“سبع رسائل إلى أمّ كلثوم” رواية تفور بالحياة والدّفء – صباح بشير

رواية “سبع رسائل إلى أُمّ كلثوم” للكاتب علاء حليحل، الَّتي صدرت حديثا عن دار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع في عمّان (2023)، وتقع في مئتين وست وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، تدور أحداثها في بداية الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى.

نجح الكاتب في وصف القرية آخذا القارئ إلى مسارات جميلة؛ ليعيش بين دفّتي روايته، حكاية مغايرة في مدار البيت والأسرة، في عالم حيكت سطوره من بساطة الحياة الرّيفيّة، ومن طبيعة المكان وأهله، من مواسم الشّتاء والصّيف، ومن دروب تعانقت فيها القلوب، وتلَّة عاشت خلفها الأحلام والرّغبات، وصغار يقرعون بأقدامهم الصّغيرة طريق الدّهشة.

ثمّة إحساس لا يمكننا القبض عليه ونحن نقرأ، إحساس بحنين غامض، وشوق مخبّأ لتلك الألفة المفتقدة، لبيتِ الطُّفولة الأوّل، للأحباب والجيران وعتبات البيوت المطلَّة على الخير.

نقرأ هذه الصّور الفنيّة فتأخذ الرّؤية كمالها، وتأخذ الأفكار والكلمات معناها العميق، وكلَّما قلَبنا صفحة وطوينا أخرى، نتوق شوقا إلى تلك السّكينة البعيدة؛ لنعود أطفالا نعبث ونلهو بتلقائيّة تاقت لها النّفس كثيرا.

شّخوص وأحداث ودلالات عدّة:

يسكن مصطفى وهاجر على تلَّة البلّوطة، قُبالةَ قرية جليليّة نائية، وهو يعمل في مَحجرِ والده ويجسّد شخصيّة الإِنسان المسالم، زوجته هاجر مغرمة بالقراءة والكتابة، تصطدم بعودة حبيبها السّابق “جمال” من غربته زائرا، بعد أن هاجر البلاد متخلّيا عنها بعد تطوّر العلاقة، فتُحدِثُ عودته المؤقّتة في نفسها بعض الارتباك، تعاودها الذّكريات الماضية وتنغّص عليها الحاضر، وتندفعُ إلى تقييم حياتها ومراجعة علاقتها بزوجها الَّذي لم تحبه ولم تنسجم مع طباعه، فهو صامت جامد يتعذّر عليه البوح بمشاعره، يتردّد بالحديث عن احتياجاته ورغباته، ذلك الخلل في شخصيّته أدّى إلى اتّساع الفجوة بينهما، ممّا دفع بزواجهما إلى الانهيار، فهو يعاني ملل الحياد والصّمت، لم تكن لديه القدرة على مواجهة الواقع، الَّذي اعتبره حتميّا لا يمكن تغييره أو التّمرّد عليه.

تقع الشّخصيّتان في الوحشة والجفاف العاطفيّ، وكأنّ أحدهما لا يرى الاخر جيّدا ولا يدرك معاناته، مع الوقت ينقلبان على موقفهما الصّامت، فيتنامى إحساس هاجر بالتّمرّد على الواقع فتطلب الطَّلاق، ويتنامى إحساس مصطفى بالتّمرّد على الحياديّة والامتثاليّة فيقرّر المشاركة بالانتفاضةِ بما استطاع إليه سبيلا.

تبدأ الأحداث في تطوّرها إلى أن تتعقّد، فيتأزّم الوضع بين الزّوجين أكثر، يزرع مصطفى الغيرة دون قصد بين طفليه يزن ونور. يأتي ذلك عبر المقارنات الدّائمة بينهما، فيزداد الأمر صعوبة. وكما تنتقل الصّفات الجسديّة بالوراثة، تنتقل الصفات الخُلقيّة بالوراثة أيضا، فيزن شبيه لأبيه في طِباعه، ونور شبيه لأمّه في طباعها.

تُدوّن هاجر خواطرها ومشاعرها الدّفينة، لم ترغب أن يكون حزنها الكبير مشاعا؛ فحبسته في دفترها الصّغير، ولتتفادى مشاعر الهزيمة كتبت عن خيبة الحبّ والأمل، ووصولا إلى التّوازن النّفسيّ والسّلام الدّاخليّ بدأت تسطّر بعض الرّسائل إلى سيّدة الغناء العربيّ “أمّ كلثوم”؛ لتحكي عن أخبارها وأسرارها وتجاربها الذّاتيّة.

  سِمات فنّيّة ومشاهد:

دُمجَ النّصّ بسرد السّيرة الغيريّة للسيّدة أُمّ كلثوم، الَّتي تناولها الكاتب فتحدّث عن حياتها وإنجازاتها الفنّيّة. أمّا الأحداث فانطلقت ضمن تسلسل منطقيّ مشَوّق، وُظِّفَت التّقنيّات السّرديّة وتضمّنت بعض الرّسائل وبعض الحوارات الدّاخليّة الَّتي أطلعَتنا على مشاعر الشّخوص وخفاياها، وكذلك الحوارات الخارجيّة الَّتي ساعدتنا على الإمساك بالحبكة وفَهمِ مُجرياتِها، كما حملتنا اللُّغة بسلاستها وصورها ومشاهدها التّصويريّة إلى لقطات منوّعة عاشها الأشخاص، يصاحبها أحاسيس مختلفة، لتنسكب الحالة الشّعوريّة في هذا التّنوّع، في الفكرة والسّرد والوصف وكلّ التّفاصيل، وصفحة بعد صفحة، تخرج العبارات من ثوبها المُنمَّق؛ ويتوَشّحُ معناها بالحزن.

في مشهد موجع ولافت، يختبئ نور خائفا وراء تنكة معدنيّة كبيرة في المخزن، يحتضن جرّوهُ الصّغير “ركس” ليُخفِيهِ عن والده الذي يرفض الكلاب ويعتبرها نَجِسة، يضع يده بقوّة على فمه لكتم صوته، لم ينتبه أنّه يضغط على أنفه، يحاول الجرو الإفلات من قبضته، منتفضا محرّكا جسده ورأسه، وفجأة تلتقي نظرة نور بنظرة والده فيرتجف، يتمكّن الجرو من التّحرّر للحظة وسحب أنفاسه، لم يتمالك الطّفل نفسه لشدّة خوفه؛ فبال على نفسه دون إرادته، انهمرت دموعه بغزارة، وتسارعت دقّات قلبه فغدَت موجعة.

يقطع نور حبل الوصف المتّصل ويتساءل: لماذا لا يسحبه والده من وراء التّنكة ليعاقبه؟ أغمض عينيه وانتظر العقاب بتوجّس، فكانت المفاجأة حين فتح عينيه ووجد أنّ والده قد غادر المخزن متجاهلا ما رأى.

يكشف هذا المشهد مع مشاهد أخرى عن علاقة الأب مصطفى بطفليه، وهي علاقة تربويّة مبنيّة على الهيبة والعقاب، أفقدته دور الصّديق لأطفاله، تماما كما علاقة المعلمة روز بطلّابها.

كانت علاقة يزن بأبيه علاقة طاعة وولاء، أمّا علاقة نور بأبيه فكانت علاقة خوف ومحاولة تحرّر، من هنا نجد أنّ رمزيّة الأب كانت فوقيّة، تجاوزت التّربية والإعالة، فهو الأب السُّلطويّ التّقليديّ، ينتهج أساليب الأمر والقوّة رغم حُنُوِّه، وفي مشهد آخر نجده يخاطر بحياته؛ لأجل استرداد الجرو الضّائع من المستوطنين “الفراكش” وإعادته إلى طفله نور الذي فرح به فرحا عظيما.

في مشاهد أخرى نرى جانبا مختلفا من شخصيّة مصطفى، الَّذي يركب الصّعاب غير مبال بالتّعب، وذلك لمساعدة المتظاهرين بسرِّيّة تامّة، يُكَسّر الصّخر الكبير في المَحجَر، ويحمل الحجارة في صندوق سيّارته، ينطلق إلى شوارع جنين ويلقيها هناك، ويعود أدراجه بسرعة كبيرة.

كان يعتزّ بهذا العمل السّرّيّ الَّذي أخفاه حتّى عن زوجته، لكنّه قرّر أَخيرا اصطحاب ابن عمّه وجدي لمشاركته في ذلك، وفي طريق العودة راح وجدي يردّد قصيدة توفيق زيَّاد:

“هنا باقون، على صدوركم، باقون كالجدار، وفي حلوقكم، كقطعة الزّجاج، كالصّبّار”.

هذه المشاهد كانت ضروريّة بكلّ تفاصيلِها؛ للكشف عن مبادئ مصطفى وطبيعة أفكاره، والقيم الّتي يؤمن بها ويعمل لأجلها، فهُوِيّته الوطنيّة تَلُحُّ عليه، وهي غير مفصولة عن قوميّته الَّتي استشعرناها في وصف القرية والتّلَّة والوادي، وفي اللَّهجة الفلسطينيّة الَّتي نَبَتَت من عمق الأَرض وجذورها، وكأنّي بالكاتب يقول: هنا باقون لأنّ أقدامنا تمتدّ جذورا في تراب هذه الأَرض، نحمل حجارتها بيد لا تعرف التّردّد، ونعاهدها أن لا نأبه ببطش العابرين.

مشهد آخر ينساب من واقع المكان، يملأُ القارئ بشعور الفقد والحسرة حين يتساءل نور: “شو يعني النّكبة؟” وذلك حين حدّثتهُم هاجر عن تاريخ القرية وهم يسيرون عائدين من بيت والديها، كانت تتحدّث عن الأزّقة والأشجار وعن بيت المختار، الّذي اختبأ فيه الفارّون من القرية المجاورة، حين دمِّرت وشُرّد أهلها وقُتل من قتل. توقّفت الأمّ عن المشي ونظرت إلى السّهل المُنبَسِط أمامها، أشارت بيدها ثمّ قالت: “شايفين بيوت الحجر الكبيرة اللَّي حواليها الصّبر”، نظر الولدان بتعجّبٍ إلى بعضهما البعض، قال يزن: “لا.. مِشّ شايفين”، هَزّت هاجر رأسها، وربَّتت على رأْس يزن قائلة: “هاي هيي النّكبة”.(ص18)

بِهذه الإِشارة ترسلُ الأمّ رسالة لطفليها؛ أنّه لا يمكنهما التّجرّد من الجذور والذّاكرة الجمعيّة، الّتي تُشكّل في مُخيّلتِها نسيج القرية برمزيتها للوطن، فهي تستحضره ليبقى حاضرا في وجدان الأبناء وذاكرتهم، وذاكرة الأجيال القادمة، والأمّ برمزيتها أَيضا تُمثَّل صوت الأرض والذّكريات والتّاريخ، صوت القلب المبلول بالحزن، وصوت الضّمير والذّاكرة الشعبيّة الحيّة الَّتي لا تموت.

رسائل من فيض اللّغة:

الرّسائل فسحة ومُتنفّس لمن يكتبها، يضع فيها أكثر الأفكار والعواطف صدقا وحميميّة، والرّواية الرّسائليّة معروفة، ولو بحثنا في النّماذج الرّوائيّة الفلسطينيّة لوجدناها حاضرة فمثلا: رواية “الجرجماني” للأديب حسن حميد، التي بُنيت أحداثها على شخصيّة محوريّة، تكتب الرّسائل التي احتشدت فيها الحكايات.

خصّص الكاتب حليحل لأمّ كلثوم مساحة عريضة في السّرد؛ لنلمس إعجابه بفنّها صوتا وأداءً ولحنا وكلمة. تكتب هاجر رسائلها المُتخيّلة إلى أمّ كلثوم كمذكّرات وحوارات ذاتيّة ومناجاة؛ لتتغلَّب على حزنها، تكشف عن خفاياها وانشغالاتها العاطفيّة والإنسانيّة، فتستحضر الماضي والحاضر، وتكتب عن الوطن والقهر والعُنف، من زاوية أخرى تتوحّد هذه الرّسائل مع المتن الرّوائيّ، تحمل شكل الذّكريات المخبّأة، وتفاصيل الأحلام والرّغبات والأسرار السّاكنة، وتُلخّص الأحداث وتجعلها متَّصلة متماسكة، وتأخذ القارئ إلى محطَّات كثيرة.

كتبت رسالتها الأُولى فقالت: أيُّ جنون أن أكتب لك؟ فأنا أكتب لنفسي فقط، أملأ الدّفاتر بكلمات تعني لي شيئا ما. (ص40)

تحدّثت عن طفليها وذكرت زوجها قائلة: أحاول استحضار الطّفل الَّذي كانه، عَلّيْ أحرّك في داخلي رغبة أو ودّا له. (ص42)

تعاود استذكار جمال فتقول: تَتموّجُ الذّاكرة في الرّأْس كبحر عكّا، في اليوم التّالي لسفره تفجّرت فيّ الأفكار وتبعثر البصر والبصيرة، وعندما علمت بعودته هرعت إلى المرآة، نظرت إلى وجعي وجسدي وشعري، وكأنّ عمري مئة سنة! (ص45).

في رسالتها الثَّانية هنّأت أمّ كلثوم بذكرى ميلادها، وفي الرّسالة الثَّالثة تحدّثت عن الانتفاضة فكتبت: شعبي ينتفض، ما أجملكِ حين غنيتِ لفلسطين: “أَصبح عندي الآنَ بندقِيّة”، وقالت: أقرأُ الآن روايةَ “المتشائل” لإيميل حبيبي، وأعتقدُ أنّ المقاومة تتجسّد في الفكرة البسيطة، وهي أن نتذكّر كلّ يوم أنّنا على قيد الحياة (ص109).

وكتبت في الرّسالة الرّابعة (ص134): رأيت نفسي في الحلم، أردّد بأعلى صوتي ما كتبه راشد حسين: جميلة كانت ّكأنّها مدينتي.. مهدومة كأنّها مدينتي.

في الرّسالة الخامسة، تحدّثت عن اختفاء الجرو “ركس”، وحزن طفلها نور وبحثه عن جروِه الصّغير.

في الرّسالة السّادسة، كتبت عن قرارها بالعودة إلى العمل، ومواجهة مصطفى وطلبها للطّلاق، وعن تحطيمه وتقطيعه لأشرطتها الموسيقيّة، وتمزيقه لدفاترها التي تكتب فيها المذكّرات والخواطر، وقالت: أفردتُ في قلبي مكانا للمأساة المقتربة، وبدأت تعلّم العيش معها (ص209).

أمّا الرّسالةُ السّابعة؛ فتعبّر فيها عن شعورها بالألم تجاه ما يحدث بينها وبين زوجها.

 

في هذه الرّواية:

تَجنحُ هذه الرّواية الاجتماعيّة إلى المنحى السّياسيّ، فقد رصدت تحوّلات الحياة وتقلّباتها، تطرّقت إلى الآثار السلبيّة للنّكبة من فقدان للّهُوية والمعاناة والتّشتّت، طرحت الواقع المُعاش لفلسطينيّي الدّاخل، والصّراع القائم بين مدنيّتهم المستحدثة وبين قوميتهم التي يحملونها في شرايينِهم، فشعورهم بما يجري على الأرض من أحداث ليس ببعيد عنهم، وذلك ما يدفعهم إلى التّمسّك بالأرض والجذور، والإصرار على البقاء وكسر الحواجز.

تناول النّصّ مفهوم الحبّ والأسرة والتّعاون. أمّا المكان فقد حظي باهتمام كبير، مثَّل المحوّر الأساسيّ الذي دارت حوله العناصر الرّوائيّة، كما لعب الواقع الاجتماعيّ دورا في توطين صورته وما دار فيه من أحداث، جاءت أهميته من دلالاته التي قرّبته إلى القارئ فبيّنت خصائصه، ومن اللّغة الحميميّة الدّافئة المطعّمة باللّهجة الفلسطينية، التي أضفت على العمل خصوصيّة وواقعيّة. رافق ذلك الدّمج جمالا في التّخييل والوصف التّصويريّ، مما أُغلق الفجوة التّعبيريّة في الخطاب الرّوائيّ بين الفصحى والعاميّة.

 

    النّهاية:

لديَّ ما يكفي من الماضي وينقُصُني غَدٌ “م.د“.

تكتب هاجر عن مشاعرها تجاه زوجها فتقول: الكراهيّة في بساطتها ووضوحها أقوى من الحبّ، فهي على عكسه، قوة دون ضعف. (ص175)

كانت ترى في زوجها جمودا وجُبنا وضعفا؛ لحياده وصمته وعجزه عن التّعبير، كان يقول: “أنا بعرفش أحكي وبعرفش أكتب”. وهي تقول: أرتعش وهو يأتيني برجولته، أعرف أنّها رجولة مزيّفة، يخفي خلفها خوفه من الشّرطة والمخبرين، وتعاليم والدِه والحياة برمّتها. (ص109).

تذكّرني كلماتها بما كتبه الشّاعر أمل دُنقل حين قال:

كيف تنظرُ في عينيّ امرأة؟

أنتَ تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتها في الظّلام!

كيف تصبحُ فارسها في الغرام؟

كيف ترجو غدًا؛ لوليد ينام؟

كيف تحلم أو تتغنّى بمستقبلٍ لغلام؟

وهو يكبرُ بين يديك بقلبٍ منكّس!

 

يحاولُ مصطفى استرضاء زوجته؛ فيهديها صندوقا خشبيّا جميلا، يحتوي على مجموعة كبيرة من شرائط السّيدة أم كلثوم، لكنّ هديته تلك لم تجلب له النّهايّة التي توقّعها، فقد أصرّت هاجر على الطّلاق سعيا إلى التّحرّر من الماضي والحاضر. وفي نهاية تراجيديّة مؤلمة، ينشب شجار حادّ بينهما، ويقع عراك عنيف بين يزن ونور على الجرو الصّغير، يغلق نور باب الغرفة، يقترب من يزن ليخلّص الجرو من يديه، لكنّ يزن يمسك به ويجرّه إلى السّرير محتضنا إيّاه من الخلف، واضعا يده على وجهه وأنفه، راح نور يركل السّرير ويتلوّى، لكنّ يزن أحكم قبضته على فم نور وأنفه.

يستمر الوالدان بالصّراخ والشّجار فلم يسمعا صوت استجدائه، فظلّ نور يتلوّى حتى ارتخى جسده الصّغير وتوقف عن الحركة والمقاومة، أطلق الجرو نباحا متقطّعا، ثم خفت حّتى صمَت، ليغدو ذلك الصّمت مرادفا للموت في معناه ودلالته.

نهاية مبهمة وقاتمة كما الواقع الفلسطينيّ! نهاية صادمة تترك العديد من الأسئلة، فهذا المشهد العنيف مختلف في أجوائه عن المشاهد السّابقة، إلا أنه يرتبط بها ارتباطا خفيّا يصبّ في جوهر العمل وفكرته، يحمل أبعادا رمزيّة وتحليلات عديدة، فالأب الخاضع المُمتثل للقوانين الحياتيّة والمجتمعيّة والسّياسيّة، يمثّل السّلطة الحاكمة المسيطرة في بيته، يتَّبِعُ سياسة “فَرِّق تَسُد”، فرَّق بين أبنائه بتفضيله أحدهما على الآخر، ومنحه بعض الامتيازات على حساب أخيه، مما ولَّدَ الضّغينة والخلاف بينهما. هكذا نجد أنّ السّياسة تُدخِلُ كلّ ما حولنا في نطاقها، تقرّر حياتنا ومصائرنا، تأكل وتشرب معنا في ذات الإناء، تصادر عقولنا وتنام وتصحو بيننا، وبالتّالي فهي تَدخُل إلى أعمالنا الأدبيّة.

من أحد الجوانب تشي هذه النّهاية بالعبثيّة والهُوّة بين وعي الإنسان وعقلانيّته، وبين العالم العبثيّ غير المنطقيّ من حوله، تجسّد أيضا مشاعر القلق واليأس والخوف والإهمال، وغيرها من المشاعر المؤلمة، التي تحوّل الضّحيّة إلى جلّاد.

من جهة أخرى وفي إطار سرديّ تفرضه تعقيدات الحياة وطبيعة الواقع المعاش، تُضفي هذه النّهاية متاهة ما، تعيد على نحو صامت تأمّل الماضي والحاضر، لتقدّم رؤيّة ثانيّة، مفادها أنّ الحبّ لا يترعرع إلا في ضوء الحريّة والإحساس بالأمن والأمان، والوعيّ الذّاتيّ والنّفسيّ، وفي ظلّ الأحداث السّياسيّة المأساويّة وغياب الحريّة، لا يمكننا الحكم على النّاس، فالأحكام المسبقة تميل إلى تبسيط الواقع الاجتماعيّ، كما أنّ شخصيّة الإنسان متغيرة، تتأثّر بتّغيّرات مُحيطه السّياسيّة والاجتماعيّة، وكأنّ النّصّ يقول: إنّ الظّروف التي يعيشها الإنسان هي مبعث سلوكه ومُسَوِّغٌ لكلّ تصرّفاته، أمّا تغيّر تصرّفاته فمرهون بما يتعرّض له، فلكل فعل ردةُ فعل، والمطلوب هو أن نمتلك رؤيّة وبعدا فكريّا لا علاقة له بالمؤثّرات، وذلك لتدارك المصائب والعمل على درء وقوعها.

 

ختاما.. أبارك للكاتب هذا الإنجاز، وأتمنى له المزيد من التّقدّم والنّجاح.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*