رحلة في ديوان “لن أعود إلى المرعى” للشاعر تركي عامر – فهيم أبو ركن

قلما نجد في شعرنا قصيدة أو ديوانا متكاملا على مستوى جيد، وإن وجدنا لا نجد القارئ الذي يقدر، ولا أبالغ إن قلت إننا أيضا لا نجد الناقد الذي يقيم، يفسر ويحلل ذاك العمل، لإيصاله للقارئ العادي! فثمة إحساس شائع في الوسط الأدبي أو اعتقاد لا أدري مدى صحته، يقول بأن معظم نقادنا يفضلون “التسلق” على أعمال المشهورين من الأدباء والشعراء!

أنا لا أرفض فكرة دراسة وتحليل أعمال أدبائنا وشعرائنا المشهورين – وقد قمت بدراسة نصوص لسميح القاسم ومحمود درويش – إنما يجب الالتفات أيضا إلى أعمال جيدة، حتى لو كانت مغمورة أو خارج دائرة الضوء، لأدباء غير مشهورين، وأقول غير مشهورين… لأن ثمة فرق شاسع بين غير مشهور وجيد، ففي عصرنا العديد من الشعراء الجيدين غير مشهورين، أو بكلمات أخرى، بين الشعراء غير المشهورين العديد من الشعراء الجيدين الذين لم يحالفهم حظ الشهرة لأسباب مختلفة، ليس هذا مقام تحليلها.

ثمة من يزعم أنه من النقاد، ويكتب مقالات المديح أو الذم، حسب علاقته بالكاتب، متسلحا بمجموعة نظريات أو شعارات عامة فضفاضة، بعيدة عن النص، يمكن أن تطلق على أي عمل أو تنسب إليه، لأن كاتبها لا يستشهد بنماذج وبراهين عينية ليدعم رأيه، أو ليطبق نظريته، فلا يُظهر للقارئ مواضع الضعف أو القوة حسب رأيه، بل يطلق أحكاما عامة شاملة، بينما “على الناقد الذي توافرت له الخبرة والدراية الفنية أن يتساءل عن مقومات العمل الفني للنتاج الأدبي الذي يريد نقده، وعن طريقة الكاتب في تصوير هذه المقومات وتحليلها، …. وهو يستشهد في كل ذلك بأثر العمل وأسسه الفنية، سواء منها الخاص بالصور والأخيلة في العبارات والجمل”[1]. وبكلمات أخرى: “يقوم جوهر النقد الأدبي أولا على الكشف عن جوانب النضج الفني في النتاج الأدبي وتمييزها مما سواها على طريق الشرح والتعليل، ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام [2]

من الدواوين الجيدة التي تستحق الدراسة والتحليل، ديوان الشاعر تركي عامرلن أعود إلى المرعى[3] والذي قدمت له الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت. وقد قررت بعد تمتعي بقراءته أن أحلل قصيدتين، واحدة من أول الكتاب والثانية من آخره في محاولة لإعطاء صورة عامة عنه.

بعد أن يخرج القارئ من المقدمة الجميلة والعميقة للشاعرة فاطمة ناعوت – قابلة الكتاب – كما أطلق عليها الشاعر نفسه، ( ص،28) يدخل مباشرة في البداية، وهذه البداية جاءت كقصيدة غير موزونة، وأنا أخالف قابلة الديوان في تعبيرها ” قصيدة نثر “! (ص،8)، رغم أن معظم النقاد يستعملون هذا المصطلح استعمالا خاطئا وشائعا، ففي هذا التعبير تناقض لغوي جوهري وشكلي واضح، لأن عبارة ” قصيدة” تحمل في داخلها معنى الشعر، فنيا، تراثيا ولغويا، بينما النثر هو نقيض الشعر! وعليه لا يمكن من ناحية منطقية علمية – كما نتوخى من العملية الناقدة – أن ننسب الشيء إلى نقيضه! كأن نقول مثلا: ” نهار الليل، أو سكر الملح!…الخ”، لذلك أفضل أن نقول قصيدة موزونة أو غير موزونة، والذي يريد التدقيق أكثر في النوع الموزون، يمكنه ذكر نوع الوزن إذا كان كلاسيكيا أو حسب التفعيلة، وعلى أي بحر يعتمد، أما الشعر غير الموزون فيحتاج إلى تعريفات أخرى، وربما تصنيفات متنوعة، حسب الشكل أو المبنى أو المضمون، وهذا ليس مقام البحث المطول فيه. وقد عبر عن معنى مشابه د. غالي شكري حين قال: ( إن إحلال كلمة “النثر” مكان الوزن لا تعبر إلا عن ” رد الفعل ” لا عن الفعل الذي يصنعه الشعراء الحديثون. فهي – قصيدة النثر- تقف في الطرف المقابل لما يدعونه بقصيدة النظم، ولكن دعاة هذه وتلك يلتقون في الواقع عند حدود المفهوم الكلاسيكي للشعر)[4].

قبل أن نبدأ السباحة بين دفتي الديوان والغوص في أعماق القصيدتين اللتين إخترتهما للنقد والدراسة والتحليل، ولكي لا نظلم باقي القصائد الجميلة في الديوان، لا بد أن نسجل بعض الملاحظات العامة التي يخرج بها القارئ من قراءته الممتعة لهذا الديوان، والتي تنطبق على معظم قصائد الديوان. إنها ميزات عامة، يظهر بعضها في عدد من القصائد بكثافة أحيانا، وبعضها الآخر يتكرر في قصائد أخرى، هذه الكثافة وذلك التكرار يضعه الشاعر في المكان المناسب ليخدم البناء و الفكرة، الإيقاع والمضمون بشكل ناجح.

من هذه الملاحظات العامة:

  • البناء المحكم للقصيدة من ناحية حسن الابتداء، التطور في الفكرة وترابط الأفكار، والذروة في النهاية.
  • لغة خاصة بالشاعر تجعلك عندما تصادف نصا له تقول: هذا النص والله للعامري، فلغته مميزة نابضة بروح العصر، “وقد يبدو لنا نتيجة لرواسب تفكيرنا القديم أن نستنكر للوهلة الأولى أن تكون اللغة نابضة بروح العصر وشعرية في الوقت نفسه، ولكننا نستطيع القول إنها لا تكون لغة شعرية بحق إلا عندما تكون نابضة بروح العصر. وليس من اليسير على الشاعر الذي تربى ذوقه على شعر عصر آخر له لغته الخاصة، ونبضه الخاص أن يقول الشعر بلغة عصره، لأنه يحتاج في البداية إلى عملية تخل عن القوالب والصيغ التعبيرية القديمة، لكي يستكشف القوالب والصيغ الجديدة التي تحمل نبض العصر أكثر من غيرها، وليست هذه بالعملية الهينة، لأن استكشاف لغة جديدة للعصر تكاد تكون خلقا لهذه اللغة”[5] وقد نجح بالفعل تركي عامر باستخدام روح العصر والتعبير عنها أيضا.
  • عناية الشاعر بالصور المجازية الرمزية، والعبارات المبتكرة، وعدم انزلاقه إلى مستوى الغموض والإبهام المعقد، إلى درجة استحالة الفهم التي يقع فيها العديد من الشعراء المقلدين! “فالتقليد الخاطئ يفقد الشاعر الترابط الوثيق بمجتمعه وبثقافته وفنه، وما يلجأ إليه من غموض يُفقد تعبيره الدلالة المعنوية للألفاظ والتعبيرات”[6]. وكما قال إليوت وهو زعيم الغموض في الشعر الغربي الحديث: ” إن العالم الذي يحاول الشعر أن يصل إليه ليس عالما بلا معنى، بل هو عالم له معنى، إلا أن معناه لا تصل إليه الكلمات المنثورة، فنحتاج إلى لغة الشعر التي تستطيع وحدها أن تبلغ هذا المعنى”[7].
  • اعتماد أو انطلاق الشاعر من خلفية ثقافة تراثية غنية، فهو يلتقط مواد القصيدة من عالمه المحيط به ومن وعيه الثقافي ومخزونه التراثي.
  • الميزة الساخرة التهكمية للمشاعر والأفكار، ونجاح الشاعر في اكتساب تضامن القارئ مع هذه الأفكار والمشاعر، وهو في هذا كما قال الدكتور محمد غنيمي هلال في تحديده لتجربة الشاعر: ” إنه يقتصر على عرض المسائل والمشكلات من خلال ذاته، يضيق بها، أو يهرب من مواجهتها في خواطره النفسية وآماله المنشودة، ولكنه هرب فيه معنى السخط والنفور، مما يصبغ هذا الهرب صبغة إيجابية اجتماعية في نتائجها، ولكنها نفسية في جوهرها ومنشئها”[8].
  • الإكثار من التلاعب في المترادفات والاشتقاقات.
  • حرصه على التعامل مع المحسنات البديعية حتى الإسراف أحيانا.
  • يعتمد كثيرا على الجناس، الطباق والتجنيس الحرفي، ليُكسِب القصيدة إيقاعا داخليا جميلا.
  • يكثر الشاعر من استعمال صيغة منتهى الجموع لدرجة تلفت النظر.
  • الإكثار من استعمال وزن الفعل الرباعي المجرد.
  • يستعمل القافية الداخلية ليزيد من التأثير الإيقاعي.

تفصيل لبعض هذه الملاحظات سنلتقي به من خلال تحليل ودراسة نموذجين من هذا الديوان كما ذكرنا سابقا.

البداية

إن القصيدة الأولى “البداية” تدوّن في مضمونها ماضي وحاضر وربما مستقبل مأساة الشعب الفلسطيني، وتسترفد أحداث قيام دولة إسرائيل، بأسلوب رمزي ساخر، مما ينم عن عقلية ناقدة، وربما ساخطة أيضا.

نجح الشاعر – كما سنوضح لاحقا – بربط رموزه التعبيرية، وشحنها بدفعات شعورية استطاعت توظيف دلالات شعرية مكثفة، متعاملا بفنية ذات صلة وُثقى بصيغة الكلمة، ووزن الفعل والصورة الشعرية، وصولا إلى التنامي الدرامي في البناء التركيبي للقصيدة. “فالبناء التركيبي من الأمور المهمة والمحورية، إذ أن جدة الشعر لا ترتكز على العواطف التي يعبر عنها، بل ترتكز على قدرة الشاعر في هز الوعي السائد بواسطة أبنية جديدة تحطم النظم التقليدية”[9].

يبدأ الشاعر بذكر التاريخ ص،17: “قبل جرح وخمسة عقود“. هنا ومنذ اللحظة الأولى نقف على عمق الإحساس وصدقه، والبراعة في ترجمة المشاعر.

فبما قل ودل، وبدون إطناب ممل، وبواسطة كلمة “جرح” وعبارة “خمسة عقود” مزج الشاعر بين المدى الزمني والحالة النفسية، بين التاريخ والمأساة، فعطفَ “جرح” على “خمسة عقود” ليُكسب “الخمسة عقود” بعدا مأساويا إنسانيا، ويضفي على “الجرح” عمقا زمنيا هادفا. إنها عبارة شاعرية مبتكرة يقف عندها القارئ وقد شدته لمتابعة القراءة، شاحنة نفسيته بأجواء المأساة.

ثم يُتبعها بعبارات ساخرة جاءت في زمانها المناسب ومكانها الملائم، لتجعل القارئ يضحك أحيانا وشر البلية ما يضحك!!:

من طقطقة مسابح وقرقرة أراغيل\ نزل ببيتنا ضيف غريب“.
لقد جاءت العبارات الساخرة لتؤكد على فكرة أو لتوضح صورة، فظاهرة المسابح تحولت من تسبيح الله في الأساس إلى التسلية والترفيه! لذلك أضاف إليها صفة الطقطقة وليس – الترتيل – على سبيل المثال، والأراغيل تشير إلى الانهماك في اللذة الزائلة. رغم هذا الإيحاء الجميل، نجد أن الشاعر أراد في عبارته هذه فوق ذلك المعنى، وجاء بتداعيات تحمل فوق ما يتضمنه المعنى الحرفي للكلمة معنى رمزيا مبطنا يشير إلى التخاذل، إلى الرجعية والإتكالية بعبارة “المسابح“، وإلى الانشغال بالملذات الزائلة وربما التافهة بعبارة “أراغيل“، هذا ما أتاح للضيف الغريب “النزول ببيتنا” !!.

تأتي الفقرة التي تليها ليعرفنا الشاعر على نتيجة هذا التخاذل، وما يسببه من ويلات ومضايقات لأهل البيت، ثم يعلن، ص،17:

كان في حوزة أبي بندقية\ اشتراها بأساور أمي \ غير سريعة الطلقات

انظر كيف جاءت الكلمات في مكانها المناسب، فقبل أن يعرفنا الشاعر على الحالة التي كان يعيشها “الأب” في بيته، وهو يرمز به للزعامة والحكام في الوطن العربي، قال: “نزل ببيتنا ضيف غريب!!“. النزول سبق باقي الأفعال، مما يدل على أن الأب كان متخاذلا، أو أن الضيف كان مبادرا، يعمل، يسخر من الأب، يهزأ به ويحتقره! إذ كيف ينزل الضيف دون أن يستأذن من الأب صاحب البيت، وقبل أن يلقي التحية، أو قبل أن يُرحب به في البيت؟؟.

انظر لقول الشاعر ص،17:

كان في حوزة أبي بندقية\ اشتراها بأساور أمي” هكذا نفهم أن الشاعر برمزه الناجح يخبرنا أن الأمة فقدت كرامتها، فأساور الأم تكون عادة بعضا من مهرها التي تعتز به وتحافظ عليه، إن لم تكن كل المهر، ومن يفرط به أو يتخلى عنه من أجل بندقية غير فعالة، لا جدوى منها، يصاب في كرامته إن لم يفقدها!!.

هكذا الشاعر يجعل القارئ يتماثل مع النص الذي يتطور بسرعة ليؤكد لنا هذا المعنى. فكيف عبَّر الشاعر عن عدم فاعلية مقاومة الأب؟ إنها عبارة بسيطة من نوع السهل الممتنع، الذي يحمل معان عميقة، ص،17:

غير أن بندقيته\ لم تكن محشوة رصاصا” وبعكس هذا الأب المتخاذل، كان الضيف مبادرا فعالا والأهم أنه كان مصمما، مؤمنا بما يفعل! والشاعر يعبر عن ذلك بانسياب ودقة، عاكسا المعنى السابق:

كان في جعبته بندقية/ محشوة رصاصا/ وعقيدة” فبكلمة “محشوة” عبَّر عن التصميم، وبكلمة “رصاص” عبر عن فعالية هذه البندقية وحزم صاحبها، وبكلمة “عقيدة” عبر عن الأيمان بالطريق.

حين توضع الكلمات في مكانها المناسب دون زيادة أو نقصان، دون حشو زائد، وحين تلائم الكلمةُ الدلالةَ المطلوبة في الصورة الشعرية، تكون الصورة موحية مؤثرة. ومثالا على ذلك نتساءل:

لماذا قال الشاعر: “كان في حوزة أبي بندقية” ثم قال “كان في جعبة الضيف بندقية“؟!! لماذا “حوزة” ثم “جعبة“؟ حسب رأيي لم يأت هذا صدفة! ربما جاء كي لا يستعمل نفس الكلمة مرتين! والأهم، ربما بوعي من الشاعر أو بغير وعي جاءت كل كلمة في مكانها المناسب بسبب الدلالات العميقة لكل من الكلمتين! فكل كلمة منفردة قامت بوظيفة دلالية خاصة.

كلمة “حوزة” هي من الحوز وهو بمعنى الملك، والحوزة، فَعلة، منه سميت بها الناحية، وحُزت الشيء جمعته، والحوز الجمع وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مال أو غير ذلك، فقد حازه، الحوز، موضع يحوزه الرجل [10].

لذلك فوجود البندقية في “حوزة أبي” يعني تابعة لأبي، أي أنها موجودة في مكان عام تابع له، لكنه مبهم غير محدد، وهذا يدل على عدم التدقيق، الإهمال وضعف الاستعداد والتأهب من ناحية الأب.

بينما كلمة “جعبة” وهي تعني كنانة النشاب، والجمع جعاب[11]. إنها خاصة بالسلاح، وهي دائما تعلق على الكتف وتربط حول الصدر جيدا كي لا تقع، إذن فهي قريبة من القلب. لذلك فهي تدل على القرب إلى حد الملاصقة، وهذا دليل على التصميم والدقة المتناهية، على الاهتمام الكبير، لأنها دائما في متناول اليد.

هكذا عبر الشاعر عن حالة الأب السلبية، وحالة الضيف الايجابية، بالنسبة للاستعداد والتصميم والتأهب.

 

يتابع الشاعر سرد نتائج المأساة بفقرات فيها عبارات موحية ورموز موفقة، بأسلوب رمزي ساخر، فاستعمال كلمة حفيد مثلا تفيدنا أن الصراع لم يقتصر على جيل واحد، بل تعداه إلى أجيال أخرى، وربما سيمتد أيضا إلى المستقبل، ص، 20:

وجاء حفيد الضيف الغريب \ يأمر حفيد أبي \ أن يظب أطراف عباءته قليلا \ لأن رائحتها \ تكاد تخنقه…. لملم حفيد أبي أطراف العباءة \ وظبظب قدميه إلى صدره \ وسكت \ ونام”.

هذه هي نهاية القصيدة، التي تجاور فيها وعي الشاعر بلاوعيه، فجاءت مكثفة موحية ذات دلالات متعددة ومتنوعة، تختلط فيها معاناة الكبت بالتطلعات المبشرة لبعث جديد.

تعال نكتشف معا بعض هذه الدلالات التي جاءت موحية، معبرة وفي مكانها وشكلها الصحيحين، حتى أن صيغة الفعل المستعمل، زادت من دلالات الصورة الشعرية العميقة.

لقد استعمل الشاعر كلمة “يأمر” لتوحي بهيمنة حفيد الضيف وسيطرته على الأوضاع القائمة، خاصة حين يأمر حفيد الأب صاحب البيت أن “يظب” أطراف العباءة، والعباءة رمز للعروبة المنتشرة في المنطقة، والتي يريدها حفيد الضيف أن تتقلص بسرعة.

“لكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء”[12] وقد جاء استعمال الفعل المضارع بصيغتيه، “يظب” و”يظبظب” موحيا، معبرا وملائما للحالة التعبيرية النفسية، الإرادية أو اللاإرادية عند كل حفيد على انفراد، ففعل يظب جاء بمعنى يطوي أو يجمع أو ينكمش ويتقلص، وهو باستعماله للصيغة القصيرة، يعبر عن رغبة حفيد الضيف المعلنة أو المكبوتة، بأن يكون الانكماش سريعا، مرة واحدة، دون تردد!! بينما استعماله في الصيغة الثانية الرباعية الطويلة بتكرارية الحروف “ظبظب” يوحي بتعدد حركات الفاعل ووجوب تكرارها لإتمام الفعل وتحميله المعنى الصحيح، مثل: رفرف، فتفت، لملم، زقزق، قهقه، وغيرها من الأفعال التي لا تنتهي بحركة واحدة بل تتطلب تكرار الفعل أكثر من مرة بل مرات ومرات. إذن استعمال “ظبظب” في هذه الحالة، يعبر عن عدم رغبة حفيد الأب صاحب البيت بالانصياع لأوامر حفيد الضيف، فجاء الانكماش بحركات بطيئة مترددة، لتعبر شكلا وقالبا ومضمونا عن وضع الحفيد وعدم رغبته تنفيذ الأوامر وربما التمرد عليها أيضا.

كذلك اختيار الفعل “ظب ويظبظب” من اللهجة العامية المنخفضة[13] – إذ لا يوجد في اللغة الفصحى فعل كهذا – جاء ليعبر عن أن هاتين الرغبتين انتشرتا وتغلغلتا بين الطبقات العامة لدى حفيد الضيف من جهة وحفيد الأب من جهة أخرى، إنها تعبير عن رغبة الطبقات البسيطة من الشعبين، ونحن نعرف أن الشعوب تخدع أحيانا كثيرة بدعاية الزعامة أو القيادة، وربما نستوحي من هذا الاستعمال العامي للفعل الوجه الآخر المعاكس لنفس المعنى، إذ أن الطبقات المثقفة عادة هي التي تستعمل اللغة الفصحى أو اللغة المرتفعة، وهي عادة في معظمها يسارية تقدمية، والشاعر بعدم استعمال كلمة مرتفعة في هذا السياق، إنما يعبر عن عدم قبول طبقتي المثقفين من الشعبين لهذا الوضع وعدم وقوعهم في شرك الدعاية السلطوية.

أما إذا انتقلنا من تحليل ملاءمة التعبير للمعنى، ومن دلالات الكلمة في موقعها المناسب، وحللنا الصورة كاملة، نجد صورة معبرة وموحية، تلقي رموزا وظلالا لدلالات متعددة، أوسع، أشمل وأعمق.

إذ ماذا توحي لنا هذه الصورة: “ظبظب قدميه إلى صدره \ سكت \ ونام” ؟! شرحنا أعلاه أهمية الفعل بصيغتيه ظب \ ظبظب، ولكن أن يظبظب قدميه إلى صدره يوحي لنا بعدة معان، سلبية وايجابية:

السلبية: الانكماش خوفا، أو ترددا.

الايجابية: التأهب أو جاهزية الانطلاق.

إذن فهذه صورة يمكن فهمها على عدة مستويات، إنها للانسحاب القسري أو التكتيكي أو الاستراتيجي، الذي يمكن أن يقوم به أو ينفذه حفيد الأب.

ولكن إذا تعمقنا أكثر، نجد لها دلالات أخرى، تُظهر علاقة التفاؤل بالتشاؤم والتلاحم بينهما في رؤيا الشاعر المستقبلية، كما تظهر في نهاية القصيدة.

فبرغم البساطة الخادعة في نهاية القصيدة، وبرغم دلالتها الأولى، والتي توحي بالاستسلام والخمول والموت، من خلال إذعان حفيد الأب للأمر وسكوته ونومه!… نجد أنها تصور لنا وضعية الجنين في رحم أمه. والجنين مرحلة سابقة للولادة، وهكذا يخبرنا الشاعر أن لا بد لهذه الأمة من ولادة جديدة، هذه الولادة يُكسبها الشاعر دلالات معنوية ايجابية، حين يُتبعها بفعلي السكوت والنوم، وهما فعلان سلبيان في ظاهرهما، ولكن ثبوتهما بعد معنى الإذعان للأمر يخلق حالة ايجابية، تماما كما نجمع السالب بالسالب في الرياضيات فينتج عنها موجب، والمعنى الايجابي الذي يختبئ بين ثنايا هذا التعبير، أنه لا بد للجنين أن يولد، ولا بد للنائم أن يستيقظ ويستفيق! وما السكوت إلا السكون الذي يسبق العاصفة.

هذه المعاني جاءت تذييلا للمعنى الأساس لهذه الصورة الجميلة، وأعطتها بعدا وعمقا كبيرين، هكذا جاء الشاعر بالسالب ليعبر عن الموجب، ومعا تتناغم الصورة عندما ينطلق الشاعر اللاواعي من داخل مأساة الشاعر الواعي، أو بكلمات أخرى، عندما يستسلم لاوعي الشاعر بسبب وعيه المأساوي، لعملية “المعاينة” الشعرية، فيلجأ إلى الهدم على أمل البناء.

 

النحو الفاضح

وننتقل إلى قصيدة أخرى في هذا الديوان المميز، وهي قصيدة “النحو الفاضح” ص 103، التي أعتبرها من الكتابات السياسية الفريدة من نوعها، لكن سياسيتها ليست العنصر الوحيد لجودتها، فأسلوبها الفني وبناؤها المحكم، جعلاها من القصائد القليلة التي تنجح بمزج القضية العامة مع القضية الشخصية في وحدة عضوية، دون الوقوع في مطبات الرتابة والمباشرة. ” الوحدة العضوية هي أبسط بديهيات الحداثة، الوحدة العضوية أو التنامي العضوي ليس قشرة لغوية للقصيدة. إنه في صميم كيانها، وهو ما يمنحها مناخا نفسيا متجانسا، ودلالات – مهما تباعدت – فإنها تتواشج لخلق هذا المناخ، وتخلق روحا للنص هي ليست شكله أو مضمونه، وليست خارجه أو داخله. إنها إذا استعرنا عبارة ( لوركا ) النخاع إذا كان الشكل هو اللحم، والمضمون هو العظم”[14].

إن الشاعر يصهر الأفكار لتذوب بين حروف العبارة، فتنفجر تجربة ناضجة، ينسجها الشاعر ويحيكها بأدواته الفنية، متعاملا معها بالرمزية الساخرة التهكمية، وبفيض من الشعور الغاضب الناقم!

إنها تبدأ بنقد قاس وساخر في عنوانها “النحو الفاضح“. وللعنوان أهمية كبرى في خلق الانطباع الأولي لدى القارئ، فتبديل “الواضح” الذي يتوقعه القارئ بعد كلمة “النحو” ب “الفاضح“، يدهش القارئ، يضعه أمام تحد وإغراء، ويشده للتعمق في معاني هذه القصيدة وأسلوبها، مكتشفا نقدا مؤلما إلى حد التهكم.

في هذه القصيدة يشير الشاعر إلى أننا – الأمة العربية – نعيش على أمجاد الماضي، الممتد إلى الحاضر في رجعيته السلبية، ويعبر عن ذلك بقوله:

( في دفترنا الفعل الماضي حي يرزق )

ثم يقدم نماذج عن سلبيات أو سيئات هذا الماضي المؤلم، منها قضية الوأد، إذ يقول:

( ودم الموؤدة أبيض يزعق لم أعشق / لم اسأل عن حب مجنون )

إنه يخبرنا أن هذه الموؤدة طاهرة، فدمها أبيض، والبياض رمز الطهارة، وعندها يقفز السؤال : إذن لماذا تقتل؟ ألأن الله خلقها أنثى؟! ثم يُطرح السؤال: لماذا يستلهم الشاعر هذا النموذج ويستحضره من غابر الزمن؟ والإجابة على هذا التساؤل: إن الرمز العميق هنا يتعدى سطحية عملية الوأد الجسدي في الماضي السحيق، ليعبر عن وأد روحي حاضر، مستمر ومتواصل، وهو كبح حرية المرأة العربية وهضم حقوقها في هذا العصر.

وبعد أن يكشف لنا الشاعر عدة صور من هذا الماضي، يقرر أن الاعتماد عليه  لا يجدي نفعا. فهو يقول:

( فعل الماضي في الغي برغم العي/ بلا سيف ماض معتل الأول والآخر )

في هذا التعبير استغل قدرته “الجناسية” ليشحن العبارة بمعان عميقة تتأرجح بين الغي والعي، بين فعل الماضي – زمنيا- والسيف الماضي – نعتا-. إنه يعبر عن عدم فاعلية هذا الماضي، ويؤكد أنه وصل إلى حد العلة أولا وآخرا.

ثم يتقدم في التعبير لينتقل من المعنى العام إلى المعنى الخاص، حيث يخص الزعامة أيضا، ويتهمها بالاتكالية على الماضي، ويرمز لذلك بالفاعل حين يقول:

( والفاعل يا أستاذ ضمير متصل \ ببكائيات تحترف استحضار خيول \ صلاح الدين ).

ثم يعبر الشاعر عن نقمته واحتجاجه على ثقافة الجسد، وانتشار تيار الإغراء في كل المجالات. فنحن نرى أن جسد المرأة يُستغل في الإعلانات التجارية، في الأفلام السينمائية، في أغاني الفيديو كليب، إلى آخره من استغلال سافر رخيص لمفاتن الجسد، والمادية السطحية.

إنه يعبر عن الانجراف في هذا التيار بعبارة:

( استثمار الجوع المتغلغل في وجع الطين )

فالطين هو التعبير عن المستوى المادي الجسدي، والجوع المتغلغل فيه تعبير عن الرغبات الغرائزية، والتي تستغلها الفضائيات بأبشع الصور، ص،104:

( بفضائيات تقترف استثمار الجوع ..الخ ).

حتى أن الشاعر استعمل عبارة “تقترف” وهذا يذكرنا بعبارة “تحترف” المشابهة، والتي تقفز إلى ذهن القارئ مباشرة، لكن الشاعر أحسن باستعماله معنى الاقتراف الذي يعبر عن ارتكاب الجريمة وهو ملائم أكثر في هذه الصورة الشعرية.

هكذا يوظف الشاعر الكلمات الملائمة في مكانها المناسب، ويستغل المصطلحات النحوية كرموز لها دلالات متعددة. اسمعه يقول ص 104:

( مبني منذ الفتح على فتح من غيب ظاهر).

الضمير في كلمة “مبني” يعود إلى العبارة السابقة “سيف ماض” فالسيف هو المبني، وكلمة “الفتح” الأولى مع أنها علامة النصب في بعض الحالات الإعرابية، إلا أنها تفسر أيضا على أنها رمز للفتوحات الاسلامية في صدر الإسلام وعصر الازدهار، ويمكن تفسيرها في قراءة ثانية كإشارة لحركة فتح الفلسطينية، لتتخذ الدلالات عندها منحى آخر واتجاها مغايرا. أما كلمة “فتح” الثانية فترمز إلى التعلق بالخرافات، أي بالأبراج والسحر، الفتح في الفنجان، الكف، الرمل وما إلى ذلك من شعوذات وخزعبلات معروفة. وما يؤكد هذا المعنى كلمة “غيب” التي ساعدت في تعميق الرمز ودعمت تلك الدلالة.

هذه قوة ومقدرة الشاعر في توظيف الكلمة من أجل تخصيب الصورة الشعرية، وتلقيحها بمعان متعددة ومتنوعة، يولدها القارئ أو الناقد بمتعة وفائدة، حسب طريقته وفهمه، وبقدر تنوع إمكانيات التفسير يكون عمق الرمز ونجاحه.

نموذج آخر لاستعمال المصطلحات النحوية بنجاح في هذه القصيدة نجدها في نفس الصفحة حين يقول:

( مرفوع كالتابوت على كتف التطمين / وعلامة رفع الفعل الذمة ظاهرة / ومقدرة لا تحرق ولا تغرق ).

في هذه العبارة جاء “التابوت” ليعبر عن حالة هذه الأمة التي تشبه الموت، و”كتف التطمين“، هو الاعتماد على الوعود الكاذبة، “فالكتف” هو العضو الذي نسد به أي ندعم به، “والتطمين” الوعود المهدئة. ويعرف القارئ أن علامة الرفع في أغلب الأحيان تكون الضمة، وقد بدلها الشاعر بجناس غير تام، حين وضع مكانها كلمة “الذمة“. هذا التلاعب بين الضمة والذمة شحن الدلالة الرمزية بأبعاد ضميرية وشعورية عميقة، خاصة عندما أردف قائلا: ( ظاهرة و مقدّرة ) مما أعطى الصورة تفسيرا يذكرنا بالمثل القائل: “والمخفي أعظم”.

ثم ننتقل إلى الصورة الشعرية التي تليها:

( والفاعل يا أستاذ ضمير منفصل عن كل قرارات القمم المسفوحة حبرا مفضوحا يرتاح على ورق التين ).

إنه تعبير جميل، يوحي بعدم فاعلية مؤتمرات القمة العربية، وعمليات استفراغها من الحزم والجدية، وبقائها حبرا على ورق يستر الفضيحة! وبقراءة مغايرة يوحي بانقطاع الزعامة وانعزالها عن أفكار المثقفين. غير أن الجملة الاعتراضية “يا أستاذ” خففت من الشحنة الانفعالية وكان يمكن الاستغناء عنها.

بعدها نصل إلى نهاية القصيدة:

( والفعل الأمر يلازمنا ويلاطمنا ليلا ونهارا كالطيف الأخرق / مبني منذ البدء على ذهب الصمت المغشوش بفتوى الفضة / خوفا من غمزة شطار ولمزة عيارين / والفاعل يا أستاذ ضمير مستتر خلف الملح المستوطن سر خميرة خبز الفلاحين ).

الشاعر في هذه النهاية يصب جام غضبه وسخرية نقده على القادة والحكام، ففعل الأمر الذي يلازمنا ويلاطمنا يرمز لأسلوب الوعظ – افعل ولا تفعل! – المهيمن في حياتنا، والذي أكل الدهر عليه وشرب! لكنه بقراءة ثانية وتفسير آخر، يعني الحكم الدكتاتوري الذي لا يعترف بالديمقراطية، ولا يكف عن إصدار الأوامر، لذلك ففعل “الأمر” هو حكم الدكتاتور الذي يكون ملازما لنا إذا رضينا به وسكتنا عنه، ويكون ملاطما لنا أي مصادما مواجها إذا لم نرض به.

هذه الملازمة وتلك الملاطمة تكونان مستورتين أحيانا، أي بحركات سرية وتنظيمات غير قانونية، وأحيانا تكونان مكشوفتين وذلك ضمن أحزاب أو معارضة مكشوفة واضحة، بقدر ما يتيح به النظام. وقد عبر عن ذلك بقوله: “ليلا ونهارا” وقد بدأ بالليل ليعطيه منزلة الشرف وليؤكد أن الأشياء تجري في معظمها مستترة سرية.

وعندما يقول:

( مبني منذ البدء على ذهب الصمت …الخ )

هنا يستغل الدلالات الشعبية، والحكمة في المثل القائل: “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب” ليلمح إلى صمت الشعوب عن هذه الدكتاتوريات!! أما الحاكم فهو “الفاعل المستتر خلف الملح المستوطن سر خميرة خبز الفلاحين” الحاكم المستتر المتخفي خلف معاناة الطبقات الفقيرة المستورة، والذي يستغل هذه المعاناة لإلهاء الشعب عن الأمور الحقيقية الجوهرية، وليقضي هذا الشعب وقته منهمكا في كيفية توفير لقمة الخبز.

بهذه الكلمات الموحية، والخصائص التقنية المتصاعدة تكثيفا شعوريا وتفرعا دلاليا، يصور الشاعر غضبه، وينهي قصيدته الفريدة من نوعها، من خلال محور فكري واحد ذي دلالات متعددة، ومن خلال مزج تلاحمي في الأسلوب والتراكيب، مستغلا قدرة فائقة في استخراج عصير شعري من المصطلحات النحوية، ليسكبه في قالب ساخر ناقد متهكم.

 

[1] . محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث: القاهرة، نهضة مصر. د، ن. ص، 19.

[2] . خالد يوسف. في النقد الأدبي وتاريخه عند العرب: بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1987، ص، 15.

[3] . تركي عامر. لن أعود إلى المرعى. الجيزة: كاف نون، 2003.

[4] . غالي شكري. شعرنا الحديث إلى أين؟: القاهرة : دار الشروق. ط،1.1991 ص،82.

[5] . عز الدين منصور. دراسات نقدية ونماذج حول بعض قضايا الشعر المعاصر: بيروت: مؤسسة المعارف،1985. ص، 65.

[6] . ن.م . ص، 120.

[7] . محمد النويهي. قضية الشعر الجديد: معهد الدراسات العربية. ص، 134.

[8] . محمد غنيمي هلال. النقد الأدبي الحديث:القاهرة: نهضة مصر. د،ن. ص، 462.

[9] . ت. س. اليوت. فائدة الشعر وفائدة النقد. ترجمة:يوسف نور عوض.( بيروت: دار القلم، 1982)، ص،18.

[10] . لسان العرب. مادة حوز.

[11] . ن. م. مادة جعب.

[12] . الجاحظ: كتاب الحيوان، ج 3 ص 39.

[13] . عن اللغة المرتفعة والمنخفضة أنظر كتاب د. محمود غنايم ” في مبنى النص” وكتاب…..

[14] . خيري منصور. ابواب ومرايا. بغداد: دار الشؤون الثقافيةالعامية 1987. ص 37.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*