مسارح الحياة ملتقى حكايات، منها ما يغادر الرؤوس، ومنها ما يسكن النفوس. في هذا المجمّع المتحرّك يستفزّ الواقع فضوليين بمشاهد تحفر في الذاكرة، لتشهد عند الحاجة. منها ما قد يسلّيك، ومنها ما قد يبكيك… فتنهض لتدوّن جملة أخرى حول الصراع بين الوهم والحقيقة.
في محطة باصات مركزية في مركز البلاد، قبل حوالي اثنين وعشرينَ عامًا، استفزّ الفضوليّ مشهد لا يشقّ لشهادته الغبار. أمّا وقد عقدت جلسات محاكمة العنف، فقد رأى أن يشقّ الحضور ويدلي بأقواله كشاهد عيان.
هناك التقيناه.. وافترقنا نحمل التحية للدكتور شكري عرّاف أمانةً ثقيلة من الدكتور (….). وهو طلائعيّ مشهور ملو هدومه، يحمل مسؤوليات جسام معلّقة بربطة عنق أنيقة تدعم جسامته بوسامة ملفتة! ينتعل حذاءً أميريًا لا يجرؤ عليه الغبار.
وصل المحطة يسوق ناقلة بضائع يعجز عن جرها حصان، بالإضافة لتهريبة راكب على الأقل في الصندوق المسمى رحمًا!! على فردتيّ زنوبة تدور حافلة بهذا الوزن!! برقةٌ، فرعدةٌ تهزّني بعنف لحظة انكبت على مقعد أفرغ لها قبل وصولها! شولحت الحمولة على الأرض، بما فيها حقيبة يدها.. فتكرّم الدكتور، رفعها وناولها إيّاها بكل أريحية! إذ يبدو أن مشاغله وأعباءه لا تسمح بأكثر من هذا!! وانخراطه في الحديث الرويّ مع نظيره المثقف يثبت ذلك!
خشينا، وفي عيون الآخرين خشية، أن يكون الرصيف مسقط رأس ابن/ة دكتور عربي. وهذه بهدله مطنطنه بشهادة عليا!! كما خشينا أن نستدعى لآخر الدنيا للشهادة على ولادة راكب باص مجانيًا مدى الحياة، على غرار المولود في الطائرة! لكنّ الله ستر وقد نتع الحمولة بسرعة، ليستقلّا باصًا غير الذي ننتظر!
تزاحم الأقدام متسكَّعٌ جيّد للطفيليّ والنشّال والمسترزق ببيع الفوانيس السحريّة وحمالات المفاتيح و … ما كان أسهل على النشال أن يخطف بلمح البصر كيسًا من الأغراض، بينما السيدة تمسح عرقها وتسوي نقابها! وما كان أسرع زوجي باستعادته بدون ضجّة، ولفت نظر الدكتور بنظرة!
اليوم، ومع الاستنفار ضد العنف، أستعيد هذا المشهد، فيما أسترجع قراءة في بعض مأثوراتنا الشعبية، وما تنطوي عليه من حكم أصابت أكثر من موضع في مجتمع حرص على بناء قرى مستقبله بناءً متينًا محصنًا ضد الهزات المحتملة. أمّا الراصد العلمي، فينذر ويحذّر من الدخول الجماعيّ إلى أقفاص الحريّة الكرتونيّة حيث تحترق دواوين خبرات السالفين. ويذكِّر أنّ ” الفوته بالايد والرجعة مش بالايد”! لعلّنا نستلهم من قولهم: “أربط جرحك منيح لا بدما ولا بقيح“. “والرزق السايب بعلّم الناس الحرام“. “وخلّي عينك عبيدرك عشرة عشرة“. “أقعد قبال عنزتك بتخلف توم“. فقد تكون هذه مواد مضادة العثّ الرؤيويّ.
بينما نحن منشغلون بالبحث عن الأزعر “عنف“، نستشفي بتمتمة الرقوات، آملين بالقبض عليه والعفو عنه، مؤمنين أن العفو عند المقدرة فضيلة! لكنّ زمن تمتمة العجائب قد ولى، وحلّت محله الكسّارات والجرّافات والمحارق. وتشير صور الأقمار الاصطناعيّة إلى أننا في مركز المدخنة المركزية. وأننا إذا نجونا بأعجوبة، فإننا سنثري المستقبل بعائلات مشلولة الثقافة، كسيرة النفس، هجينة الفكر، كسيحة اجتماعيًا. أما الحكيم فيردّ أسباب دوارنا لاستسلامنا للقدر. وينصح بالنظر جيدًا في صدر البيت “إذا الشعب يومًا أراد الحياة“_، وشطب عجزه “فلا بد أن يستجيب القدر“. فهو على يقين بأن القدر لا يستجيب بالتباكي والتشكّي والرجاء مع الدعاء وشقّ الصدور، وتقديم الزكاة وإيفاء النذور، فهو لا يرتشى ولا يجامل بالاستعطاف.
فهل يكون القدر الذي جمعنا أمس في أجواء أم كلثوم وفيروز ووديع الصافي و … والمتنبي ودريد لحام ونزار قباني و …و … حتى آخر صفحة من الأطروحة، حيث مرابط العظمة والحكمة والثقافة والرقيّ والعذوبة، هل يكون هو ذاته الذي يجمعنا اليوم حول شيطان العنف، مفرزاته ومتوالياته؟ أو يكون نادمًا على أفضاله السابقة؟
القدر يعرف ويعترف أن كلنا في هذا المجتمع صاحب بيدر ورزق وعنزة… وناقة وجمل. ويعرف أن الدكتور (…) قاعد قبال عنزتو.. رابطها بإيدها اليمين بسليتة رباع، وبأيدها اليسار حيه براسين! ويعرف أن بضاعته المسيّبه سهّلت على النشال مدّ يده… ويتساءل الفضوليّ: ترى، هل نحمّل القدر مسؤولة تربية العنف؟ هل ننتظر من المولود محظيًا بوالد دكتور، وتذكرة مجانيّة، أن يكون متوازنًا ثقافيا، أو ودودًا؟ وهل ننتظر من مرضعته أن تكون أمًا حلوبًا رخيمة الدرّ؟
من ذات النافذة أقرأ قصة ذات صلة: يحكى أنّ أسدًا ساءت حاله الجسدية والنفسية حتى كادت أن تهزّ كبرياءه، بسبب عظمة علقت في حلقه أثناء وجبه شرهة. ولم يتمكن منها بالبلع، أو التقيؤ! فأعلن عن مكافأة عظيمة لمن يخلّصه منها… وكانت المكافأة من نصيب اللّقلق مع تربيحة جميله! وهي أنه خرج من فم الملك الرهيب سالمًا!
اللّقلق يرفع الحقيبة! فأي مكافأة إنسانية/عاطفية ينتظر من اللّبؤة؟ وأي شهادة سيحمل الشبل لغده؟ أوليس هذا، يا نحن، جنينًا من أجنة العنف المكوّرة داخل أحشاء مجتمعنا؟؟ هنيئًا لنا بهكذا نُخب!!