قطّبت، حدّقت … صفقت جبينها بأخّ … مرّجته وكأنها تذكّرت …
كانت صدفة خير من ميعاد. على متنِ جندول فاتنة الدنيا وحسناء الزمان، وقعت عليها قطعة من الشهد البربري الخالص مغلّفة بأسالة من أشف الشمع وأحلاه. لكنني، ودون الاَخرين، ملت عنه ! لعلها الفطرة قد استشعرت ما لم ألحظ، فسارعت بإقناعي أن خلف هذه الفتنة تسكن ثورة، وأنّ هذا الدثار الأنثوي الصاخب مجهّز للتفجير بوخزة. وتبيّن لي بالمشاهدة، أن هذه البدائية كانت أذكى مني وأسرع خاطرًا.
عندما يأتي المسا ونجوم الليل تُنثر في أم الدنيا، يتلألأ وجه النيل راسمًا تموجاتِ الزمان موجاتٍ تُنطِّق التاريخ. فيطفو السمن فوق العسل، وتُبعث كليوباترا طيفًا يتجلى والجندول يجري عرض القنال، يواكبه طيب أهازيج النيل يحبّر أسفار حضارته بحجارة قدّست العلاقة بين الماء والصحراء وشيّدت عليها أمجادًا لا تهرم !
قفزت من بحر الرواية فجأة إلى بحر الذاكرة، وقد لمحت طيف أبي، رحمه الله، يدير الدفة باتجاه لتاريخ/ معلمه والجغرافيا معشوقته، ماضيًا إلى اليونان مرورًا بمالطا، كريت ويسكت لحظة ليمرِّر جملة اعتراضية: “كانت الست حُريّة بعدها مش خلقانه !”
فيعترضه أحدهم: “شو جاب الست حُريّة عالموضوع ؟”
فيجيب ساخرًا غامزًا: “لازم تفهمها عالطاير!، أنا قصدي الحريّة المحترمة العاقلة مش هاي هلي بنص بطن ونص ثوب“.
وله في الحرية رأي، وأقوال … منها: “أنا فلاح باَمنش بالأصنام، خصوصي صنم الست حرية الهوجا بنت الشيخة ديمقراطية المصلحجية“.
من حيث لم أخطط رسمت وحدّدت مساحة لبناء مرفق متواضع لذاكرة لا تدخلها الرياح الجانبية. بين الرصاص والحبر سأعمل فيه على تكرير قناعاتي مرارًا ومرارًا. لكن، ما الذي أيقظ رحلة مصر النائمة تحت أدراج العقود؟
هنا، في البتراء، كانت صدفة أخرى خير من ميعاد. فرق، أفراد وعائلات تلتقي في محطة سياحية، مطعم، خيمة … بخلاف الرحلات المنظمة إلى مصر، حيث توفر الملتقيات كل الظروف لنسج علاقات فردية وجماعية، حتى تكاد لا تفرق بين أعضاء الفرقة وأفراد العائلة.
هي نظرة كلمح برقة تحرضني وتزرعني بين عينين: تلك الشرارة ملهبة العيون برقصة مع موسيقى الحجّاله أو البحرية (؟)، زي الهوى، نورة نورة يا نورة، فيميد اليخت الملكي ومعه الرؤوس والكؤوس ! وهذه المتجلدة أمامي متوارية خلف أثلام العمر، وقد فعلت فيها محاريث السنين ما فعلت … وحفرت ما حفرت من أخاديد امتدت من مشارف غُرّتها العسلية المظللة بقبعة واقية، مرورًا بأنفها وخديها، فمها وضواحيه، وصولًا إلى المنحدرات حتى الكفين. ما أسرع ما تاَكلت تحت عجلات الأرض !!
لا شيء من هذا أثار استغرابي (العمر إلو حق). لكن التجاعيد البارزة في صوتها تثير قلقي أو خوفي عليها من أزمة صحية أو انتكاسة عاطفية. صحيح أنني لم أعجب بسلوكها، لكنها رسخت مجسمًا للحيوية والأناقة … والطلاوة واللباقة. هبّة ريح لا نجاة لعين أو أذن أو أنف يمر بمحاذاتها.
هنا في البتراء، وضمن محيط وادي رام العظيم التقينا مرارًا، ولم ألحظ وجود مرافقين معها أو ملازمين! لم تعد مستقطبًا !! وحيدة انفردت بمصايات العسل الساقط من عينيها … ساجية ملتحفة حتى الكاحل برداء بدوي حريري تجانست فيه ألوان الأرض بلونها الصوفي الغارق في بحر التأمل الواقع على خط استواء الزمان.
في هكذا مكان وأجواء تكثر خطوط الاستواء الوهمية وغير الوهمية. ويبرز الخط المرسوم بأنامل العقيدة وشاعرية الخيال. في البتراء يدهشك توارد الأفكار العجيب بين الزمان وهذا المكان، حتى لتحسب أنك تشاهد عرضًا لتشامخ أرباب الأوابد الأرضية تتنادى لها ربات الابداع الخيالي… وتؤخذ بالمناظرات الشعرية الملحمية بين الصخور والظلال، وتعود للمبارزة الأسطورية بين النبطيين وصخرة الشرق الوردية في النحت والنقش والرسم بمحاكاة لضجيج الفيضانات الغائرة في العصور تُستجر لريّ ورواية غابة الذاكرة النبطية. وتقرأها في ثغور الصحراء المزهرة في الحاضر أعيادًا زاهية. وتسمع في صمت الخزنة أجراس السلام القديمة.
عندما يأتي المساء ونجوم ليل الصحراء تبذر يلامس رأس الدير أقدام الشموس الليلية، وتسري في طريق العودة إلى بحر رام الأصفر. على طول هذا الخط الناري يسارع العقل لتلمس مأواه، ويستسر الخيال عما عاد به من نزهته. على خط الحياة العجيب هذا، الشمس مرجع ودليل سياحة جيوتاريخية، والنجوم مرافق ومرشد سياحة روحانية إلى أعظم تجاويف الحضارات…
ويعود أبي المفتون بتلك الحضارات مستهامًا بالتضاريس… لكنني، ويا للعجب، لا أصغي! فأنا واقفة على خط استواء عمري أسمع أصداء القطبين وأصغي لقطب البداية حالمة كغيري، بالوصول إلى القطب الاَخر مشيًا على الأقدام مزودة بغمر من سنابل القمح، قربة ماء، وطبق من نجمات هذا المدى الساحر.
هنا أبصرت صوفي (صوفيا) القوام المغناطيسيّ الرقاص تمثالًا متهدجًا ينحني امتثالًا لمشيئة المحور … واقفًا على هذا الخط المهيب كتلة صوفية تمثل صنمًا علقت في عنقه سُبحة وردة مريمية يتوسطها صليب معلّق بقبلة حالمة دافئة !