أما أن نكتب كتابة بالمطلق سليمة لغويًا، فحسبنا أن نفهم قواعد اللغة واملاءها، نحسن اختيار مفرداتها ونجيد التحرّك بمرونة بين شقائقها (مرادفاتها)، لضمان تماسكها وأناقتها. أما أن نكتب رسالة للتاريخ ندعوه فيها لغربلة منتوجاته، وانتقاء أجودها للحفظ في بيت مؤونة الزمان … صيانتها من السوس والحفاظ على سجلاتها من عث النسيان، فنحن بحاجة لكل ما تقدم بالإضافة إلى منظار دقيق، لاقط جيّد، قلم مَرِن وقويم، يمكنه أن يكون مبضعًا ومكحلة، فلا ينثني في يد الجراح ولا ينحني في يد المزيّن. فلا نكتب التاريخ إلا بعد اكتمال الوعي وتنضّره.. كي لا يصل المكتوب للمعني ثمرة فجّة لا تصلح للحفظ في بيت الذاكرة. أو نغني “كتبنا … ويا خسارة ما كتبنا “!
وأما أن نكتب نقدًا في أي مجال كان، فنحن بحاجة للأدوات الأساسية المذكورة أعلاه، الكثير الكثير من الحس المسؤول، دراية وتمرّس في مهارة الغوص والتبحّر والتحليل، قوام فكري متناسق، عدسة مكبّرة تبصر الشعيرات الدقيقة الكامنة طي المعروضات، قلم مهذّب، ممحاة ومبراة … حتى تأتي الرمية نقدة طائر من صيادي البذور، خاطفة تصيب بدقة ولا توجع. (فلا هجاء ولا محاباة). فإن الناقد مصلحٌ وليس محاربًا أو مسوّقًا.
هكذا رُميت بقلم القارئ الموضوعيّ الجميل السيّد زياد شليوط، مشكورًا ضمنًا وصراحة. فلقد قرأت قراءته كتاب “خالٌ على خد الجليل” بتمعّن، فداخلني شعور عميق بالارتياح “وقد تولّى” تحرير عاتقي من ماَخذ عليّ كانت أثقلتني. وكنت بعد سنوات من إصداره قد تناولته لمراجعة نزيهة متبرئة من علاقتي به، باحثةً عما تخفّى في جيوب الصفحات من تفاصيل صغيرة، وهي كثيرًا ما تكون رافعات للكبيرة. وقد اعتبرت هذه السنوات (الثماني) كفيلة بإحداث تغيير في بنية الوعي وحجمه. وهذا يعني لناقل الحقيقة الكثير.
سجّلت ملاحظاتي العريضة بقلم أحمر، وركنت النسخة جانبًا، بنيّة العودة قريبًا لإجراء عملية تجميل اعتبرتها ضرورية؛ شفط هنا ونفخ هناك.. نتف هنا وزرع هناك.. لكنني لم أفعل لأسباب خارجة عن ارادتي. وتمركز هاجسي في الجزئية المتعلقة في التعريف عن هوية الكتاب (قصة من الحياة). وهذا ليس دقيقًا وقصص الحياة كثيرة، وكثيرًا ما تكون عادية ومتشابهة. بينما يختصر الكتاب ملحمة نضال حقيقية دارت على ثلاث جبهات كان بطلها “شهيد الانتمائين الأكرمين“: الانتماء لوطن يُذبح بسكاكين قرارات مُقَونَنَة (!!!!!) وتُسحق إنسانيته تحت حوافر مجنزرات محمية بالبنادق! والانتماء لجبل جليل، أرض سخية وبيت قام على أعمدة جُبلت بالعرق والعطش.
قراءة السيّد شليوط دفعتني لإعادة مسح الكتاب (المطروش بالأحمر) بالعين الثالثة من باب النقد الذاتي، وهذا مهم جدًّا. في مطلع الكتاب أدخل بين القوسين الأحمرين من صفحة 11 وحتى الصفحة 26 المتبوعة بالملاحظة “لعل هذه الصفحات قد خطفت الشيء الكثير من بريق الجوهرة”! وأكون قد سجّلت علامة جيّد؛ فهذا، تقريبًا، ما دلّ عليه السيد زياد بنقدة خاطفة وغير موجعة، بينما في الختام يُبَرْوِز صورة الجوهرة المترجمة بإقامة قرية عربية بعد قيام دولة إسرئيل وإدراج هذا الإنجاز ضمن النضال الفلسطيني.
كان منقار “الطائر” هذا أرحم من قلمي علي، وقد قرأت خلاصة ملاحظاتي الحمراء: “لو أتيت إعادة اخراج هذا العمل لشطبت الكثير وأضفت الكثير الكثير، خاصة فيما تعلّق بأسباب عزم نعيم على البناء خارج أحواض الساقية الأم. وقد مرّ الكاتب عليها مرور لطشة كهربائية! ويطفو سبب عارض على وجه الحقيقة ويستقرُ فيه شامة خبيثة، وهذه إساءة للبقيعة حيّاكة الفضائل. وتُعزى الأسباب، وهي أعمق.. لشجار بين درزيّ ومخوليّ، ويُصوّب عليها منظار التكبير فتكاد تُقرأ بين الخفايا أنها بداية حرب بين الدروز والمسيحيين! وهي طوشة عادية أدت إلى غضب مخوليّ واحتشاد جامع، لاقاه استنكارٌ معروفي ومؤازرة عاقلة مسؤولة جامعة. وانتهت بالمصافحة”.
وتُطوي الصفحة
(أما أن خلافًا قد وقع بين أفراد عائلة “مخول” فغربهم، فهذا مجافٍ للحقيقة. إذ لم تسجل فيما بينهم أي سجالات إلّا بعد الانتقال إلى المرج، وتحديدًا عند فصل التسمية. وقد شبهت هذا، في موضع اَخر، بمقارعات الأشقاء الروسية (هذا للتوضيح ليس إلّا).
بعد قراءتي المتأنية أدركت أن قلمي قد زلّ زلةً يجب العمل على إصلاحها بالسرعة الممكنة، فالمسألة متعلقة بالقطب الأولى في ثوب الرواية. وتسريجها بسرعة صوّر السبب العابر وكأنه تهريبة أو تمريقة للدخول إلى صلب الفكرة المركزية: مناضل مؤمن بسلطة الحق ينتصر له ضد الباطل ويسحبه من بين أنياب الضبع. وهذا اَلَمَ ما يؤلم ضباع التاريخ الجاري، وأهم ما يهمهم هو دفن الانتصار حيًّا والسُكّر فوق قبره. هذه القطب كان يجب درزها وتثبيتها منذ البداية، وهي تحتمل فصلًا خاصًا، خاصة وأنها استغلت كرافعة لنقل البضاعة الجديدة. فأنا لا أكتب غزلًا أو … بل أوثق حدثًا وقع على مفترق رئيسي ومنعطف تاريخي حاد. ولم أنتبه لإشارة المرور المؤدية إلى المحطة المركزية لتوزيع خناجر تمزيق المجتمعات… ورزم السموم والمخدرات الطائفية.
عزوت هذا الخلل الرؤيويّ، لأخفف حكمي عليّ، لجموح رغبتي بتمريق تحية شكّر وإكبار كبطاقة معايدة لثمانين تتهادى تحت ثقل الخيبات، وعزمت على اصلاح ما أفسدته عاطفة يجتاحها إحساس بالسعي لدفن الشهيد حيًّا.
لم أجلد نفسي بملامة، ولا قرّأتني فعل الندامة، واكتفيت بالتحذير من الوقوع قبض عاطفة يهزها الخوف من الوقت. أما زمن احتراف ترقيع الحقائق بالأكاذيب، زمن الدبلجة والتمويه فيفرض على حراس الحقائق التيقظ الدائم. هذا رغم أن الحقائق أدرى بمصلحتها وأحرص عليها، تخرج من قلب الأكاذيب مضيئة كما النور من قلب الظلام.
وأتوقف عند فصل الخطاب لأضيء شمعة في هيكل شهداء الحق والكرامة أينما كانوا.