ساعةُ جدّي – روز اليوسف شعبان

كنتُ في طفولتي أحبُّ  زيارة بيت جدّي يوميّا؛ للّعبِ معه ومع جدّتي والاستماعِ إلى قصصهما المثيرة.

كانت تستهويني ساعةُ الحائط الخشبية، المعلّقة في زاوية الطعام، كانت الساعةُ قديمةً وكبيرةً جدّا، في أعلاها فتحة صغيرة يخرج منها عصفورٌ خشبيّ،، يصدر رنينا جميلا معلنا انتهاء ساعةٍ وبداية ساعةٍ جديدة. كنت أستغرب كيف يدخل ويخرج العصفور؟ وكيف يُصدر هذا الصوتَ تماما عند بداية كل ساعة زمنيّة؟

ذات يوم سألت جدّي عن هذه الساعة الغريبة. قال لي: هذه ساعةٌ قديمةٌ جدًّا، وأظنُّها تعود الى مئات السنين، لقد ورثتها عن والدي، ووالدي ورثها عن جدّي، وجدّي ورثها عن والده، وأنا سأورثها لوالدك، ووالدك سيورّثها لأحد أبنائه وهكذا دواليك…

–  حقًّا يا جدي! هل سنعلّق هذه  الساعة على الحائط في بيتنا؟

– نعم يا حفيدتي.

– سأطلبُ من والدي أن تكون الساعة من نصيبي.

– إن شاء الله يا منى ستكون الساعة لك؛ لأنك تحبّينها. وأنا على يقين أنّك ستحافظين عليها.

– طبعًا يا جدّي سأحافظُ عليها. أعدُكَ بذلك.

قطع حبلَ شرودي صوتُ الممرضة تقول لي:  استمري في المشي في ردهات المستشفى؛ فالمشي يسهّل عملية الولادة، وحين تشعرين بتسارع آلام المخاض؛ ادخلي مباشرةً الى غرفة الولادة.

قلت لها: شكرًا لك سأفعل.

تساءلت في نفسي: ما الذي جعل ساعةَ جدّي تخطر في ذهني الآن وأنا على وشك الولادة؟ هل هو هروب من الخوف والألم واللجوء إلى حضن العائلة ومرتع الطفولة حيث الأمن والأمان؟

أخذتني أحلامُ اليقظة مرّةً أخرى إلى ساعة جدّي التي علّقها والدي على الحائط. كنت أحدّثها وكأنني أحدّث جدّي، فأخاله يخرج من قبره، ويحدّثني ويعيد على مسامعي سردَ حكاياته الشائقة.

ذات يوم كنت أتقاذف الكرةَ مع إخوتي داخل البيت، طلبت منا والدتنا أن نكفّ عن ذلك؛ حتى لا نؤذي أغراض البيت، لم تكدْ أمّي تنهي كلامها حتى قذف أخي الكرة بقوّة نحوي؛ فلم أتمكن من الإمساك بها وأصابتْ ساعةَ جدّي المعلّقة على الحائط. سقطت الساعة أرضًا، وتهشّم زجاجها. أنّبتنا والدتي على ذلك، أما أنا فقد انفجرت بالبكاء.

أخذ والدي الساعة وأصلح زجاجها، لكنّ العصفورَ لم يعدْ يخرج  من الفتحة، ولم نعدْ نسمع رنينَهُ،  معلنا بداية ساعة جديدة.

سألت والدي: لماذا توقّف العصفور عن الخروج والدخول من فتحته واسماعنا رنينه؟

يبدو أن خللا أصاب الساعة، ولم يتمكن الساعاتيّ من تصليحه. أجابني والدي بأسف.

أسفتُ لما آلتْ إليه ساعة جدّي، وشعرت بندم شديد، أنا التي وعدته بالمحافظة عليها، لكنّني لم أفِ بوعدي.

بدأت آلام المخاض تجري في عروقي متسارعةً، وأنا  أحاول كبتها بصعوبة بالغة،  صوت الممرضة  ينبعث مرّةً أخرى؛ ليمتزجَ بآلام مخاضي.

_ كيف تشعرين الآن؟

_ أشعر بنوبات ألم متتابعة حادّة في أسفل بطني وظهري.

_ إذن ادخلي بسرعة إلى غرفة الولادة!

دخلت الغرفةَ وأنا أتصبّبُ عرقا، وأعُضُ على نواجذي، وبدأت أنفاسي تتسارع   كأنّها في سباق مع الزمن. تمدّدتُ على السرير المُعدّ لاستقبالي، وأنا أدعو اللهَ أن ينجّيني وينجّي جنيني، استدعت الممرضةُ الطبيبَ الذي حضر على الفور  وحقنني حقنةً للتخفيف من آلامي الحادّة، ورغم ذلك خلت أن كلَّ من في المستشفى سمع صراخي.

خذي نفسا عميقا!  وادفعي بقوّة! قالت لي الممرضة.

صوت دقّات ساعة جدّي يخترق أذنيّ ويمتزج بصوت بكاء طفلي وبصوت زخّات المطر  الأول، التي انهمرت في هذه اللحظة بالذات، لحظة ولادة طفلي.

وضعت الممرضة طفلي على صدري، تفاءلت به خيرا، حضنته بحبٍّ، فانهمرت دموعي على وجنتيّ، قرّبت جنيني من فمي، قبّلته قائلةً: سأورثك ساعة جدّي وجدّك يا بنيّ، حافظ عليها وحاول أن تجدَ طريقةً  لتعيد العصفورَ الى سابق عهده، فنسمع معا رنينه معلنا بداية زمنٍ جديدٍ.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*