عندما نكتب عنوانًا، نبحث عن محتواه، ونلائمه مع قصَّتنا الّتي بين أيدينا، ولا أُخفي إعجابي بعنوان القصّة العلميّة الّتي خطّتها يد المربية فتحية عبد الفتاح، لما فيها من تناص أدبي مع المفكر المصري خالد محمد خالد، الّذي عنون كتابه قبل سنوات بعيدة ” في البدء كان الكلمة” ورأيه أنَّ بداية الخلق بدأت بفكرة، بكلمة، ومِن الفكر انطلق إلى الفعل، وها هي المربية والكاتبة فتحية أمين عبد الفتاح، تستعمل التَّناص الادبي في البدء للدّلالة على بدء الحياة بتطبيقها العملي وكأنّها امتداد لفكر المفكر خالد محمد خالد، وهذا يدلّ على عُمق وسِعة اطّلاع الكاتبة، وفهمها العلمي الدّقيق للمحتوى، مما أعطى القصة زخمًا وقوّة جذب عند القارئ الكبير قبل الصّغير إلى قراءتها بشغف والاطّلاع على مُحتواها.
انَّها قصّة من الخيال العلمي، عنوان صغير، بحجم الكتاب، يحمل الكثير من المعاني، قصة ليست ككل القصص، إنّها تستنطق قُوى الطّبيعة، في حوارات علميّة بسيطة عميقة مفهومة واضحة ومشوّقة، تنساب الأفكار فيها بلغة سَلسة مُعبّرة مُفرحة دالّة على عُمق المعنى وغزارة الفكر المُبدع، تترتب الحروف، وتنساب الكلمات كما تنساب وتترتب قطرات الماء المُنسابة في نهر الحياة المتدفّق بلا توقف، كانسياب الحياة نفسها.
حتى غلافها الزّاخر بالألوان، يحمل الكثير من المعاني الّتي تشي بمحتواه العلمي، صورة نهر متدفّق مساره يخترق الطّبيعة البكر، وقطرات الماء تتطاير في كل اتجاه، ويزيّنها تناصّ فني راقي، صورة من لوحة الفنّان العالمي مايكل انجلو “خلق آدم” وفيها تعبير عن بدء الحياة بالتقاء شفّاف بين زوجين.
وكانسياب الطّبيعة في صيرورتها الاولى، وكتطور الحياة البشرية على الأرض، ينساب الحوار العلمي، العملي، الراقي، الحقيقي بين قطرات الماء فيفضي إلى معلومات جديدة للفتيان، إلى تفكير جديد، إلى روح جديدة وثّابة، تُخاطب الطّبيعة تناجيها، تُعالجها، تُحاورها، تقوّم مسار الانسان نحو حياة طبيعية جديدة، أكثر امنًا وامانًا أكثر صحة ورقي، وفي الأساس تُعلم معنى الحياة.
فتحية أمين عبد الفتاح تدخل عالم قصّة الفتيان من أوسع أبوابها، فهي مربية ناجحة قضت جُل وقتها في مجال التربية والتّعليم، وهي معلّمة علوم، تتحدّث بلغة العلم وحقائقه، بأسلوب الاديب العارف، فتخرج الكلمات والتعابير مخاطبة العقل والوجدان وتعطي للكلمات معنى أدبي وقيمة علمية.
كتاب صغير الحجم وقليل الكلام، ولكنّه زاخر بالمعلومات العلميّة والادب الرّاقي بأسلوب شائق، يخاطب جيل الشّباب، يحاكي مواضيع علمية من قلب الطبيعة، كدورة المياه في الطبيعة، قوتها فائدتها، موضوع التلوّث والتّدمير الحاصل للكرة الأرضية، ومعنى أن نحافظ عليها ونعطي لقطرة الماء قيمتها لأنّها أساس وجودنا على هذه الأرض.
قصّة من الخيال العلمي الراقي، يشعر القارئ أنَّه يقرأ قصة رومانسية في حين هو يقرأ معلومات علمية بحتة، مِن تكوُّن قطرة الماء من الاكسجين والهيدروجين، على وجه الأرض وصناعة الحياة، إلى ولادة الكائن الحي بما فيه الانسان نفسه في الحيّز المائي، إلى القضايا المُلحة الّتي تسبب فيها الانسان في رحلة تطوره وتغلّبه على قوى الطّبيعة الأخرى، أسمعها تقول على لسان عناصر قطرة الماء قبل أن تتكوّن” فجأةً شَعَرتُ أنَّ أحدَ العناصِرِ يَسبحُ إلى جانبي وصَارَ يَنْجذِبُ اليَّ بسُرعةٍ هائلةٍ، حاولتُ أنْ أهرُبَ مِنهُ لكنَّ سُرعتَهُ كانَتْ أكبرَ مِنّي فَلم أستطعْ الإفلاتَ مِنهُ، ثُمَّ تلاهُ آخَرُ، مِن نفسِ نوعِهِ وراحا يلُفَّانِ ويدورانِ مِن حَولي ويُحاصِراني في حيّزٍ ضَيّقٍ، وهكذا صارَ الحَيّزُ يضيقُ ويضيقُ، إلى أنْ تَدَخَّلتْ يدُ الرَّبِّ وجَمَعتنا باتّحادٍ، ربَّما لأمرٍ ما، كانَتْ مَشيئةُ الرَّب تعملُ لأجلِهِ، فكُنتُ أنا الأكسجين وهُما الهيدروجين، ثُمَّ تَنازلَ كلٌّ مِنَّا عَن بعضِ صِفاتِهِ لِكَي نُسَهِّلَ عمليَّةَ اندماجنا لنكوِّنَ معًا وَليدًا جديدًا قَطَرةَ ماء “ص: “6” .
وعندما ارادت الكاتبة أن تكتب عن الدّور العظيم الّذي تقوم به وتلعبه قطرة الماء جعلتها تتحدث وتعبّر عن خواصّها، وبما يشعر القارئ انّه أمام، حياة متدفقة حقيقية، تتكلم إليه بكل الرّقة والأحاسيس الجميلة والمفيدة فتقول: “صرَخَت وحَزِنَت لابتِعادِها عَن رَفيقاتِها لوَّحَت لَها رَفيقتُها مُودِّعَةً وقالت:
- لا تَحزَني يا أُختي لربَّمَا نَلتَقي يومًا ما في فَمِ فقيرٍ، نَروي عَطَشَهُ أو فِي كأسِ شَرابٍ فَاخِرٍ عَلى مائِدَةِ مَلكٍ غَنيٍّ أوْ فِي رَحمِ امرأةٍ تستَعّدُ لِتَضَعَ مَولودًا جديدًا على هذه الأرض. ص:”9″.
بقي أن نشكر الكاتبة على هذا النّص العلمي الرّاقي والجميل، ونتمنى لها التوفيق ونطالبها بالمزيد.