لم أكن بوارد الذهاب لاختبار المحرّم عليّ/نا اختباره على أرض الواقع الضوضائيّ…. لكنَّ ريحًا تموزية جانبية تنقلني فجأة لمشاهدة أحد عروض الجلبة الصامتة. وتحطني، كما الهبة الربيعية الدافئة، فأدخل إلى حرم تحليل حرية التأمل.
تموزية لاذعة، تحملني بلطف بالغ لتحسّس وجه آخر من أوجه عواطفي، وفكري، وتدعوني، بإلحاح، لاختبار مدى وقوة تفاعلي ومرونة حركتي العاطفية بين تضاريس متنافرة متجاذبة على مدار الساعة.
هنا الجليل. وجار بحره محجّة تدوير منازع النفوس الواقفة على الحد بين الاعتلال والتعافي. هنا، في هذا المشفى/ المرفق الصحي عناصر الحياة في حالة انصهار دائم تديره آلة الزمن، وتنظمه علاقة الوئام بين مكاوي الآهات وذوب الصلوات. هنا مختبر التكيف مع تقلبات الطقس الداخلي؛ هبواته وفجواته… مرتفعاته ومنخفضاته. إنه المكان الأمثل للتأكد من سلامة إنسانيتك من خلال الاحتكاك بإنسانية الآخر.
هي ورشة يشرّع نظامها الطبيعي تبادل المشاعر دون مقدمات، تواقيع ومستندات رسمية. ويحظر على النفوس التستر خلف الضجيج في حضرة الحقيقة الصامتة الجارية بخفة رغم كثرة المطبات. هنا محطة كبرى للقاء الحياةِ الحياةَ وجهًا لوجه عند مدخل جناح الولادة… وتواعدهما على اللقاء، لاحقًا، عند جناح الاستشفاء.
بعد أيام من التكيف، والتخلص من التحسّس للتقلبات الجوية، يمكنك التسلل إلى النفوس المتحركة على شاطئ تتلاطمه الحكايات الهائجة منها، الراكدة والعائمة. ما أعظم الحياة! وما أبلغ صمت الخطاب المتواصل بين التوجع والدعاء أثناء رحلة الحج إلى بيت الرجاء!
الباحةُ/ المدخل محطة لتزاحم الأقدام… والمتناقضات… نسخ متشابهة من الرواد يدخلون متهامسين يخرجون متهادين. فيهم المرافق… والزائر، والمعرّج من قسم آخر لتحية سريعة. تحت مظلة خضراء مثبتة مقاعد حجرية تتّسع للعشرات… موزعة بينها عشر حاويات قمامة معدنية مثبتة في كل منها منفضة. كان عليّ أن أعدها كي أتأكد من أنها تتّسع لكل هذا المبعثر هنا وهناك، من علب وفناجين كرتون، منها نصف الفارغة المتروكة شرابًا للمقاعد!! ومنها مئات من نبل السجائر المتساقط تحت أُمهاته! هنا أحد مسارح الحقيقة حيث الآلة الكاشفة لا تكذَّب. في هذه الشاشة تقرأ غير ما تسمع عن حضارة النظافة. وتتساءل إن كان ما قرأته فيها لا يلحظ داخل الرأس ومفارش الأقدام! وتستغرب كيف لساكن أنقى بقعة في البلاد أن يجهل أنَّ الحاويات أوْلى بأشيائها!! وتتساءل إن كان ينفع الكَيّ (كعلاج) هذا المرض!! أي بدفع غرامة مالية تعلن عنها لافتة تحذير؟؟ فهل من خطيب موثوق مفوّه يتبرع بمحاضرة تقنع الجمهور الجليلي بأنَّ بيت الصحة الجسدية لا يقلّ قدسية عن بيت الصحة الروحية؟ هذا عيب! عيب! عيب!!
هنا، وخلال مروري الأول، لفت نظري رجل متهالك القوام رثّ الشعر كثّ اللحية يتوجه إلى الحاوية القريبة، يسحق سيجارته ويمضي إلى الداخل. قلت في نفسي: لعلّ ألف باء تربيته لم تمرّ على فهم مقروء النظافة كثقافة مرّ الكرام.
لم أحطّ هنا لتقييم أو تقويم. لكنه الأسف والخيبة والاستياء!!
وتحملني الريح خطوة أخرى، إلى غرفة المراقبة بعد العمليات الجراحية. فأُفاجأ بالرجل “النظيف” شريكًا لزوجي في الغرفة! تمضي أيام أربعة وهو غارق في صمته وحيد، لا زائر، لا مرافق، حتى شاشة يد… ولا من يعرّج عليه لتحية أو سؤال، إلا أحد أفراد طاقم التمريض… كلّ اللغات عنده معطلة حتى أن لغة جسده لا تفرج عن إشارة تدلّ على رغبة، بينما تسمع في عينيه صوت استجداء رمق من المحبة! آلة تحريك خوالج هذا الرجل معطلة، غائرة في عينين تخفيان بؤسًا لا تدركه العدسة الكاشفة العادية. لعله هو الآلة التي يمكن الاستعانة بها لتنعيم إنسانيتك المُخشوشِنة. أنت الآن على المحكّ الحقيقي.
ما الذي يمكننا فعله؟ أما بين الشفقة والرأفة والاحترام، فخيط حريري لم نشأ أن نقطعه بسؤال قد يستفز عزته أو يجفل ثقته أو يخدش نفسيته… فيحضرنا قول الشاعر:
ترى الرجلَ الطريرَ فتزدريه وفي أثوابه أسدٌ مزيرُ
هذا الأسد” الذي يستعطي المحبة بصمت يتسوّل السجائر بالإيماء! ويعود من “مسرح المنوعات البشرية حاملًا من هذا السُم الشافي بعض زاد غده. ترى، علامَ ينطوي صمته المتوجّع؟ وأي حلم يختنق في حلقه المتشمّع؟
محارب مغلف بالغموض يخوض حربًا سلمية داخلية بمفرده دفاعًا عن حصته المتبقية من الحياة. لكنك، بإحساسك، تبصره محاطًا بهالة واقية توحي بسكينة داخلية تفضحه عاكفًا على تصنيع حُلم ما من الحِلم… ورجاءٍ ما من العناء … أو استنبات أمل ما من الثرى المكروب… فتواجَه بأمر صارم على النهوض فورًا وبذر حفنة من المحبة في طريق يشقها بثبات لا تعرف طولها أو عرضها… أو وُجهتها!
ضاق الوقت عشية مغادرتنا، تقلقلت حركته وكادت أن تدب الحرارة في لسانه!! -“مروح؟ – نعم. انشالله تروح عن قريب! – منين إنت؟ – فش إلي حدا…! – بعرفش! كنت مجوز وطلقت!” انتهى البلاغ!! ودبت فيّ الشجاعة: – ” سلامتك… إحنا قراب منطلّ عليك!” لا ردة فعل!! – ” معي خوخ من حكورتنا وخيارتين بلدي طازا، أخليلك إياهن حدك؟ إحنا منرشش دوا. – ” آا بنفع، يسلمو!”. ويقبل أشياء أخرى، فيسأله زوجي: ” محتاج إشي نقول للولد يجبلك معو الصبح؟ – لا. شكرا! – سجاير؟ – آا يسلمو!” كمر رأسه وغار في بحر سره حتى الصباح!
غادرنا فلوّح بيد متثاقلة وعينين مثقلتين بالإيماء شكرًا على علبتيّ سجائر!! توارينا تاركين خلفنا أحد مدافن الأسرار.