طبقة: زعم أحد اﻻدباء أن ثعلبا كان يتفيأ وقت الهاجرة بظل كرمة قد تهدلت أغصانها وتدلت عناقيدها، وإذا شن عليه الجوع بخميسه، سرعان ما يستجير بثمر الكرمة المتساقط يأكل منه ما وجد أو ما تيسر فيفل جمع جيش الجوع ويطفئ لهيب سعيره. ومكث الثعلب على هذا الحال زمنا. فالكرمة بمثابة الملجأ الذي يحميه من أنياب المسغبة إذا احتدت، ويقيه شر القيظ إذا استشرى.
وذات يوم من أيام تموز التي سُعِّرَت بجمر الحر رمضاؤها، واشتعلت بلهيب الشمس سماؤها، والثعلب مستلق على جنبه في ظلال الكرمة الوارفة. تحول بصره إلى عناقيدها اللامعة كالبلور، فتوسعت حدقتا عينيه وأمعن النظر فيها يتبع النظرة بالنظرة حتى تاقت نفسه إليها، ولم يصمد أمام وساوس نفسه المتلاحقة كالموج المتعاقب. فنفسه اﻷمارة بالسوء تسول له، تمنيه باليسر تارة وتغريه بالحسن أخرى.
فاستحوذه السوء وطبع على قلبه وغشى بصيرته، وهنا طفق يبحث عن حيلة توصله إلى العناقيد العالية المتدلية الشهية. طورا يلتمس معراجا يرتقيه كي يتناول ما تشتهيه نفسه، وتارة يثب ويقفز دون أن يصل إلى ما يبتغيه. هيهات هيهات له ذلك.
ظل الثعلب يبحث عن طرق وأساليب شتى من أجل نوال ما يروم حتى أدركه العناء وحل به النصب، لكنه لم يستسلم أزاء ذاك الكد بعد ما بذل من الجهد ما بذل. فاستعاد أنفاسه ولملم أشلاء قواه والغضب يندلق من فيه موجا، ورذاذه يتطاير من عينيه شررا. فعمد إلى ساق الكرمة يقضمها بأنيابه حينا ويقرضها بقواطعه حينا آخر، محاوﻻ قطعها إلى أن قدر على ذلك. فتنفس الصعداء واستنشق الهواء، ثم افتر عن أسنانه مبتسما وقد تملكته نشوة النصر، ثم جذب الساق المقطوعة إليه وهو يلهث جذبة أطارت العناقيد إلى حضنه وشرع يأكلها حتى بشم. وأذكر المتنبي وقوله :
“نامت نواطير مصر عن ثعالبها
وقد بشمن وما تفنى العناقيد”
بكت الكرمةالقتيلة، تساقطت أوراقها دموعا، غاب الظل عن المكان، واشتد القيظ في اﻷوان، وتغير الحال في الحال، فافل(الفيء) الذي كان يقيه، واشتد القيظ الذي كان يتقيه، وغار الماء ، ولفح الهواء، وجفت عروق الثعلب، كما أن ماء الكرمةنضب، وحل بالكرمة المقت، وحضر الثعلب الموت.
وبعد مرور عام ، أنبتت جذور الكرمة ساقا شديدة القوام ، ﻻ تقدر عليها الثعالب ، وﻻ يؤثر فيها نسيج العناكب.
فلما تقلد الثعلب عقد القناعة حظي باﻷمن والحياة، وحين توشح بالحرص والشره أدركه الهلاك والممات. ولقد غاب اﻷمن وولت السلامة، عندما اعتلى الرويبضة المنابر وانتزعوا اﻹمامة. فهل فيما أقول يا أهل النهى من ملامة؟!
ولن تجدوا ما أقول في كتاب اﻷم للشافعي، وﻻ في المغني ﻹبن قدامة، وليس في موطأ مالك، وإن تشعبت في ذهنكم المسالك.
من الحذر في الخطر