“توفيق زيّاد شاعر الأمّة والأمميّة” كتاب الدكتور نبيل طنوس – د. رياض ياسين (جامعة اليرموك – كلية الآداب)

“وأعطي نصف عمري للذي يجعل طفلا باكيًا يضحك

وأعطي نصفه الثاني؛ لأحمي زهرة خضراء أن تهلك

وأمشي ألف عام خلف أغنية،

وأقطع ألف وادٍ شائك المسلك”.

” لا ندّعي أننا أفضل شعبٍ من شعوب الأرض، لكن لا يوجد هنالك شعب أفضل من شعبنا، أغني للحياة؛ فللحياة وهبت كل قصائدي، وقصائدي هي كل ما أملك ” توفيق زيّاد

توفيق زيّاد أمّة في شاعر، هو شاعر وأديب فلسطيني، من الرواد الأوائل في شعر المقاومة، تناول في أعماله الشعرية الوطن والأيديولوجيا الشيوعية التي اعتنقها شابًّا، كان مدركًا بأن ” على الكاتب الكبير أن يوجه قارئه نحو هدف كبير، هو التحرر من الوحشية ”

اعتُقل وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله، وعانى ما عانى لمواقفه الشعرية ورفضه للذل والهوان.

حُرم العالم من شعره وأدبه حينما وافاه الأجل إثر حادث مؤسف.

كان لاطّلاعه على أدب الشعراء الماركسيين والعالميين كبير الأثر في تعميق ثقافته الشيوعية.

شكل السجن تجربة مريرة في حياته ومسيرته؛ فأكثر الحديث عنه في أشعاره

يا إخوتي في الجوع والإرهاب

والخطب المحيق

يا إخوتي في السجن والأغلال

واللحن الطليق

وقد شكّل توفيق زيّاد ثالوثًا شعريًّا مع محمود درويش وسميح القاسم؛ ما جعل تجربته الشعرية تأخذ منحى التصوير الفني عوضًا عن المنحى الخطابي

“أنا ما هنت في وطني

ولا صغرت أكتافي

وقفت في وجه ظلّامي

يتيمًا عاريًا حافي”

هذا والتزم زيّاد في تجربته الشعرية ثلاثة أبعاد؛ البعد الوطني والبعد القومي والبعد الأممي العالمي.

كتاب توفيق زيّاد شاعر الأمّة والأمميّة إنجاز أدبي ثريٌّ ومثرٍ؛ فهو كتاب في السيرة الغيرية عمد فيه الكاتب إلى تناول ودراسة ظواهر شعريّة محدّدة من شعر زيّاد بشمولية وتمحيص؛ إذ لا يتسع المقام لكل ظواهره الشعريّة لثرائها واكتنازها، فأولى هذه الظواهر اهتمامًا خاصًّا؛ سيّما شعر السجون والذي ربما كان الرسالة الأهم في هذا الكتاب في أهمية وحق الأسرى في ممارسة الكتابة داخل السجون.

كما وأشار الكاتب إلى شعر زيّاد وقد زخر بالمواد التراثية التي اكتسبها كوسيلة لتنمية روح الانتماء.

وقد جعل الكاتب لأسرة زيّاد مساهمة في الكتاب، بكلمة لابنة توفيق زيّاد تتحدث فيها عن والدها وأثره وتأثيره فيهم ووجوده بينهم حتى بعد وفاته بأشعاره وكتبه وقوميته التي خطت سطورًا من ماء الذهب في تاريخ الوطنية، والأصالة التي غرسها فيهم شجرًا دائم الخضرة، وشمسًا ساطعة بالنور.

” وفي أشدّ الأيّام حلكة بحثنا عن نورك فوجدناه بين صفحات ما تركت من إرث خطابي، وطني، سياسي ومجتمعي، والأهمّ كانت قصائدك البوصلة التي أعانتنا، إذ عبّرت عنك وعن أفكارك بكلّ صدق وشفافية، وعمّقت فينا الأصالة”.

شرع الكاتب في تناول توفيق زيّاد وتجربته الشعريّة من خلال مقالات كُتبت في زيّاد ومواقفه وشعره ومحطات حياته ونضاله، والتي عكست لنا بشكل جليّ واضح جوهر توفيق زيّاد الإنسان العارف الماهر، وهي الصفات التي أهلته ليكون ذا مركز اجتماعي وسياسي، وهذه القيادة السليمة التي ظهرت في الأدب التقدمي والملتزم الذي ميز أدب زيّاد، وهذا ما أورده الكاتب في توطئته لبحثه حول توفيق زيّاد وتجربته الشعريّة؛ ليترك زيّاد بعد ذلك بصمته المتفردة في عالم الشعر والأدب ومجتمع السياسة ومشوار النضال.

كتاب ثريٌّ بما اكتنزت به صفحاته من مقالات نشرت في مجلات ملتزمة حول توفيق زيّاد مدعّمة بقصائد شعرية له؛ هي قلائد من جمان في عنق القضية والوطن وحقوق الإنسان،

ممثلة لتاريخ زيّاد الشعري الممتدّ من (1966) حيث صدر ديوانه الأوّل (أشدّ على أياديكم)، وحتّى عام (1994) حيث صدر ديوانه الأخير “أنا من هذي المدينة” بعد وفاته.

أورد طنوس في كتابه مقالات تناولت زيّاد وتجربته الشعريّة هي:

توفيق زيّاد من الأمّة إلى الأمميّة، والسجن في شعر توفيق زيّاد، وبين العنوان والمتن في قصيدة توفيق زيّاد رسالة عبر بوابة مندلباوم”، بالإضافة إلى مقالة رابعة للكاتب حسن عبّادي بعنوان “توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد”،

حرص طنوس فيما دوّن وكتب على المصداقية والواقعية مشيرًا إلى المراجع والمصادر التي اعتمدها في نهاية كل جزئيّة كتبها في كتابه؛ فكانت نقطة الارتكاز له في هذا الكتاب، والتي دعّمت ما قدم له وكتبه حول شخصية زيّاد وتجربته الشعريّة والسياسية، ليضيف إثر ذلك جديدًا لما كتبه السابقون.

ومن الجدير بالذكر أن ترتيب المقالات لم يأتِ عبثيًّا، وإنما كان مقصودًا متعمدًا.

من أهم المقالات التي أوردها الكاتب مقالة توفيق زيّاد من الأميّة إلى الأمميّة والتي كانت أولى المقالات المطروحة في الكتاب لأنها تطرح وجهة نظر واسعة تشمل في داخلها عالم الشاعر القريب والبعيد. حيث أشار طنوس في معرض حديثه لتعريف مصطلحي الأمّة والأمميّة؛ ليشير بعد ذلك لوجود ملامح أمميّة في شعر توفيق زيّاد تعبر عن تماهيه مع قضايا الشعوب الأخرى ودعمه وتضامنه مع نضالاتها، وحقها بالعيش في حرية وكرامة واستقلال، بالإضافة إلى موقفه الوطني، ومن هنا تطرق الكاتب لأمميّة توفيق زيّاد نحو أبناء الشعب اليهودي؛ فعرض ببعض الشرح علاقة زيّاد باليهود ونظرته لهم وكيفية التعامل معهم، متطرقًا لانخراط زيّاد في الحزب الشيوعي الإسرائيلي والقائمة الشيوعية بعد انفصاله عن ذاك الحزب.

“انا لم أكره يهوديًّا

فكره الشعب لم يدخل عروقي

ويدي ممدودة للشعب للعمال

هم صحبي وإخوان طريقي

إنما أكره كره الحرِّ

حكمًا جائرًا نشّف ريقي

إن يكن حكامه اغتصبوا شعبي وأرضي

فأنا دائمًا اوقفت للشعبين

حتى النصر قلبي وفمي”.

ولم يغفل الكاتب عن تأثير كل ذلك على شعر زيّاد ومواقفه السياسية بحكم اشتغاله في الكنيست الإسرائيلي؛ الأمر الذي جعله يرى إمكانية العيش مع اليهود ضمن دولة واحدة بحقوق متساوية لكلا الطرفين.

“يا سادتي

أعرف أسطوانة ” العداء لليهود ”

لكنني أسألكم

من الذي يرسلهم ليقتلوا على الحدود

من الذي ينحت في رؤوسهم

عقليّة العبيد

من الذي يجعل مستقبلهم

معلّقًا بالنار والحديد”.

” حطّوا في رجلي القيد، حُطّوا في كفّي القيد، قصّوا صوتي ولساني، واكووا أعضائي بسجائركم، حطّوا في عنقي حبل المشنقة الأسود، حطّوا بدني المقتول في لحدٍ داخل لحد

فأنا من شدّة حبي لبلادي لا أفنى وأموت، لكن أتجدد، دومًا أتجدد.

أمّا عن السجن في شعر توفيق زيّاد فقد كانت هذه المقالة تحتل الترتيب الثاني كنتيجة طبيعية لما جاء في المقالة الأولى؛ إذ أشار الكاتب إلى أثر الملاحقات والاعتقالات والسجن على تجربة زيّاد الشعريّة؛ حيث شكّلت حافزًا أيقظ موهبته الشعريّة فأبدع بإنتاجه، ما جعل إبداعه وإنتاجه الأدبي ينتمي إلى أدب السجون حينما دخل السجن ظلمًا لرفضه سياسة الاحتلال تجاه شعبه الفلسطينيّ، حين قال:

” عجبت لمن يرى الأغلال في يده ولا تحمرّ عيناه، ولولا اليأس ما بقيت ليومٍ زمرة الطغيان لولاه! ”

يستعرض الباحث بعد ذلك السجن في تجربة زيّاد الشعريّة، فيستطرد بذكر أسماء الباحثين قبله الذين عنوا بأدب السجون، كما يستعرض كثيرًا من أسماء الأدباء الذين سجنوا، فدونوا تجاربهم تلك شعرًا ونثرًا، على كافة الصعد، وفي مختلف الأزمنة قديمًا وحديثًا، مع تتبّع لمجموعة من الكتّاب الواردة أسماؤهم في كتاب “الكتابة على ضوء شمعة” ، فيقتبس من أقوال المحرِّرَيْن وأقوال الكتّاب الأسرى  مؤكّداً رسالة الكتاب التي دارت حول أهمّيّة ممارسة الأسرى للكتابة داخل السجون.

أما المقالة الثالثة توفيق زيّاد بوصلة تتجدد، فهي مكملة للمقالتين السابقتين.

في حين أن المقالة الرابعة  ” بين العنوان والمتن في قصيدة زيّاد: رسالة عبر بوابة مندلباوم، فهي مقالة عالج فيها قصة النكبة ونتائجها؛ كيف تشتت الشعب الفلسطيني في أنحاء المعمورة، وقد تميزت هذه القصيدة أن الشاعر يطرح على لسان المتكلم حالة شعرية، فالمتكلم يرمز إلى كل فلسطيني، والأم ترمز إلى كل أم فلسطينية، لقد درس قصيدة “رسالة عبر مندلباوم”، و التي حلل فيها : عنوان الرسالة وماهيتها ، معرّفًا ببوابة مندلباوم،  والشعار، والمتن، واللغة الشعريّة، إذ أشبع بالبحث: “الموسيقى والقافية، والفصل، ولغة المخاطبة  البارزة بضمير المخاطبة الواضح فيها ،وبلاغة القصيدة من خلال أسلوبي التشخيص والتشبيه  ، وعلامات التعجب و الاستفهام”، مستعينًا بآراء الناقد جيرار جنيت في تحليل النصوص، والوقوف عند عتباتها، وبنيتها اللغويّة.

” بالله هل ذبتم كما ذبنا إلى القرب؟

إليكم تحية خضراء كالعشب

الطائر المشتاق يهديها إلى السرب ”

أمّاه!

يا أجمل ما في العالم الرحب

يا حبة العين التي أعبد يا قلبي!

يبقى زيّاد  أكثر شعراء المقاومة الفلسطينيّة داخل الأرض المحتلّة تحدّيًا للمحتل والاحتلال ، وتحريضًا على المقاومة والجهاد ؛ تعكس ذلك  قصيدته المناضلة التي حافظت على نكهتها وطبيعتها  ، فساهمت في جعل زيّاداً طرف نقيضٍ ومواجهة دائمين مع الاحتلال، ليُعتقل عدّة مرّات، ويتعرّض  لمحاولات اغتيال، عدا عن مداهمة بيته ، وهذا الذي قدمه حسن عبادي في مقالته “توفيق زيّاد بوصلة تتجدّد”، فيستحضره خلال زيارته للكتّاب الأسرى، ليقدم لهم نموذج توفيق زيّاد المناضل بحق الذي وصف بالبوصلة المتجددة على الدوام ، ولم يأتِ هذا الوصف إلا من وحي شعر زيّاد وتأثيره الإيجابي كما ترشد البوصلة الضال إلى وجهته، ويتّفق موضوع المقالة مع ما جاء في الكتاب حول حضور السجن في شعر زيّاد، يقول عبّادي: “وتبقى ذكرى توفيق زيّاد الشاعر خالدة في سجل فلسطين وتاريخها، والحركة الأسيرة تتذكّره وتذكره بالخير، تتناقل الصور والقصائد التي تحدّى بها الاحتلال وجبروته، أشعار حثّت على الصمود ورفض الاحتلال، محافظة على هُويّة الأرض، وعروبتها، وفلسطينيّتها دون مهادنة أو مساومة”.

وكما نلاحظ فإن الكاتب قد أشار إلى شعبية شعر زيّاد وآنيته ووضوحه، وتناوله في معظم قصائده قضايا شعبه الوطنية إضافة إلى التزامه بمضمون أشعاره التزامًا كاملًا، منصفًا لزيّاد وتجربته الشعريّة مستحضرًا أثره وتأثيره بقصائد بدواوين مختلفة للشاعر.

وعلاوة على هذه المقالات والقصائد يوفّر كتاب طنّوس “توفيق زيّاد شاعر الأمّة والأمميّة” سيرة لحياة زيّاد تبرز فيها محطّاته النضاليّة والسياسيّة والشعريّة، والمنجزات الأدبيّة، ومسرداً لمجموعة من المقالات والدراسات التي تناولت حياته وإنتاجه الأدبي.

وزيادة في تكريم زيّاد وذكراه التي لا تغيب يورد طنوس آراء لمثقفين وسياسيين فلسطينيين ويهود بالراحل الكبير بصفة جمعت السياسة والشعر والعمل الذي قام واطّلع به من أجل السلام، ومن هؤلاء المسؤولين الرئيس الراحل ياسر عرفات.

والقارئ في كتاب طنوس تسبيه سلاسة اللغة وجزالة اللفظ، ما يضفي لقراءته متعة إضافية لمتعة قراءة توفيق زيّاد وتجربته الغنية شعرًا ولغة ونضالًا؛ فقد كانت مفرداته منتقاة بعناية فائقة تتلاءم ومضمون الكتاب وقيمة زيّاد الشعريّة والسياسية والاجتماعية متبعًا في لغة كتابه أسلوب السهل الممتنع.

جزيل الشكر ووافر التقدير للكاتب طنوس على هذه التغطية الشاملة لتوفيق زيّاد في تجربته الشعريّة والسياسية وإثرائنا بهذه القراءة الشاملة والوافية لعلم مميز في عالم الشعر والسياسة والنضال والدفاع عن الإنسانية من أجل الإنسانية.

أُلقيت المحاضرة في يوم الإثنين 25-9-2023، في بيت عرار الثقافي/ اربد

رابطة الكتاب الأردنيين/فرع إربد

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*