صدر الكتاب عن دار الحديث للطباعة والنشر لصاحبها الكاتب فهيم أبو ركن، تصميم: ملكة زاهر. (2023)
همسات على عتبات الذاكرة، نصوص نثريّة قصيرة، خاطب فيها الكاتب معشوقته الأرض، بكل قراها وبلداتها المهجّرة، بلغة شعريّة رقيقة امتزجت فيها لغة المناجاة والسرد الحكائيّ. وقد تميّزت اللغة الشعرية للكاتب باتكائها على الشعر، وباستخدام الكاتب الكثير من التناص، الانزياحات اللغوية، المجاز، الاستعارة، التشبيهات، الايحاءات وما إلى ذلك.
تعرف حكمت النوايسة اللغة الشاعريّة بما يلي: اللغة الأدبية التي يستخدمها الأديب في نصه النثري، بحيث يتكئ على لغة الشعر لكتابة نصه النثري، فيضفي عليه بعدًا جماليّا إضافيًّا، تكثر فيها الانزياحات، الايحاءات، التصوير. ( حكمت النوايسة (2013)، جدل المبنى والمعنى في العمل الروائي (الطبعة الأولى)، الأردن: وزارة الثقافة، صفحة 221،223.).
يعرّف البغدادي (2021) اللغة الشعريّة، بأنها اللغة التي فيها يُحَيَّد الحدث والشخصيّة والزمان والمكان وتُهمَّش جميعها، ليُفسَح المجال الواسع للشعريّة وحدها، في نصّ نثريّ طويل، مؤلّف من جمل قصيرة مكثَّفة.
ومن الأمثلة على استخدام اللغة الشعرية ما نجده في المقطوعة التالية:”الحقيقة سهاما في خاصرة أحلامي، حبّنا الأبديّ كذبتنا الأبديّة شكرًا لمرايا المراكب.. إحداها أسقطت ورقة التوت، وكشفت لي الحقيقة سهاما في خاصرة أحلامي، حبّنا الأبديّ كذبتنا الأبديّة.
غاليتي: ليتنا ما ركبنا المراكب وليتنا ما غرسنا في أحلامنا حلمنا بأبدية اللقاء . أنا أحب عين غزال وأخواتها”. ص32.
في هذه النثرية الجميلة نجد الانزياحات اللغوية والتشبيهات
فورقة التوت كناية عن كشف الحقيقة.
وبأن جيش الانقاذ سيعيدهم بعد انتهاء الحرب. والمراكب هي إخراج الفلسطينيين من وطنهم بحجة حمايتهم
سهاما في خاصرة أحلامي: تعبير مجازيّ يقصد به اغتيال الأحلام.
مثال آخر على اللغة الشاعريّة:
“كل الصباحات ناعسة كعيون الفراشات وصباحي حقيبة سفر عائد أنا الى منفاي، وطني كان أغنية وطني صار أغنية بُحَّ صدى النايات فيها وتاهت حروف الكلمات...
سلاما حنيني إلى حنيني قتلني هذا العشق، والمنافي وطن المقهورين! أنا أحب القسطل وأخواتها”. ص 118
في هذه المقطوعة نجد تشبيها جميلا في قوله: كلّ الصباحات ناعسة كعيون الفراشات، وفي هذا إشارة إلى الجمال والعذوبة،
أما جملته صباحي حقيبة سفر، تذكرنا بجملة درويش وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا
وفي جملته وطني صار أغنية بح صدى النايات فيها وتاهت حروف الكلمات، كناية عن حالة الضياع التي يحياها الوطن فلا مغيث ولا من يسمع أصوات استغاثته.
أما جملته قتلني هذا العشق فهو كناية عن الحب الشديد للوطن.
لغة المناجاة: وهي خطاب متضمّن داخل خطاب آخر يتّسم بالسرديّة، الأوّل جوّانيّ؛ والآخر برّانيّ، ويندمج الخطابان معًا اندماجًا تامًّا لإضافة بُعدٍ نفسانيّ إلى السرد.( مرتاض، 1998، ص 211)
تعرّف د. سحر عيسى لغة المناجاة بقولها: المناجاة هى لونٌ من ألوان الخطاب الهامس، الخافت بين اثنين أو أكثر، وتشمل مناجاة الخالق عز وجل ورسوله المصطفى – صلى الله عليه وسلم – ومناجاة الطبيعة ومناجاة الشخوص، ومناجاة الزمان والمكان والمناجاة الذاتية.
يقول د. صابر عبد الدايم، العميد الأسبق لكلية اللغة العربية بالزقازيق: إن المناجاة فنٌ تتسع دلالاته، وتتنوع أبعاده فتشمل المناجاة الدينية، وهى بعدٌ فياضٌ بالدلالات والرؤى، ومناجاة الطبيعة الحية، والطبيعة الصامتة، ومناجاة الزمان، ومناجاة المكان، وعناصر الوجود المؤثرة فى النفس الإنسانية، والمناجاة الذاتية، والمناجاة الحوارية، والتلقينيّة، ومناجاة الشخوص، وكلها يتضمنها خيطٌ شعوري متآلف النسيج والرؤى، وهو تجسيدُ القيم الروحية، والعاطفة الإنسانية والدينية.(صحيفة الاهرام).
وردت في كتاب همسات على عتبات الذاكرة العديد من المقطوعات النثرية التي تحتوي على المناجاة كما في المثال التالي: “انتظرني أيها الحلم.. تستوقفني في طريقي إليك من كانت في البداية أم البدايات
تقول: خذني ناسكةً أغنّي حكايتنا ترانيم صلاة أمام عرش الله. أقول: سبحانك ربي.. يتجلّى عرشك نورا حيث تصلّي لسرمدية لقائنا أمُّ البدايات
انتظرني أيها الحلم.. أنا وغاليتي في طريقنا إليك
أنا أحبّ السموعي وأخواتها”. ص 15
في هذه النثرية الجميلة نجد عدّة أنواع من المناجاة:
. المناجاة الدينية بين الكاتب والله
. المناجاة الحوارية: تقول: خذني ناسكة.. أقول: انتظرني أيها الحلم
في هذه المناجاة نجد اللغة الشعريّة التي تحوي التناص والرمزيّة ، فأم البدايات التي وردت في قصيدة درويش ” هي فلسطين.
مثال آخر على لغة المناجاة:
“يقول في سرّه: أشاكس حياءها بشيء من غضب مفتعل وأمضي بها ومعها إلى حيث نريد:تقول في علنها: لأنك حبيبي الدرع والسيف أنا لا أخشى معك ضباب الطريق.
غاليتي: واعدنا اللهُ الفرحَ فتعالي نقرأ في محراب عشقنا آيات شكرنا لله
أنا أحب السّجرة وأخواتها”. ص 20
في هذه النثرية نجد المناجاة الذاتية: يقول في سرّه،
ونجد المناجاة الحوارية: تقول لأنك حبيبي. غاليتي واعدنا الله.
في النثرية التالية ( هو الطوفان) نجد لغة المناجاة ولغة شاعرية جميلة
“في غيابكِ باتت مداخل مدينتنا مشرّعة للريح والغرباء يعبثون في البيت ويقتلون في نوافذ الفرح شموعَ ضوء وعبقَ الورد. غاليتي.. لا تخلعي عن وجهك خمارا نسجتُه من خيوط الشوق لعينيك وتدثّري بأصالتك فما زال في العمر متسع للحلم وانتظار اللقاء. أنا أحب المالحة وأخواتها. ص 158
في هذه المقطوعة يناجي الكاتب معشوقته ويبث في روحها الأمل للقاء قادم منتظر
التعابير المجازيّة: الطوفان: الاحتلال
الغرباء: المحتلون
فعبثوا في البيت وقتلوا نوافذ الفرح، كناية عن القتل والاحتلال
الخمار: ليس المقصود به قناعا أو غطاء للرأس والوجه، وإنما هو غطاء من حب وشوق،
ما الدثار فهو ما يغطى به الجسد لكن المعنى المجازي المراد به هو دثار الأصالة والتراث وهو يطلب من محبوبته أن تتدثّر دوما بأصالتها وعراقتها وتاريخها وتراثها، الحلم هو: حلم العودة.
وقد حوى أيضا كتاب همسات على عتبات الذاكرة، مقطوعات تميّزت بالسردية الحكائية، وهي تعني أحداثا يقوم بها فاعلون في أزمنة وأمكنة محددة.
* السرد : التنظيم أو الطريقة التي ترتب بها هذه الأحداث وفق خطة فنية واعية بأبعادها الجمالية والسوسيو- ثقافية المنظمة لمكونات السرد ووظائفها المتعددة. السوسيو ثقافية: -إشارة إلى كل ما ينتمي إلى ثقافة جماعة إنسانية، أي أن التفاعل الاجتماعيّ يؤثّر على ثقافة المجتمع. و يفترض السرد وجود شخص مفترض يحكي، ويسمى ساردا أو راويا، و آخر يحكى له يدعى مرويا أو متلقيا، وهذه الطريقة هي التي تحدد جنس النص السردي.
من خصائص النص السردي ::
* وجود أحداث مرتبة ترتيبا زمنيا تعاقبيا أو ترتيبا سببيا منطقيا تحكم سردها علاقات متشابكة بين الشخصيات.
* وجود نمو للأحداث وتحول في وظائف الشخصيات ضمن علاقات متداخلة تدفع بالحدث من البداية إلى النهاية في فضاءات متعددة الأبعاد المادية والرمزية و الاجتماعية والنفسية. المصدر
https://www.bac20.com/2020/01/TCL-Arab:.
مثال على السرد الحكائي نجده في المقطوعة التالية:
“هكذا ماتت حبيبتي.. في ليلة عيدها كًنّا على شاطئ البحر نسامر سربا من الطيور المهاجرة ومعا كنا نرسم على رماله المبعثرة- كأحلامنا- ملامح فرحنا المؤجّل.. وعلى حين غرّة باغتتنا أمواجٌ عاتية.. أسكنتها أعماقَ البحر.. وأبقتني وحيدا يقتلني الشوقُ لأعماق البحر..
غاليتي سامحيني وأنا أضفي على ألمك ألما.. إني أحبك الآن وإلى الأبد..
أنا أحبّ الشونة وخواتها”. ص.55
في هذه السردية الحكائية تتوفر عناصر الحكاية: المكان الزمان، المشكلة (الحدث) والخاتمة.
هذه السرديّة صيغت بلغة شاعرية مفعمة بالإيحاءات والرمز. فالمحبوبة الأرض باغتتها الأمواج وهي كناية عن الاحتلال، فأغرقتها وأزالت وجودها، وأسكنتها أعماق البحر، وقد يكون الرمز هنا في استخدام كلمة البحر، الى القلوب، ففلسطين احتلت لكنها بقيت في أعماق قلوب أهلها، وسيبقون على حبهم لها للأبد.
في مقطوعة أخرى نجد السردية الحكائية التالية:” لم نلتق… كنت في حفل ميلاد قصيدة وزهرة.. وكانت في ليلة سمر.. غابت بها ملامح وجهي.. فقتلوا ظلالي في كأس نبيذها واستكانوا للسمر..
وفي ليلة سمرها تبعثرت ظلالي بين أقداحهم.. كأنها الموتُ. غاليتي.. ليتنا التقينا في الغربتين لتولدَ القصيدةُ ويزهرَ بكأسيّ نبيذنِا الوردُ
أنا أحبّ زبعة وأخواتها (تقع زبعة شمال شرق بيسان).
نجد في هذه المقطوعة النثرية عناصر الحكاية
المكان: حفل عيد الميلاد
الزمان: ذات ليلة
( الحدث: قتلوا ظلاله في كأس نبيذها(استعارة يقصد بها مجون المحتل وعبثه بالمحبوبة وقتل اللقاء بين العاشق والمعشوقة)
الخاتمة: عدم اللقاء، وتبقى الأمنية بالتلاقي (ليتنا التقينا في الغربتين).
الخلاصة:
يمكن القول إذن، بأنّ همسات على عتبات الذاكرة للكاتب سعيد ياسين، تحفل بلغة شاعرية جميلة حافلة بالاستعارات والمجاز والتشبيهات والتناص كما تميزت اللغة باحتوائها على المناجاة، بلغة شعرية جميلة، كما نجد في بعض المقطوعات حكايا سرديّة. الى جانب ذلك نجد أن الشاعر العاشق للوطن وللقرى المهجّرة، لا ينسى سوريا فهو يخصها بمقطوعة جميلة:» في سوريا تمطر السماء نصرا وحبا للحياة فتزهر بلاد الشام بشذا الياسمين… ص 29. ويتحفنا الكاتب بنصائح إنسانيّة خصّها في الحب فيقول:» تواضعوا في الحبّ حتى لا تفقدوه، لا تغالوا بحبّكم للحياة والأبناء والأملاك والأموال والفرح والآمال فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، الإفراط في الحب أقصر الطرق إلى العنف.. اللهم إني قد بلّغت.
مبارك للكاتب سعيد ياسين هذا الكتاب المفعم بحب الوطن وتحديدا القرى المهجّرة وإلى المزيد من الإبداع.