دعاني صديقي الشاعر: سامي مهنا، وهو كاتب المسرحية، لبيت الدعوة وحضرت العرض الأول للمسرحية (16-09- 2023)، وهي من انتاج مسرح الشروق البقيعاوي، بإدارة: محمد خير/ أبوحمزة، في قرية البقيعة في الجليل الأعلى.
قبل العرض استفزني العنوان “هشت”، وهي كلمة عامية محكية وتعني الكذب، وتساءلت تخمينا عن الفكرة المركزية وعن الأحداث الدرامية والحبكة المشوقة. بدأ العرض فتركت التخمين وتركزت في العرض، وهذا بفضل العنوان الذي يستفز المتلقي قارئا أو مشاهدا.
يقوم بالتمثيل ثلاث أصدقاء كبار في العمر، يلتقون خلف الحدود في محطة تحمل الرقم 181، يقضون وقتهم بالدعابة، وبالاستماع الى أكبرهم سنا “أبو صالح” الذي يروي عن بطولاته قصصا متخيلة وبطولات وهمية لا أساس لها ومبالغا فيها، وكلها “هشت” أي كذب، وقال الأجداد: لا تصدق واحد ماتت أجياله ولا واحد تَغرّب.
يعرف الصديقان (أحمد مداح، نور مغربي)، أن صديقهما “أبو صالح” (أمجد بدر) يكذب، ولكنهما لم يرغبا في تكذيبه ومواجهته بحقيقته، لأنهما بذلك يخسران مَلء فراغهما بالتسلية وهي فاكهة اللقاء، وأبو صال” بحاجة الى الكذب لأنه يجد سببا وقيمة لوجوده، وكأني به يتمنى لو كان ذلك الشخص البطل في قصصه المتخيّلة حقيقة، وعندما لا يقدر الانسان على فعل شيء يلجأ الى الخيال أو الحلم كي يحققه، ويصدق نفسه؛ فتصبح ممارسته لها اعتيادية، وكثيرا ما يختلط الحقيقي بالخيالي، وعندما تنعدم الإنجازات يصبح الكذب ثقافة، كما أصبحت الخيانة وجهة نظر في حاضرنا الذي نعيشه. وهذا من باب التعويض النفسي. وهكذا أصبح الكذب مطلبا ضروريا للطرفين، لأنه يوفر لهم سببا في وجودهم، فيشعرون بقيمتهم وإن كانت وهمية.
وتستمر حياتهم من لقاء يومي وتسلية، الى أن أخبرهما “أبو صالح” عن دوره في ارشاد النازحين ومساعدتهم في العودة الى وطنهم، وهو لم يستطع العودة وبقي خارج وطنه. وهذه حقيقة وليست كذبا، ولكن صديقيه كذّباه، فشعر عندها، بالصدمة والحزن والغضب، وما كان منه إلا أن رمى مسبحته، ولكن أحد أصدقائه أعادها إليه، فيما بعد.
المسرحية مليئة بالدلالات الوطنية والفلسفية والنفسية، يلتقي الأصدقاء في محطة 181، وهو رقم قرار التقسيم، ويجلسوا على مقعد خارج سياج حدود الوطن أي في الشتات، ولكنه قريب من الحدود دلالة التعلق بالوطن (وما لهم وطن سواه) هذا القرب الجغرافي يجعلهم يبصرونه ويتنفسون هواءه يوميا ويترسخ لديهم التفاؤل والأمل بالعودة.
ذكر أبو صالح في هشته (بطولاته الوهمية الكاذبة) العديد من الأسماء والأحداث التي تندرج في مجال القضية الفلسطينية، هذا الكم من الكذب والخداع الذي بدأ تقريبا، منذ بداية القرن التاسع عشر ولما يزل، هذا الكذب ارتأته الشعوب فأدمنت عليه ومارسته (أبو صالح) من باب التعويض النفسي وبناء البديل الموضوعي لشخصياتهم.
وعندما يصل الشخص الى هذه الحالة تصبح حياته عبثية تفقد الأشياء قيمتها مهما بلغت قيمتها، ولقد انعكس هذا عندما رمى أبو صالح مسبحته التي ورثها من والده وهي ترمز الى ماضيه وتراثه الديني والدنيوي، لقد رماها لأنه وصل قمة الإحساس بالعبث، وأراد أن يتخلص من ماضيه. وعودة المسبحة اليه لفتة ذكية تدل على أن الانسان لا يستطيع أن يتحرر من كل ماضيه، ناهيك أن هذا الماضي ليس سلبيا بالمطلق.
تنتمي هذه المسرحية الى المسرح الفكري العبثي الساخر واللاذع، فهي لا تنمو دراميا اعتمادا على الأحداث من عُقد وحلول، ومن هنا صعوبتها لأنها لا توفر للمشاهد التقليدي محطات التخمين والتوقع اعتمادا على المنطق العقلاني، بل تجعله يعيش طوال المسرحية حالة من القلق والحيرة والارتباك، وتفقد الحياة قيمتها لدرجة التساوي والتماثل مع الموت، فمن أسباب الانتحار وصول الشخص الى درجة عالية من العبث، وتصبح أيام حياته روتينا متكررا بلا هدف. فالصديقان يعيشان حياة عبثية بلا هدف، لأنهما فقدا الإجابة عن أسباب وجودهما، بينما الثالث: أبو صالح، حاول أن يجد لحياته قيمة فلجأ الى فبركة بطولات كاذبة من خياله (ليطعم نفسه جوزا فارغا) وليبرر سببا لوجوده بوعي أو بلا وعي.
نجح المؤلف الشاعر: سامي مهنا في كتابة مسرحية نثرية (له مسرحية شعرية بعنوان: وضاح اليمن) عبثية تتماس كثيرا مع واقعنا الفلسطيني، وحبذا لو اقتصر على ذكر الأسماء والأحداث المقتصرة على مسيرة القضية الفلسطينية المليئة بمعطيات الكذب، ونجح المخرج منير بكري في تجسيدها ببساطة في الديكور والحركات وغيرهما، وفي مثل هذه البساطة غير المعقدة يكمن العمق. برزت شخصية “أبو صالح” في التمثيل: في حضورها على الخشبة وفي درجات ونبرات صوتها وفي حركاتها، وأعتقد أن الدور الذي قاما به الصديقان لم يوفر لهما إمكانات ابراز موهبتهما كثيرا، وإن برزت هنا وهناك، مما يعكس على وجودها فيهما.
تحية لمسرح “شروق” ولإدارته على هذا الإنجاز الناجح، والى المزيد.