صورة للذِّكرى- عامر عودة

الولد يلعب بالكرة داخلَ البيت. زجرَه والداه خوفًا من أنْ ترتطم كرته بإحدى التّحفِ الزّجاجيّة وتُحَطِّمها. وبِعنادة صبيانيّة، قرَّر أنْ يركلها ركلة أخيرة قبل أنْ يُذعن لطلبهما، فارتطمت بصورة مُؤَطَّرة معلّقة على الجدار وأوقعتها أرضًا مُحَطَّمة.

رفعَ الأب الصّورة عنِ الأرض غاضبًا. إنّها صورة والديْه المرحومَيْن. قَبَّلَ صورتهما داعيًا لهما بالرّحمة، ثمّ وضعها داخلَ إحدى الأدراج، إلى حين أنْ يشتري لها إطارًا جديدًا ويعيدها إلى مكانها. ثمّ أشعل سيجارة وخرج ليدخّنها في ساحةِ المنزل…

وَقَفَ في السّاحة ناظرًا إلى بيت والِدَيْهِ الّذي عاش فيه ثمانية وعشرين عامًا، قَبْلَ أنْ يتزوَّج وينتقل للسَّكن في بيته هذا، الّذي بناه له والداه بِتَعَبِهِما وكَدِّهما على الرّغم من أوضاعهما المادّيّةِ الصّعبة. فهو وحيدهما وأغلى ما يملكان. تَذَكَّرَ كَيف كانت أمّه تعمل بخياطةِ الملابس في منزلها، وتوفّر معظم ما تتلقّاه من نقود، من أجلِ بناء بيت جديد له. أمّا والده فقد رَسَمَت معاولُ التّعب على وجهه أخاديد. إذ كان يعود من عمله في البناء منهكًا، تُلهب سياطُ الشّمس جلده في الصّيف، وفي الشّتاء توخزه إبرُ البرد، فتتورَّم أطرافه من وخزاتها الّتي لا ترحم. وجُلَّ همَّه أنْ يوفِّر ما يكفي من مال لتعليمِ ابنه في أفضلِ الجامعات. كانَ العِلم حلمه الّذي لم يستطع تحقيقه لنفسه. لقد حُرم منه نتيجةَ الفقر، فأراد أنْ يحقّقه لابنه، فأصبح هوَ المشروعَ الأهمّ بالنّسبة له.

والداه لم يعيشا حياتهما كما يجب؛ لم يخرجا يومًا في رحلة إلى خارجِ البلاد، وفي داخلها كانت نزهاتهما قليلة. لم يَملكا يومًا سيّارة جديدة؛ لم يعتادا الذّهاب إلى المطاعم والنّوم في الفنادق إلّا نادرًا… عاشا فقط من أجله، من أجل بناء مستقبل له، حتّى تَعَلَّمَ وأصبح مهندسًا. وعندما تَزَوَّجَ أسكناه في هذا البيتِ الجديد، الّذي يعيش فيه الآن مع زوجته وأولاده.

بعد تَخَرُّجِهِ منَ الجامعة عَمِلَ مهندسًا في إحدى الشّركات، وحصل على راتب جيّد، وعندما حانتِ الفرصة لِيُعَوِّضَ والديْه عنِ الحياةِ الزّهيدة الّتي عاشاها، أخذتهما المنيَّة واحدًا تلوَ الآخر خلال أقل من سنة!

انفطر قلبه حزنًا لأنّه لم يستطع أنْ يَرُدَّ لهما الجميل قَبْلَ رحيلهما عن هذهِ الدّنيا، فَعَلَّقَ صورتهما في بيته، لكي لا يغيبا يومًا عن عينيْه. وكانت بالنّسبة له أجمل ما في المنزل. وها هو حفيدهما يُسقطها أرضًا مُحَطَّمة.

مَرَّتِ الأيّام. وكُلَّما اصطدم نظرُه بالفراغِ الّذي تركتهُ الصّورة على الحائط، يلوم نفسه على أنَّه لم يُصلح إطارها بعد، لكي تعود مكانها في صدرِ البيت. فذاكرته ووقته كانا يلعبان ضِدَّ إرادته، إذ أنَّ الشّركةَ الّتي يعمل فيها، أخذت كلَّ تفكيره بعد أنْ أصبح مديرًا لمكتبِ الهندسة فيها.

…بعد عِدَّة أشهر بدأ نظره يعتاد على أنْ يرى الحائط فارغًا، وبدأت ذاكرته تترك مكانَ الصّورةِ الفارغ وتذهب إلى مكان آخر… وبقيت صورة والديْه داخلَ الدُّرج لأكثر من سنة. حتّى جاء يوم ووضعتها زوجته داخل كيس منَ النّايلون، وأركنتها في إحدى الخزائنِ الّتي يحفظون فيها الصُّورَ التّذكاريّة…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*