أسلوب الحداثة في رواية المهطوان للكاتب رمضان الرواشدة – د. روز اليوسف شعبان

تقع الرواية في 107 صفحات، وقد زيّن غلافها لوحة الفنان ياسر وريكات وصمّمها يوسف الصرايرة، وأصدرتها المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2022.

يروي  عودة، الملقّب بالمهطوان لطوله الفارع وفخامة جثّته ومقاس رجله الفخم، سيرته الحافلة بالنضال، والعذاب والحب والألم والفقدان.  وعودة من حيّ الكركية في قرية راكين، انتمى الى الحزب الشيوعي أثناء تعلمه في الجامعة الأردنيّة وهناك تعرّف على حبيبته سلمى الفلسطينيّة المسيحيّة المولودة في رام الله. أثمر هذا الحبّ عن حمل سلمى، التي عانت من أهلها بسبب خطيئتها، وزوجوها رغما عنها.

شارك عودة في نضال الطلبة ومظاهرتهم ضد ارتفاع سعر الخبز، واعتصامهم في الجامعة، لكن قوات البادية اقتحمت حرم الجامعة وفرقت المعتصمين، ضربت الكثيرين واعتقلت الكثيرين، ومن بين المعتقلين كان عودة، الذي قضى في السجن سنوات ذاق فيها ألوان العذاب..

كما يأتي الراوي على ذكر مظاهرة الناس في عمان رفضا للاحتلال الامريكي للعراق. ومظاهرة أخرى بالكرك بسبب رفع أسعار الخبز، وقد انتهت هذه المظاهرة، بإطلاق الشرطة الرصاص على المتظاهرين وقتل بعضهم، وقتل الشيخ خليل الكركي الذي أحضر بندقيته للانتقام من الشرطة التي قتلت المتظاهرين، وبقيت جثته في الشارع ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منها، وقيل: إن أطباقا طائرة كانت تحوم حول المدينة انتشلت جثته ومضت بها بعيدا، وقيل أن ملائكة بثياب بيضاء هبطوا من السماء وزقوه الى العلى، وما زال الناس يتحدثون عنه الى الآن”. ص 96.

يبين لنا عودة موقفه المناهض لمعاهدة السلام والتطبيع مع اسرائيل:” انتظمت في طابور الصباح الرياضي، بدأ أحد السجناء بالهتاف ونحن نركض ونردّد خلفه.. والله والله.. بدنا نحارب… من هالشارب بدنا نحارب. سألت أحدهم وكان يركض الى جانبي: “عن جد بدنا نحارب؟ بيكفي حرب يا جماعة خلونا نعيش”. ثم نحارب من؟ فقد وقّعنا المعاهدة وزفّونا.. واللي كان كان”. ص 97.

تنتهي الرواية بقرار عودة بالخروج من الحزب، وبموته بسبب المرض الخبيث دون أن يرى ابنه نضال، وقد عبّر عن ندمه الشديد لأنه لم يبحث عن ابنه.

أسلوب السرد في الرواية:

  1. تميّز السرد “بالرؤية مع”، أو “الرؤية المصاحِبة”: وهي رؤية سرديّة كثيرة الاستخدام، إذ يُعرض العالم التخييليّ من منظور ذاتيّ وداخليّ لشخصيّة روائيّة بِعينها، من دون أن يكون له وجود موضوعيّ ومحايد خارج وعيها. إنّ السارد في هذه الرؤية، على الرغم من كونه قد يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات، إلّا أنّه لا يقدّم لنا أيّ تفسير للأحداث قبل أن تصل الشخصيّات ذاتها إليه. تُحكى الروايات التي من هذا النوع بضمير المتكلم، وبذلك تتطابق شخصيّة السارد مع الشخصيّة الروائيّة.( بوطيّب، 1993، ص. 72-73.). ويستخدم السرد في هذه الرؤية ضميرَي المتكلّم أو الغائب، مع المحافظة على تساوي المعرفة بين السارد والشخصيّة؛( شبيب 2013، ص 117).

كما تميّز السرد بتعدّد الرواة، فتارة يتولّى السرد عودة وهو الشخصيّة المركزية في الرواية، وتارة يكون السرد بضمير الغائب مع انتقال سريع بين الضميرين( المتكلم والغائب) كما في الأمثلة التالية: ذهبت للمجهول وما عاد رآها منذ تلك الأيام،(الغائب) ما مصيرها؟ آه لو أعرف! عشرون سنة مضت أكلت الجدران من لحمي خلال ثلاث منها وأصابني “الدسك” (المتكلم)ص 58.

مثال آخر:” تلك الليلة كان الصحب معه، لكنهم تركوه، تساءل إلى أين يمضون؟ غادر المكان أيضا وفي ذهنه خواطر كثيرة.. تذكّر “نضال”، كيف حاله وأين هو؟ ( السارد بضمير الغائب). آه لو أعرف يا بنيّ أين أنت الآن.. سنوات طويلة محروم من رؤيتك منذ ولدت”( السارد بضمير المتكلّم). ص 58.

تميّز السرد أيضا باستخدام الكاتب تقنيّة الاسترجاع.” والاسترجاع أو “الفلاش باك” ((Flash black هو مصطلح روائيّ حديث، يعني الرجوع بالذاكرة إلى الوراء البعيد أو القريب”.( قاسم، 1984، ص. 54.). الأمثلة التالية تبين لنا الرجوع بالذاكرة الى الوراء البعيد.:” يا ليتني ما رأيت ذلك المشهد في قريتنا راكين.. كانت أختي العنود التي تصغرني تشطف” حوش” منزلنا عند مغيب يوم صيفيّ.. دخلت إحدى الغرف وما كادت تمدّ يدها إلى “كبسة” الكهرباء حتى قذفتها صاعقة مجهولة إلى الطرف المقابل للغرفة، صرخت فهببنا جميعنا باتجاه الصوت صرخت أمي بي: اذهب واحضر “طاسة الرعبة” ص 23.

مثال آخر على الرجوع بالذاكرة الى البعيد:” أخذني أهلي إلى شيخ مغربي معمّر منذ ألف وأربعمائة عام، كان يسكن منطقة “المرج”، وأخبروه أن هذا الفتى لا يزداد وزنه أبدا، فهو نحيل الجسم، ضعيف البنية، قال أحدهم: إنّ أفعى ضخمة دخلت من فمي وهي نائمة في معدتي ومعتصمة في تجاويفي، وتأبى الخروج، وقد عجز حكماء القرية عن إخراجها”. ص 26.

مثال على العودة بالذاكرة الى الماضي القريب:” قال لي غسان:” أريد أن أراك غدا الساعة العاشرة صباحا أمام مدرّج كلية الاقتصاد لأمر هام، فوعدته خيرا وفي الموعد المحدد حضرت. أخذني باتجاه المدرّج، وفي الطريق مدّ يده ودسّ شيئا ما في جيبي الأيسر، استغربت الأمر فقال لي: اقرأ هذا المنشور، وسألتقيك غدا لأناقشك في الأمر. ص 34:” كان المنشور مرؤوسا باسم “طريق الشعب”، قرأته ومزّقته وألقيته في المرحاض. ومنذ ذلك الوقت نظمني غسان في الحزب وابتدأت رحلتي الطويلة المعذّبة”. ص 35.

مظاهر الاغتراب في الرواية:

ظهر في الرواية الاغتراب الذاتي والسياسيّ  في شخصيّة  المطهوان بطل الرواية ، والاغتراب الذاتيّ النفسانيّ هو افتقاد المغزى الذاتيّ والجوهريّ للعمل الذي يؤدّيه الإنسان وما يصاحبه من شعور بالفخر والرضا، وبديهيّ أنّ اختفاء هذه المزايا من العمل الحديث يخلق، هو الآخر، شعورًا بالاغتراب عن النفس.( النوري، 1979، ص. 19). هذه هي الحالة التي يصبح فيها الشخص غير مدرِك، ببساطة، ما يشعر به حقيقة، وما يحبّه ويرفضه، وما يعتقده، وما هو عليه في الواقع.( شتا، 1984، ص. 167). أما الاغتراب السياسي فهو  شعور الفرد بالعجز إزاء الاشتراك في اتّخاذ القرارات السياسيّة، وشعوره بعدم الرضا وعدم الارتياح تجاه القيادة السياسيّة، وبالتالي رغبته في الابتعاد عنها وعن التوجّهات السياسيّة الحكوميّة والنظام السياسيّ برمّته. وهو شعور الفرد بأنّه ليس جزءًا من العمليّة السياسيّة نفسها، وبأنّ صانعي القرارات السياسيّة لا يصنعون له اعتبارًا؛ بمعنى أنّ الفرد يشعر بعدم القدرة على التأثير في المجال السياسيّ؛ إذ هو عاجز عـن إصدار قرارات سياسيّة، وفاقد لمعايير تشكيل نظـام سياسيّ، وفـي المقابـل فإنّه غير مرتاح ولا يشعر بالانتماء لما هو عليه الوضع القائم.( زليخة، 2012، ص. 350).

في الأمثلة التالية نجد اغترابا ذاتيا لدى بطل الرواية:” أجوب المدائن أبحث عن ذاتي، أسأل الطرقات، أسأل الأشجار.. الشوارع.. الكنائس.. المساجد.. أجوب كل المدن القاتلة، كل الوجوه تطاردني، ويطاردني ظلي وقريني، أكتوي بالصلب المقدس.. بالنار وأعود غريبا كما بدأت فطوبى للغرباء طوبى للغرباء”. ص 64-65.

مثال آخر:” لماذا يهجرني ليلي ويعتريني الدوار؟ لماذا يسافر قلبي ويضيع في أعالي البحار، أدور وأبحث في صمتي عن معنى للحبّ والنار. لماذا لا أملك في قلبي سوى حزني وأحلام النهار، متى سيكون الرحيل، متى سيكون الاحتضار؟  متى سيبدأ قلبي رحلة الإبحار؟ متى يا حلوة العينين أبدأ نهاية المشوار؟” ص 74-75.

من المثالين أعلاه نجد أن السارد يعاني من ضياع، يبحث عن ذاته المفقودة.

أما الاغتراب السياسي فيتضح لنا من خلال خروج عودة من الحزب:” فيقول:” لم أعد أنسجم كثيرا معهم، خاصة بعد أن طالب الرفيق الكبير بتحويلي الى لجنة تحقيق بسبب عدم التزامي بالتصويت للقائمة التي شارك بها الحزب في رابطة الكًتّاب، لم أصوت لأنني أعرف أن بعض المرشحين ليسوا من الكُتّاب”. ص 92. ويذكر أيضا جملة تؤكد ندمه على ضياع عمره في الأحزاب فيقول:” أنا من ضيّع بالأحزاب عمره”.ص98.

لقد بدت مظاهر الاغتراب في الرواية  جليّةً في اللغة وفي أسلوب السرد، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتيّار الوعي المتمثل بتقنيات الحداثة منها:  الاسترجاع، تعدد الرواة، المناجاة، المونولوج، سيطرة الراوي بضمير المتكلّم (الأنا) واللغة الشعريّة. وقد أتينا على ذكر هذه التقنيات أعلاه.  أما اللغة فقد تميّزت  بالتناص وباستخدام الجمل القصيرة غير المتكاملة، والانتقال السريع من موضوع لآخر، كما تميّزت  بالشعريّة المكثّفة والموحية؛ إذ تصطنع الجُمل القصار، وتحدث نوعًا من الإيقاع الموسيقيّ الذي يُحدِث عند المتلقّي ما يُعرف بالمتعة الفنّيّة.

من الأمثلة على استخدام الجمل القصيرة غير المتكاملة،  ما يلي: “فوجئت بهم هناك.. لم أتوقع.. لم ينسوني خلال هذه السنين، وها هم هنا أيضا.. نضال ما عاد ولا عادت أمه، وأنا الآن أختصر المسافة…

طويل جدا هذا الطريق… وهام أيضا هنا الكلّ متأنق.. بعضهم جالس والآخر واقف ولا شيء يعلو فوق صوتهم.. مفاجأة! أين نضال؟ تساءلت.. لم يجبني أحد غير قلبي، وصاح بكفي.. يكفي… قال كبيرهم: لا بدّ أنّه هو الذي علمهم، أمسكوه.. يا ألله.. وكان ما كان..”. ص 71.

من خلال هذا المثال نجد الجمل المتقطعة، غير المترابطة، الانتقال من موضوع لآخر، وقد كتب عن ذلك بروفيسور غنايم(1991) الذي يرى:” أنّ رواية الحداثة، من ضمنها رواية التيّار، التي يعرّفها غنايم (1992) بأنّها نوع أدبيّ يوظّف تكنيكات عديدة (وليس تكنيكات فحسب) لتصوير الحياة الداخليّة تصويرًا يحاول محاكاة حركة الوعي الداخليّة. في هذه المحاكاة تنكشف دراميّة النفس التي لا تتوقّف، والحركة الموّارة التي تصطرع فيها. لذا لا بد من وجود أساليب تتلاءم مع هذه الحركة، و ذخيرة لغويّة جديدة، لتحمل المهمّة الجديدة الملقاة على عاتقها، التي تتمثّل في تغيير قواعد الحبكة الروائيّة، حيث من المفروض أن يتبع هذا التغيير تغيير في اللغة التي تقدّم هذه الحبكة التي باتت تتبنّى وظيفة أدبيّة في نطاق ما يسمّى بـِ-“القسريّات النوعيّة”.

ومن اللغة الشعرية المكثّفة والموحية التي استخدمها الكاتب:” ما الذي يجعل للمدى أجنحة وللمسافة صهيلا وللقاء أرجوانة دهشة وعيد بهاء؟”. ص 99.

:” في الليل حين يسكن الوجود شبح الأيام الخالية، وحين يطفو مركبنا في بحار الظلم العتية(يسقط الانسان… فريسة الأحزان) أمتطي صهوات خيول جامحة أركض.. أركض”. ص 55.

إجمال: يمكننا اعتبار رواية المهطوان للكاتب رمضان الرواشدة، من روايات الحداثة التي تأثّرت برواية تيار الوعي، وقد  ظهرت فيها تقنيات وأساليب الحداثة، كالاسترجاع وتعدد الرواة والسرد  بالرؤية مع أو الرؤية المصاحبة، واللغة الشعرية والقسريات النوعية التي بدت فيها، كما تميّزت الرواية بوجود الاغتراب الذاتي والسياسيّ في شخصيّة المهطوان. ولعلّ اللافت أيضا في هذه الرواية، استخدام الكاتب عدّة ألوان أدبية كالشعر والخاطرة و السيرة الذاتية والرواية في آن واحد. فهل يمكننا اعتبار هذه الرواية لونا جديدا من رواية الحداثة بحيث تجمع عدّة ألوان أدبية في قالب أدبيّ فنيّ  روائي واحد؟

المراجع:

بوطيّب، عبد العالي (1993)، “مفهوم الرؤية السرديّة في الخطاب الروائيّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: وزارة الإعلام، مج. 21، ع. 4، أبريل-مايو-يونيو، ص. 32-48.

زليخة، جديدي (2012)، “الاغتراب”، العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، الجزائر: جامعة وادي سوف، ع. 8.

شبيب، سحر (2013)، “البنية السرديّة والخطاب السرديّ في الرواية”، مجلّة دراسات في اللغة العربيّة وآدابها، ع. 14.

شتا، السيّد عليّ (1984)، نظريّة الاغتراب من منظور علم الاجتماع، الرياض: عالم الكتب. ماجستير. إربد: جامعة اليرموك.

غنايم، محمود (1991)، “القسريّات النوعيّة في رواية تيّار الوعي”، مجلّة الكرمل، حيفا: جامعة حيفا، ع. 12.

غنايم، محمود (1992)، تيّار الوعي في الرواية العربيّة الحديثة، بيروت: دار الجيل

قاسم، سيزا (1984)، بناء الرواية: دراسة مقارنة لثلاثيّة نجيب محفوظ، القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*