أبو أسعد ملّاح في بحر الظّلمات – بقلم: مصطفى عبد الفتاح

يشدّني أدب السّجون بشكل غير عادي، أشعر أنّني أمام ناسك يناجي ربّه، يُخاطب نفسه، يكتب فلسفته بصدق، بوعي، بعقل مُنفتح، وبعاطفة جيّاشة حقيقية، كلماته تخرج من الأعماق، معبّرة عن عُمق الرّؤيا، والايمان بالرّسالة، فكيف إذا كان هذا الأدب يسكب مداده مُناضل عنيد وأديب صقل موهبته الأدبية خلف القضبان، مثل محمد أسعد كناعنة (أبو أسعد) الذي قضى من العمر جلّه خلف القضبان!. انخرط أبو أسعد في صفوف حركة أبناء البلد، منذ نعومة أظفاره، فكان قائدًا ملهمًا وموجهًا بالفطرة، استقى أفكاره ومبادئه من حركته فكانت له ولشعبه تعبيرًا صادقًا عن ضمير شعب وكفاح أمَّه من أجل انعتاقها وتحرّرها.

أبو أسعد محمد أسعد كناعنة، مُناضل عنيد، يعرف أبواب سجون الاحتلال كما يعرف باب بيته، رسم على جبينه طريق النّضال الطّويل وحتى النّصر، ورسم على ثغره ابتسامة المُنتصر في معركته ضد ظُلم السّجان، خطّ لنفسه طريق الكفاح، وأبحر بمشيئته في بحر الظلمات، لينير درب شعبه، لم يتوجّع ولم يتألّم أمام السّجان، بل انتصر عليه بابتسامته السَّاخرة، في حين أبقى على ابتسامته الهادئة المعبِّرة عمّا يُؤمن به من حريّة وانعتاق له ولشعبه أكثر من كونها إخفاء ألم وحزن دفين، فكانت ابتسامته صادقة معبرة عن ايمان بأن فجر الحريّة قريب، رغم عتمة الزّنازين، يوقظ فيها ضمائر الاحرار.

زرته أكثر من مرّة وهو مبعد في سجنه المنزلي، في بيت شقيقته، كانت ابتسامته دائمة الحضور أصدق تعبيرًا عن إرادته الفولاذية وايمانه الذي لا يتزحزح بنور الحرية في نهاية النفق، أهداني باكورة أعماله الأدبية، “بمشيئة الملّاح من أدب السّجون” وخط على عتبة النّص الأولى ” ترانيمٌ من الاسر” أصدرته دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2019.

لم يمض وقت طويل، وفي زيارتي التّاليى له، حتى أهداني مجموعته الثّانية مِن النّصوص الشعريّة، الّتي تحمل عنوان “ماء زهر” من ادب السجون” لنفس دار النشر، عام 2022 ولي مع هذه النصوص الجميلة وقفة.

أجمل ما بدأ به أبو أسعد مقدمة نصوصه “امّا قبل” وكانّه يعيدنا إلى نقطة الانطلاق الأولى كاسرًا كل قوالب الكتابة الروتينية، في وصف يكاد أن يكون رومانسيًا، وفي لحظة امتلاء عاطفي، وحاجة مُلحة عارمة للكتابة، تشبه تفكير مراهق بلحظات حميمية، يرى صورة عشيقته في كل الموجودات أمامه فيقول: “كنت منتشيًا بالقلم.. وسيلتي للهرب وللمقاومة، وما إن استقرّيت في قلب السّواد حتى فاض الفرح من قلبي فملأ المكان، وابتسمت الورقة العذراء في زاويتها حيث كانت تنتظر، تنتظرني، فقد أدركت بحسّها المُرهف أنّ أوان حرثها قد حان.” ص 11. وعن سبب هذا التّوق إلى الورقة والقلم، كحاجته إلى الحياة نفسها، للبقاء مع فكره المُتوقّد ولتسجيل مشاعره الجيّاشة في لحظة إلتقاء الأضداد بين جنبات السّجن فيكتب بسطره الأوّل بعفويّة وبصدق “في قلب تلك العتمة شديدة السّواد، انتشيت وانتشت كلماتي لتبوح بعشقها لزوايا زنزانة عفنة إلّا من روح من صمد هنا، من روى سراج عتمتها بدمائه وعرقه بعد كل جولة تحقيق وتعذيب، وفي ليلة من ليالي العُزلة في تلك الزّاوية المُظلمة شعرت بحاجتي لقلم وورقة، هذه الحاجة دفعتني للمحاولة لتهريب أو سرقة قلم من أمام المُحقّق. ” ص11 فهل يوجد ابلغ من هذا الوصف لشاعر مرهف ومناضل عنيد في الحاجة لإخراج ما في النفس والعقل والروح إلى حيّز الوجود، ووسيلته القلم والورقة، ومع هذا يقرّر أبو أسعد ” لست بشاعر، ولكنّني أملك في صدري كثيرًا من المشاعر ففاضت بوحًا لتغدوا على ما هي عليه الآن”. ص: 12 وهل يملك الشّاعر يا صديقي أكثر ممّا تملك حتى نسميه شاعرًا، ألا يكفيك هذه المشاعر الجيّاشة أمام قضيّة مقدسة تحمل رايتها وتسكبها بوحًا بقلم سجّان وورقة سجن.

لن اخوض في أعماق الكتاب وهو يستحق ذلك ولكنّي أرسم له اطارًا وأحدد معالمه، فهو جدير بالقراءة والمراجعة، فيه عُمق وفيه تجربة مناضل يطرح أفكاره، ويشركنا همومه والامه واحلامه وامنياته بكل صدق وشفافية.

يحمل أبو أسعد في صدره، هموم شعبه وقضيته الآم فلسطين، وهو يحمل أنبل وأطهر قضية، انّها قضية الأسرى والمعتقلين، ومعاناتهم ويتحدث عنهم بنبل المناضل، وبوجع السنين التي قضاها معهم. كان يخرج من السّجن ويبقى عقله وقلبه معلقًا بهم بهؤلاء المنسيين خلف أقبية الظلام. ولنتابع بعضًا من شعره في هذه القضايا التي يلمسها القارئ في كل كلمة وفي كل نص:

والغريب في هذا الكتاب أنّ أبا أسعد يرفض الإركان إلى وعي وثقافة القارئ أو ربّما يريد مساعدته بشيء يخدم النّص، فينقِص من قيمة النص نفسه ففي نهاية كل نص أو قصيدة، يشرح الشّاعر متى ولماذا وكيف كتبه، ولو ترك الأمر للقارئ لكان أجمل وأكثر جذبًا ومع هذا فإنّه يُضفي عليه هالة من الجمال الغير معهود لانّه من أدب السجون:

يبدأ نصوصه في شدّة مقاومة المناضلين والدّفاع عن الوطن ” صبرًا .. صبرا أيتها المدينة/ فالنجوم لا تقبل الهزيمة. ص 16

وفي حبه لفلسطين والتي يعتبرها “سيدتي” يقول: اليك سيدتي مشيت / وانا لا أملك الّا بعضًا منّي/ والكثير الكثير منك/ فانت يا سيّدة الشّمس أقرب من جسد/ أادفأ من سرير / وأكثر من وطن. ص 19

عن حلمه في عتمة السجن وفي برده القارص يناجي نفسه ” لسعات برد الصّباح/ فوق برشي العاري/ عند جبيني/ وعلى ضفاف جرحي/ برعم يتفتّق/ يطلق صرخة/ وزهرة/ حولها فراشاتي تتحلق. ص 29 وفي لحظة ضعفه يصرخ ” شتاء يطارد شتاء/وحول معصميَّ/ طعم القيد يميد ويميد.” ص 43 ورغم هذا الضّعف والاعتراف به، يصمم أكثر على الصّمود إلى النّهاية” وقلمي ليس سلعةً/ بين من يدفع أكثر أو يزيد.” ص 44.

وعن معركة الارادات بين السّجين والسّجان تنتصب معاناة السّجن ومعركة البقاء والانتصار للحق وتثبيت الحريّة رغم القيد فينشد: “معركة ارادات/سجين وسجان/ وبينهما تنتصب ذات القضبان/ وحوار.

في صرخة هي الأجمل، وفي تناص أدبي رائع يدعوا عشاق العالم كما دعت الاتحاد عمّال العالم أن يتّحدوا لان اتحاد العالم حول، ومن أجل فلسطين يشبه وحدة العشّاق في عيد الحب فيقول” أيها القديس فالنتاين/إنّ دربنا واحد/ ومعبدنا واحد… اسمه بالستاين/ فيا كل القديسين/ ويا كلّ عشاق العالم…. اتحدوا/ اتحدوا/ اتحدوا. ” ص 69 ويصل أبو اسعد ذروة النّضال والصمود وفي عز الألم والقسوة والظلم والقهر يصرخ:

زنزانتي/جرح مفتوح على مصراعيه/جسد ينزف على مهل/يروي حاكورة الدّار.” ص 95 ويستذكر والدة السجين المناضل الذي يعاني اليوم سكرات الموت وهو قابع خلف القضبان، دون ان يستطيع تنفس هواء الحرية، حين زارته والدته لتطمأنّ عليه، ولم تعرفه، وسألت وليد” مين انت؟ شو اخبار وليد يا ميمتي.؟” فتشعر بقمّة القهر والغضب. يقول أبو اسعد ” أمهات ما عدن يجدن السؤال عن الأحوال/ تنظر في عيون منذ ثلاثين حول/ عين تبكي من وراء الزجاج حين ياتيه السؤال/ مين انت يا ميمتي/شو اخبار وليد/عام وراء عام تسال ابنها عن أحوال ابنها/ هي نعمة الايمان/ وعيون تبخث عن القهر/ في وجه السجان” ص 97. ورغم كل مسيرة الألم والغضب والحزن والنضال يأبى الشّاعر الا أن ينهي كتابه بالامل والعزيمة الصّادقة على مواصلة النّضال بمشيئة الملاح فينشد “بمشيئة الملّاح/ كانت الفكرة وعناقك يشفي الجراح/ بمشيئة الملاح/ قَهقَه الطّفل وخَطَا على درب الكفاح.

ويعود أبو اسعد إلى أدب السّجون في كتابه الثاني “ماء زهر” أكثر وضوحًا واكثر إصرارًا وعزما على مواصلة النّضال، يعود وهو يجدد العهد، ويرسم ملامح المستقبل ويعيد صورة الماضي ليضيء به المستقبل، ومن نفس النّقطة الّتي انطلق منها، وبعد إهدائه الكتاب إلى حرّاس الثّورة، ووقودها الاسيرات والأسرى ويخص بإهدائه الطفلة هدى غالية ابنة غزّة التي أفقدها القصف الصهيوني على غزة كل عائلتها، فهامت على وجهها، ويختتم الاهداء الى شقيقته الصغرى سُمية، وكأنَّه بذلك يدرّج إهدائه من الأهم إلى المُهم في مسيرته النضالية.

وكما فعل في كتابه الأول “بمشيئة الملاح” ومقدمة “ما قبل” ها هو يقدّم لكتابه الثّاني “ماء زهر” بابتسامة ساخرة بدل المُقدمة لتحمل كل المعاني ولتتضمن مقدمة تليق بمناضل يعرف كيف يصيغ الحروف، لتكون كلمات مقاتلة تعبر عن روح ثائر يقول في ابتسامته “ماء زهر” نصوص سكبت تحت القصف، بعضها في أجواء الإنتصار، بعضها في أجواء الإنقسام، بعضها في أجواء صراع الأجيال، بعضها نوبات عشق لا تنتهي” ص 7. فالكتاب قصائد ونصوص كُتبت داخل السّجن وبقيت في الادراج حتى جاء الوقت لإصدارها، وكان توقيتًا غريبًا اذ صادف الإصدار هرب ستة أسرى من سجن الجلبوع المركزي، فكان شعوره الأقوى بانتصاره على السّجان ودفعه لإصدار كتابه وابتسامة حلوة تداعب أفق خياله فيكتب” رغمًا عن قيدهم تنسّموا الصّبح وكحّلوا أعينهم بالشّمس من دون شبك وأسلاك، رغمًا عن قيدهم حملوا أفكارهم معاول وهدموا جدار المستحيل المزعوم، المستوطن في رأس العاجز، ابتسمت روحي، مع صباح هذا اليوم الاثنين السّادس من أيلول من عام البشارة بالنّصر الكبير ، هو حتمًا آتٍ لا محالة… ” هنيئًا لك أبا أسعد “ماء زهر” الذي ترتشفه فتحافظ على توازنك بين الوهم والواقع، بين الإحباط والامل، والحفاظ على جذوة النضال مشتعلة في كل الظروف. ونحن بانتظار مولودك القادم ” رسائل مهرّبة”

نشرت في مجلة شذا الكرمل

العدد الثاني السنة التاسعة

25.6.2023

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*