أفروديت لم تسحق روحي – سعيد نفاع

أصرّ صديقي أن نقضي يومنا الباقي في قبرص عند صخرتي أفروديت على الشاطئ الجنوبي لقبرص، غير مبال بما انتهت إليه صاحبة دكان السوفنير السارقة جمال الشرق والغرب من حكاية ذلك التمثال الناهد المقطوع اليدين، إذ روت:
– إن صاحبته هي أفروديت ربة الجمال والعشق والخصوبة و”أفروس” تعني في لغتنا الزبد الأبيض. كانت السماء زرقاء صافية عندما بشرت بمولدها، فخرجت من الزبد الأبيض كما اللؤلؤة من الصدف على شاطئ جزيرتنا الجنوبي بين صخرتين ما زالتا هناك تشرئبان من المياه.
وهناك من يقول إنّ صَدفة خرجت من الزبد الأبيض انفتحت عن طيف نوراني فسجد الماء تحت قدميها الصغيرتين متمتما بصلاة الحب لرب الحب مرتلا أنشودة الجمال لرب الجمال، فهرعت عرائس الماء إلى الطفلة وتولين تنشئتها، وإذ شبّت هرعن بها إلى الأولمب مسكن الآلهة لتتلقاها ولتأخذ سكناها بينهم. كانت متلألئة كتمثال من نور لها شعر كأشعة الشمس فوق كتفيها العاجيتين فيظل النسيم العاشق يقبله فإذا تعب تركه لينتشر فوق الخصر أو الصدر ثم يعود إليه بقلوب الآلهة وأرواحها لتسحقها أفروديت الجبارة.
هذه هي حكاية هذا التمثال الذي يملأ جزيرتنا، وأردفت:
– ما زالت أفروديت حتى أيامنا تعود إلى مسقط رأسها في أوقات غير محدّدة وتغيب ويغيب معها رجل تنتقيه من روّاد صخرتيها.
تبادلنا وصديقي النظرات ولم نستطع بعد هذه القصّة أن نخرج من الدكان دون اقتناء ممّا يخلّد على الأرض أفروديت. وفي الشارع دار بيننا نقاش أفضى إلى أن نقضي يومنا المتبقي عند صخرتي أفروديت، هو مصر كونه الطبيب المؤمن فقط بما يحسّه بإحدى حواسه وأنا متردّد تردّد الكاتب الذي لا حدود لخياله.
وفي المسافة بين لارنكا قلب قبرص اليونانية الاصطناعي بعد أن شطرت نقوسيا قلبها الطبيعي نصفين، وصخرتي أفروديت، راح السائق بعد أن عرف وجهتنا يروي:
– نفخر بنسب جزيرتنا إلى أفروديت. منذ آلاف السنين في القرن الثاني عشر قبل أن يكتب هوميروس ملحمة الإلياذة…
وحانت مني ومن صديقي التفاتتان ودون أن ننبس ببنت شفة فهمت وفهم أنّنا لم نستطع أن نحدد الزمن لكنّا لم نسأل السائق الذي تابع:
– حملت الأمواج قوقعة كبيرة وحين انفرجت القوقعة خرجت منها أجمل امرأة في الكون، إنّها أفروديت. حين أقامت على الجزيرة معبدها ظلّت الفتيات تتوافد إليه للتضحية بعذريّتهنّ مع أيّ وافد غريب للجزيرة فيما يسمّونه البغاء المقدس. وقد نشب خلاف بين أفروديت وإلهة أخرى حول من الأجمل فقررتا أن تحتكما إلى أحد البشر فنزلتا والتقيتا ابن ملك طروادة ناولتاه تفاحة ليمنحها للأجمل فمنحها لأفروديت، فنشبت حرب ضروس ما زال أهالي قبرص، على خلفيتها، يعتبرون النساء أساس وسبب الحروب.
وأنهى:
– أفروديت هي عشتار عند البابليين وهي إيزيس عند المصريين وهي فينوس عند الرومان.
عند هذا الحد وإن كنّا صديقي وأنا نسمع دون تعليق مثلما كنا نسمع في الدكان، وجدتني أسأل:
– كيف هذا؟
فبادر صديقي الطبيب:
– لا تستغرب… أعرفت الآن من أين أصل تقمّص الأرواح!
ما كان يشغلني أكثر من هذا هو حقيقة استمرار ظهور أفروديت وخطف الرجال لتسحق أرواحهم وقلوبهم كقول بائعة السوفنير، لكنّي لم أتلقّ تأكيدا من السائق إذ كنّا وصلنا. تقدّمنا من البحر من الصخرتين النابتتين في قلبه، وقلبي يعلو وجيبه لم أعرف إن كان خوفا من البحر الذي أخافه أو خوفا من أن يصادف خروج أفروديت هذا اليوم وأكون اختيارها.
جعلت الطبيب أمامي بخطوات رغم أنّ في هذا نوع من خيانة الرفيق، لكنّي تداركت وحثثت الخطى فلن يغير التأخّر أو التقدّم من اختيار أفروديت إن كان طالعنا أن تخرج اليوم وعلى أحدنا سيقع اختيارها. عدا عن ذلك لماذا ستختار منّا نحن فالشاطئ مليء وربّما فيه من يودّ أن تختطفه وقد جاء خصّيصا، وهي كإلهة تعرف ما في النفوس والمخطوف رغبة غير المخطوف عنوة، هذا الاجتهاد هدّأ من روعي وتقدّمت مطمئنّا، فراح يداعب خيالي أمام روعة المكان ورهبته ما روته سارقة الجمال الشرقي والغربي وما رواه السائق مفاضلا، ففضلت ما روته السارقة غير خائف من نهاية ما روت.
كانت السماء زرقاء صافية كيوم مولد أفروديت والبحر هادئا لا تكاد تسمع قبلات أمواجه الرمال وصخرتي أفروديت، لا أعرف لماذا خفت من هدوئه وهو المخيف بهياجه.
كان الأولمب سيّد الدنيا يعجّ، فزيوس سيّد الآلهة مرسل الصواعق هادئ، وهيرا شريكة دربه سيدة الملك راضية رغم الظلم القاهر والفقر المدقع، وأبولّو بين الحيوانات والآلات الموسيقية لاه عن الشمس رغم ارتفاع حرارة الأرض، وأثينا بين كتبها ضائعة رغم الجهل الذي يلف الأرض. أمّا أفروديت فتلهو موفّرة من سحرها كلّ أسبابه لمخطوفها لكن حسب هواها وعنادها، وربّما إلى أن يحين موسم الاختطاف القادم غير آبهة بشيء، رغم موجات الاكتئاب أحيانا النابعة على الغالب من كونها مدلّلة أبيها زيوس سيد الآلهة.
الأولمب وأفروديت مزيج قاتل كان علي أن أتحمّله لأنّني أحببتهما رغم كلّ شيء، وكادا ينسياني كلّ شيء لو أنّي وأنا أجول في الأولمب وأفروديت لاهية عنّي بهواياتها الطفولية، سمعت بكاء مريرا شدّني مصدره وإذ بي أمام حشد ضخم ميّزت فيه خالدا والداخل وصلاح الدين والمختار والأطرش والقسام وجمال وابن رشد وابن سيناء والفارابي وأبا العلاء والمتنبي وأبا فراس يعفّرون رؤوسهم بالتراب.
أراحني من إمعان النظر إلى حالهم أن هبّ النسيم يحملني وعاد ليقبل شعر أفروديت المنشور فوق الصدر والخصر، وقبل أن تسحق قلبي وروحي حطّت الطائرة على مدرج المطار.
القصّة من مجموعة: “سمائيّة البوعزيزي”

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*