الادب الوجيز “وولع السباحة في عين الأسد” للأديب حسن الابراهيمي – مصطفى عبد الفتاح

حسن الابراهيمي، كاتب مغربي، عروبي أصيل، صدرت له مجموعة من الكتب، تعبّر عن روحه ومواقفِه الوطنيّة والعروبيّة على حدّ سواء، فهو مسكون بالقضيّة الفلسطينيّة، وبالهم العربي في كل مكان، ونصير للمظلومين في كل مكان، كتابه الأوّل حمل عُنوان ” كتب كسرة خبز”، وعلى عتبة نصّه الأولى كتب الابراهيمي،” بين قضبان الرّيح وقف التّاريخ بدون قضيّة، فوق اسرّةٍ طفوليّة، نامت أحداثه بدون أسئلة، نامت بدون سلّم للأسوار…

وكذلك “جراح وطن”، وعطر السّرد في المغرب العربي، ” وكتاب “القضيّة الفلسطينية في نماذج أدبيّة لأدباء فلسطينيين مسار الألم والأمل، حيث اخذ نماذج أدبية لأدباء كتبوا عن القضيّة والهم الفلسطيني، وأضافوا بكلماتهم الصّادقة، وعملهم الدؤوب الكثير للنّضال من أجل التّحرر، وكتابه الجميل الذي بين أيدينا ” ولع السباحة في عين الأسد”.

كما صدر له العديد من المقالات والنّصوص الإبداعيّة في المجلّات والجرائِد الورقيّة الصّادرة في المغرب وتونس والجزائر والعراق وسوريا وفلسطين، كما ينشط الابراهيمي في صفحات الحوار المتمدِّن وبمواقع الكترونية، ينشر القصائد الشعرية والنّصوص الّتي تندرج ضمن الأدب الوجيز.

وفي مسيرته النضالية الزاخرة، ينشط وينخرط في منظّمتين عالميّتين، المنظّمة الحقوقيّة في المغرب واسمها “الجمعيّة المغربية لحقوق الانسان” والجمعيّة الوطنيّة للتّعليم والتّوجّه الديمقراطي.

نشاطه الوطني والنّضالي الدّؤوب جلب عليه الكثير مِن الويلات والملاحقات السّياسية والأدبية والحرب النّفسية الّتي مورست بحقه، مما جعله يلتزم البيت نتيجة المُعاناة والأمراض التي هاجمته نتيجة ذلك فلزم البيت ولزم العمل الادبي بكتابة الشّعر والقصّة والمقالة.  واخاله يصف حالته النفسية والجسدية في احدى قصصه وهي تحت عنوان “عسس بذاكرتي” ص 55، وفيها يقول ” اثناء الليل، استعد للزيارة التي يقوم بها الفريق لاوجاعي، حيث اناوله قسطًا من دمي، لمعرفة مدى قدرتي على البحث على مخيط اخيط به صبري. اما الفسيلة فلا تسلم من الاصطدام، مع حاشية الليل، والغاية هي ان يصادر لساني من ممارسة غوايته المفضلة.” ص 55

“ولع السباحة في عين الأسد” مجموعة الابراهيمي القصصية الجديدة، اصدار مكتبة كل شيء الحيفاوية، يعتمد فيها الابراهيمي أسلوب الادب الموجز، اذ يعتمد على صقل كلماته بايجاز جميل فتخرج قلائد ماسية عذبة، كل كلمة فيها لها معنى ومكانة، وكلماته تشكل جملا يستطيع القارئ ان يحلق بها الى عوالم شتى وفي فضاءات يختارها بعناية فائقة، تجعل القارئ يبقى مشدودا اليها ومحلقا في عالمها كما يشاء،  تخرج الكلمات من الأعماق، معبرة عن صدق المعاني وعن ايمان كاتبها بصدق رؤياه وعمق تفكيره فتنتقل القارئ الى عالمها، بمتعة متناهية، وبوقفة تأمل، ولحظات من التفكير المعمق بسحر الكلمات وعمق المعاني، هكذا هو حسن الابراهمي يشد القارئ الى عمق الفكر  وتوهج العاطفة، ووضوح الطريق فتسير خلف كلماته بهدوء ومحبة صادقة، واعتراف داخلي بانك تقف في محراب راهب يؤمن بقضية مقدسة، وبدرب لا يمكن التراجع فيه قيد انملة، طريق النضال وطريق العمل من اجل الحرية والعدل والوقوف الى جانب المظلومين في كل مكان ، وفي المقدمة قضية الشعب الفلسطيني وتحرره من نير الاستعمار والاحتلال الصهيوني الرابض على صدره.

ونحن في هذه القراءة المعمقة في مجموعته القصصية الجديدة “ولع السباحة في عين الأسد” اذ نقف امام نوع جديد وخاص من القصص القصيرة، اذ تدخل ضمن الادب الوجيز، وهذا النوع من الادب الراقي الجميل والعميق بحاجة الى وقفة وتوضيح موجز، ونحن بحاجة الى هذا التوضيح من اجل الولوج الى عالم قصصه، التي تدخل القارئ في متاهات وسراديب حياة شخوصها وتجعله يعيش عمق اللحظات ويحلق في سماء المكان كما يحلو له ذلك. ويكفي ان نقرأ الاهداء في مقدمة الكتاب لنتذوق طعم هذا الادب الجميل، الذي يحتاج الى ثقافة عالية، والى روح ثائرة، وعقل مستنير، وبالمقابل الى قارئ يعشق الادب ويعيش لحظاته يقول في الاهداء” إلى وشم أينع في سيوف تخلت عنها المعركة… صدى أرواح غربان صعقتها حبات زلزال.. ماء ارتوى بسواد الليل، ولما تطهر الموت بدأ يظهر ويختفي في تجاعيد ابط عيده فقد البوصلة.” ص 7.   وللقارئ ان يحلق في عمق المعاني ويرسم العقد الذي يريده في هذه اللوحة الأدبية الراقية، وهي تختصر معنى الادب الوجيز وجماله.

وفي تفصيل معنى وعمق هذا الادب وتعريفه، يقول الدكتور باسل بديع الزين في جريدة البناء تحت عنوان “الادب الوجيز هوية أدبية مفتوحة” “الأدب الوجيز بات حاجة وجوديّة، لكنّ هذه الحاجة لا يجب أن تترك على غاربها وإلا وقعنا في فخ ما ننتقده. وبتعبير أوضح، نحن بحاجة إلى نصوص يعتمل فيها الوجدان بقدر ما يعمل فيها الفكر، نصوص تكرّس ذهنيات مختلفة فلا تعيد إنتاج ما قيل بقوالب لفظية كثيفة لا تتوفر فيها شروط كتابة الومضة أو القصة القصيرة جدًا. الأدب الوجيز هويّة أدبيّة جديدة بامتياز، ولكي تفصح عن نفسها لا يكفي أن تقدّم نفسها نصيًا بحيث تلتبس صورة العمل الفني في ذهن المتلقي. وهنا بالضبط تكمن مسؤولية القارئ في تذوق عمل فني يعي أبعاده ويقف على مندرجاته، من دون أن يكتفي بالتطبيل والتزمير والتطريب والمنبريّة والسذاجة المعرفيّة.”
ويذهب الدكتور كامل فرحان صالح المحاضر في الجامعة اللبنانية في جريدة البناء اللبنانية، الى ابعد من ذلك ويرى بالكلمة كائن يأخذ معناه من النص وليس المعنى الحقيقي المتعارف عليه وهكذا الجملة فانها تكون كائن مستقل بذاته يعطي المعنى الذي يريده او يفهمه القارئ في السياق، مما يتركه في نشوة المعرفة وفي عالم الادب الساحر يقول : ” يجيء الأدب الوجيز ليعيد نفخ الروح/الأرواح في الكلمة بدايةً، ومن ثمّ النصّ، فيدخل المبدع في لعبة السعي الحثيث إلى «الترشيق» بكلمة فاعلة وقادرة على أن ترفع في ذاتها وبذاتها غير معناها المباشر إلى معانٍ كثيرة، وأصبح عليه أن يعي في لاوعيه لحظة الكتابة، أن الكلمة في الأدب الوجيز، تتخذ عبر سياقها، حالات من الكشف اللانهائي، وإذ يخال «هو» بوصفه المرسِل أو «القارئ/المتلقي» بوصفه المرسَل إليه، أنهما يدنوان من رفع الحجاب عن المعنى، يجدان أنهما أمام حجاب آخر، في سفر ممتع يتخلله امتحان مستمر لقدرتهما على التخيل، والتفكّر، والفهم، والحفر/الغوص عميقًا في حقل الدلالات، والدوائر اللامتناهية…

تعتبر كل قصة في هذه المجموعة، لوحة أدبية فنية راقية، يجب الوقوف عندها. والمجال في هذا المقال لا يسمح لنا الولوج الى كل تفاصيل هذه اللوحات، وعليه فقد اخترت عينات من هذه النصوص لتوضيح جماليات هذا النوع من الادب الوجيز، ولا يمكننا الوصول الى هذه النصوص دون العبور على عتبة النص الأولى العنوان الذي يستوقفنا بجمالياته ودلالاته العميقة والمعبرة، وقد اختاره الكاتب بعناية فائقة فهو يحوي بين طياته الكثير من العمق والجماليات النصية، يضطر القارئ ان يقف ويفكر بكل كلمة فيه ” ولع السباحة في عين الأسد” فالولع هو الشغف، او التعلق الشديد  بالشخص او الشيء او بالأمر.. الحب الشديد. والسباحة رياضة راقية جميلة، ولكن كيف لها ان تكون في عين الأسد، في المكان الأصعب، فيى المكان الحصين الذي لا يستطيع الولوج اليه أي شيء، فكيف لشغف السباحة في عين الأسد ان يتم، وهنا، تتغير معاني الكلمات، وتسبح الأفكار في عوالم شتى في سبيل البحث عن معنى وعن فهم لهذه النصوص.

هل يقصد المقاومة الناعمة ضد القوة الظالمة؟ هل يقصد منع الأسد من وضوح الرؤية بسبب السباحة في عينه؟ هل يقصد تحدي الصعاب والوصول الى رأس النبع كما يقولون؟ هل هو نوع من التحدي والمقاومة لكل غطرسة وقوة، وعدم الخوف من الأعداء؟ وهل هو مقاومة للعسس والتجسس على الناس لدرجة عدم الخوف واقتحام قدس اقداس العدو على اعتبار ان الأسد هو العدوة وهو رمز القوة الغاشمة؟ ثم من هو هذا البطل المقاوم الذي لا يخشى الموت، ويتحدى الخطر، فيسبح بشغف في عين الأسد؟ هذا وغيره من المعاني وصور التي تلاحق القارئ من عنوان هذه المجموعة القصصية فكيف الغوص في اعماقها!.

وفي قصته “حماة الأرض” يصف الابراهيمي بايجاز يبهر القارئ بجماله، يصف تلك الطبقة المسحوقة من العمال والفلاحين الملتصقين بالأرض، يعيشون حياتهم بكل عزة واباء يقاومون الظلم يقاومون الطغاة والمحتلين، يدافعون عن الأرض والوطن بكل اباء، يرسم لوحة فنية تكاد ان تنطق بالتعابير الجميلة” تفقدت اطفالها هيأت لهم طعام الفطور،تفقدت زريبتها حيث دوريات يسوقها عتالون، تحمل اكياسا من الشمس، خرير اليم، يحمل اكفان غربان، عب امرأة مفتاح يناجي السماء، ويلوك ما تبقى من ليل ارغمه صحصح على الانتظار” ص 25 .

ويتبعها باقي القصة عندما يتحدث عن زوجها ” استفاق زوجها بسبب جلبة أحدثها غضب السماء، تجمهرت الرعود في تقاسيم وجهها، تلبدت الغيوم، انشطرت الساحة المجاورة للبيت، فيما سكان القرية شاخ البحر بين أناملهم.

خرج يتفقد مصدر الجلبة، فأخبر بكون أجنبي جاء من قاعدة عسكرية بالمدينة المجاورة للقرية، بسط نفوذه على أرض لهم يستعملونها لرعي غريق اصطفت الحماقة   بجبينه.

ابتسم، رمق أشجار الزيتون تبلع ريقها، قطرات الندى هاجمت الفرح، أما النباتات فإنها أفصحت عن موعد لها بغريب لا تحبذ أن تراه.” ص26

وتشعر بغضبه الشديد وثورة الشباب العارمة في الذود عم وطنهم، ويعرض مواقف شيوخ الدين في عز المعركة، فيقول” غضب الأنبياء بين أنامل فقيه القرية الذي قال: إن الله يفعل بعباده ما يشاء.

متحت المعركة من الشباب عزائمهم، استشهد البعض منهم، فيما ما يزال الفقيه يتلو آيات من الذكر الحكيم. نقل الجرحى الى ربوة ما تزال تشكو ألم الفراق.

جمع زعيم القرية أنفاسه، توجه الى المقبرة، نخب الجواليق، بدأ يرش القبور بمسحوق الملح، والماء الساخن، فاستفاق من لفحوا اغترابهم، وتوجهوا الى ساحة المعركة حفاة، عراة، بأقدام كأنها عجلات يتطاير منها سرب حمام أخذ يحلق في السماء.

أما غير المستفيقين، فيبدو أنهم شكلوا حلقة رماد أخذه الأجنبي حليا، وأساور يصدرهما الى جزيرة في إطار تجارة تدر عليه أرباحا طائلة.

لم يبق لزعيم القرية إلا بناء بيت بالمدينة المجاورة للقرية، وبعد رحيل العائلة إليها أخذ فيروس ينهش جدرانها الخارجية، كما أخذ ينهش أعمدة الكهرباء،  والطرقات.” ص 27 –  28

سقط جدران المنزل، توفي كل من بداخله، إلا طفلة رجعت للتو للقرية، فوجدت منزل أبيها مطوقا بالعسس الذين يوجهون بنادقهم للمارة، فقيل إن جدران هذ ا المنزل صمدت في وجوه جرافات الأجنبي.” ص 28، بهذا الايجاز وبهذا العمق والجمال يصف الابراهيمي المعركة بكل تفاصيلها ويترك مساحة شاسعة من التأويل والتفسير، بل والغوص في تفاصيل وملابسات واحوال المعركة. مع إبقاء جذوة الامل الدائم لدى القارئ بغد أجمل وأرقى وأفضل، غد يعم فيه الامن والأمان ” في البحر عجوز تعودت العيش بثلاثة قلوب، اما الأول فإنها شيدته ببقايا الرماد، بعدما جفت دمعة وردة اضناها زمن عصيب، كانت تواجه به انتفاضة الأسماك المعلبة، كلما خرجت للشارع لتعبر عن موقف لتحسين ظروف عيشها، والتخفيف من معاناتها بسبب ضنك العيش.” ص 93 هكذا يعبر الابراهيمي عن الصراع المستمر بين الخير والشر ضد الطغاة وضد الجشع، يصف حالة الفقراء والمساكين يقف الى جانبهم يعري هؤلاء الطغاة الجشعين، لوحات فنية رائعة تستحق القراءة والتأمل، والتعمق في كل كلمة.

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*