكانت يوم ذاك قد غرقت وأنا أستعرض لها فرقة من الجياد الذين شجّروا تعاونية التربية والتعليم، يقودون قافية العلوم الإنسانية من خلال الفنون؛ الرسم والموسيقى، الإبرة والخيط، الزراعة والرياضة البدنية.. ضباط إيقاع أخذوا على عاتقهم تربية علاقاتنا الطيبة مع الحجارة والتراب والماء.. والنغم والوتر والقماش والألوان. وقد ساد بيننا مناخ المحبة والاحترام المتبادل لتلغى الحدود التقليدية بين الراعي والرعية. مربون، لا نعرف أيّهم مربي الصف الخاصّ الّا من خلال توقيعه على الشهادة!!
وأقطع مسار العربيات منحنية لأولئك المربّين، الأحياء منهم الراحلين. وقد كانوا حلقة التثبيت بين العلوم النظرية والتطبيقية. فحقّ التكريم للأحياء منهم وقد طاعنوا القرن؛ المعلم جمال علي، سهيل صباغ، ونديم مخول.. ولاحقًا يوسف سويد. وفي مقدّمتهم المعلم جمال مقاول التربية العملية الذي برع بدمج الرسم والزراعة والرياضة، ليجعل منها رياضة شتوية تقوم على الألعاب العقلية، كما دغدغت ملكات الإبداع حيث أمكن.. والمعلم سهيل منسّق الإحساس بالجمال المغنّى والمعزوف المترافق مع آلة الأكورديون خاصته.. والمعلم نديم صياد عصافير جنة الرسائل التربوية وعرضها لوحات للمناقشة!
وإن أنسى، لا أنسى الترحّم على معلمة الأشغال اليدوية أجني طُعمة حاضنة العلاقة بين الطبيعة وأناملها البشرية. وقد برعت أيما براعة بتسريج ميولنا الأنثوية وتوثيقها بحواسنا النامية. وقد حكمت علينا، لا بالإملاء، بصيانة خصائصنا، ولم نعِ أنها تعمل على إعداد أُمهات مُربيات وربات منازل ومنسقات حدائق!
هكذا، وقبل أن نتعرف على تعاليم أو توصيات اليوغا بعقود، نكون قد طبقنا إحدى وصاياها العظمى.. إذ رعينا حواسنا وراعيناها وأشركناها جميعنا بإعداد مائدة علمية متكاملة لا تنحرف عن حكمة وثقافة الطبيعة.. رزقالله!!