القليل من المعارض التشكيلية التي حضرتها في حياتي كانت تروي حكاية، وهذه المعارض كانت من أجمل المعارض التي شاهدتها عبر ما يزيد عن نصف قرن من الاعوام التي مرت من عمري، وحين وجهت لي الفنانة طرب أبو زهرة الدعوة لحضور معرضها الشخصي “حكاية صمت” والذي كان في بيت عرار في مدينة اربد يوم 15 أيار للعام الحالي 2023م وبتنظيم من ملتقى ألق الثقافي ورئيسته السيدة حمدة الهربيد وبالتعاون مع مديرية ثقافة اربد وحضور رئيس قسم الهيئات الثقافية الأستاذ سامي الدبيس لافتتاح المعرض، كنت أشد الرحال لقضاء يوم في رحاب الفن التشكيلي وذاكرة المكان في بيت عرار، وخلال الطريق كنت اسائل نفسي: ترى ما هي حكاية الصمت التي سترويها ريشة الفنانة؟ وخاصة أنها المرة الأولى التي سأحضر لها معرض شخصي.
من لحظة وصولي وبعد احتساء القهوة بدعوة وتكريم من مديرة بيت عرار السيدة فاطمة الصباحين كنت أجول لوحات المعرض والتي بلغت ثلاث وعشرين لوحة وأستمع منها همساتها وأناتها وهي تروي الحكاية، حكاية المرأة المعنفة والتي تحلم بالسكينة والطمأنينة في بيتها، بعيدا عن العنف والقمع الذي تعانيه، ومن هنا نجد أن الفنانة في لوحاتها تناولت قضية اجتماعية مهمة، من حيث الواقع الاجتماعي وتنمر الذكورية على المرأة، ومن الجوانب النفسية التي مثلتها شخصية المرأة في لوحاتها، معتمدة في روايتها التكوين اللوني والريشة والأسلوب، وكان لكل لوحة اسم يعبر عن تسلسل حكايات الرواية، حكاية الصمت التي روتها بصمت من خلال لوحات تتحدث ولا تصمت.
يلاحظ أن المرأة كانت هي الموضوع الظاهر في ثلاث عشرة لوحة من اللوحات، بينما الخيول التي رمزت بها للمرأة كانت في ستة لوحات، وكانت هناك لوحة واحدة ترمز لبيت المرأة المعنفة ولوحة واحدة تشير لواقع المجتمع ولوحة رمزية تعبيرية تشير للعلاقة بين الطرفين ولوحة واحدة تشير للواقع الذي تعيشه المرأة في بيتها رغم كل المعاناة، ومن خلال هذه اللوحات سنستمع لهمسات بعض اللوحات، مع المرور السريع على باقي اللوحات لتروي جميعها لنا حكاية الصمت التي كتبتها ورسمتها الفنانة التشكيلية طرب من خلال الريشة واللون.
اللوحة الأولى: وقد أسمتها “أنا لا أعيش يومي، أنا أنجو منه فقط” وفيه صورت امرأة جميلة تضع أحمر الشفاه وطلاء الأظافر وتسدل شعرها الناعم على كتفيها، وترتدي رداءً أنيقاً يكشف عن ذراعيها ومساحة من أعلى الصدر، في رمزية إلى أن المعنفة ليست من تعيش ظروف اقتصادية أو اجتماعية متعبة فقط، بل ربما تكون سيدة تعلمت وتعيش بظروف اقتصادية واجتماعية جيدة، والمرأة في اللوحة تضع يديها على وجنتيها وملامح الحزن تظهر على وجهها من أسفل العينين حتى الذقن، فالعينان تغطيهما عصبة سوداء معتمة برمزية واضحة إلى الواقع الذي تحياه والظلم الذي تعيشه.
ونرى أن طرف العصبة بدأ بالانفكاك وكأنه يتعرض لريح بدأت تعصف به، وهذه إشارة رمزية أن تحرر المرأة بدأ لتعود مكرمة كما يجب أن تكون وكما نص عليها الدين الحنيف، هذه الحقوق التي أضاعتها ظلامية المجتمع وعدم الوعي الذكوري أن المرأة هي النصف الآخر للذكر، وخلفية اللوحة وفضائها اعتمدت اللون الفاتح مع ضربات فرشاة بالأزرق والرصاصي الفاتح، ترمز من خلالها أن المنغصات والتعنيف والتنمر هو من يشوه حلم المرأة والواقع الذي تريده بطمأنينة واحترام وتقدير، مع الإشارة أن الفنانة كانت متمكنة برسم ملامح الوجه وتشريح الأصابع بدقة وإتقان تشير لموهبة وقدرة فنية جيدة.
اللوحة الثانية: وحملت عنوان “فقدت بعضي وأنا أبحث عنه” وهذ العنوان يثير السؤال أين تبحث؟ وحين نتأمل اللوحة نرى الجواب وهو أنها تبحث عن بعضها في عالم الجمال وسحر الطبيعة، حيث نجد في اللوحة المرأة تقف على حافة جدول ماء يخترق غابة بشكل جانبي بدون أن يظهر وجهها، برداء أزرق مريح للنفس وشعر منسدل على الظهر بتسريحة بسيطة وجميلة، تنظر للجدول والأشجار بتأمل حالمة بأن تكون حياتها بهذا الجمال بعيدا عن التعنيف والتنمر، ومن خلال الاسقاط الضوئي نجد أن قلب اللوحة حيث تنظر المرأة هو المنير واللون الأخضر حيث مسقط الضوء مثير للبهجة، بينما الجانب الأيمن معتم والأيسر أكثر اضاءة والأرض.
ونلاحظ أن المرأة تقف على الجانب الحافل بأوراق الشجر المتساقطة والجافة بلون أقرب للأحمر وليس الأصفر، رغم أن المشهد ربيعي وليس خريفي حتى تتساقط أوراق الشجر، ولكنها رمزية للجفاف العاطفي الذي تعيش فيه ولكنها تحلم بالسماء الصافية كما أفق اللوحة، كما نلاحظ اهتمام الفنانة بالتكوين اللوني وتدرجاته للون الأزرق، حيث السماء بلون أزرق مثير للبهجة وموشح ببياض الغيوم، والجدول يشوبه التعكر فيخفي زرقته بينما الرداء بلون البحر الذي تكتنفه الأمواج، برمزية واضحة للثورة والموج في روح المرأة والتعكر في حياتها وحلمها بالجمال والصفاء، كما لجأت للتكوين اللوني ورمزيته بالغابة بأطرافها الثلاث وأوراق الأشجار المتساقطة.
تواصل الفنانة رواية الحكاية فنراها في اللوحة الثالثة في المعرض تهمس بعنوان: “وكم كنت وحدي” بلوحة تعبيرية عن أحاسيس المرأة المعنفة، وفي اللوحة الرابعة التي عنونتها: “استنفذت جميع فرصي بالبقاء” نرى حجم القهر والتشاؤم في رمزيات اللوحة والتكوين اللوني، بينما في اللوحة الخامسة وتحت عنوان: “ثبات على حافة الانهيار” نرى امرأة على شاطئ البحر وتنظر للأفق المعتم وإن كان فيه إشراقة بسيطة تحلم بها خلف الغيم، فتتجاوز التشاؤم وتقرر الثبات رغم أنها على حافة الإنهيار، بينما في اللوحة السادسة والمعنونة: “أوهن البيوت” نجد لوحة رمزية عبارة عن بيت عنكبوت على شجرة، وأعلاه وخلفيته أخضر وقاعدته أوراق تميل للجفاف في إشارة رمزية أن البيت الذي تعنف فيه المرأة معرض للانهيار، والبيت القائم على الاحترام المتبادل والمحبة يبقى أخضرا خصبا.
ومن ثم تنقلنا الفنانة إلى اللوحة السابعة وعنونتها: “لا تنس أني بذلت الكثير حتى لا نصبح غرباء”، وهذه اللوحة والتي رسمت بالألوان الداكنة تعبر بدقة عن حكاية الصمت التي ترويها لنا الفنانة، فهنا نجد امرأة تجلس على حافة الطريق رغم برودة الجو حيث يظهر الجو من خلال ارتدائها المعطف والحذاء الطويل الواقي من المطر، وهي تنظر للخلف باتجاه ذكر يسير بدون الالتفات اليها ولا الاحساس بمعاناتها، وهو يضع يديه على خاصرتيه بمشهد يشير للقسوة في التعامل معها حتى أصبحا غرباء رغم كل ما قدمته لكي لا يصلا لهذه المرحلة، ونلاحظ في اللوحة اعتماد الفنانة على التباين اللوني بين مكان المرأة المعتم ومكان الذكر المضيء، وهذه لوحة من اثنتين من كل اللوحات التي يظهر بها رمز ذكوري حيث كانت المرأة هي الطاغية على معظم اللوحات.
لتواصل الفنانة روايتها لحكاية الصمت فنجدها في اللوحة الثامنة والتي أسمتها “لا أريد ردا” حيث نجد امرأة جميلة الوجه والملامح وقد زينت وجهها بأدوات التجميل، وعارية من أعلى الصدر وتسدل شعرها الأسود خلف ظهرها، تغمض عينيها وملامح الحزن على وجهها، وعلى جبينها ورأسها ورقة بيضاء غير مستوية تماما ولكنها فارغة بعد طول انتظار فتصرخ في بداية ثورة على واقع: لا اريد ردا، لتنتقل بنا في اللوحة التاسعة وعنونتها “حكاية تنسدل من آفاق احلامنا” الى وجه جميل لامرأة ذات شعر مسدول وباقات من ورود ياسمين يانع على جانبي وجهها، ولكنها تحمل في عينيها نظرة التحدي والإصرار رغم الظلال المنعكسة على وجهها، وكأن الفنانة بدأت التحول للثورة في وجه الظلم، فتنسدل الحكاية من أحلامها.
في اللوحة العاشرة “يرتدون ثياب الحملان” تظهر خمسة نماذج ذكورية من المجتمع منها ثلاثة يرتدون لباس المهرجين ويضعون الأصباغ والأقنعة على الوجوه، بينما خلفهما ذكرين أحدهما بأصباغ تظهره كأنها “دراكولا” مصاص الدماء والآخر بملامح قاسية تظهر الوجه الحقيقي لهذه الفئة، بينما خلفية اللوحة سوداء في رمزية لظلامية المجتمع الذي أتوا منه، لنرى الفنانة في اللوحة الحادية عشرة وعنوانها: “فأجدني مقيدة من جديد” تعطينا وجها جميلا آخر لإمرأة ذات شعر أسود منسدل وعينان مغمضتان، والتي رغم جمالها ورقيها من خلال زينتها وملامحها إلا أن ملامح القهر تظهر عليها وهي تمسك بيدها سلاسل معدنية تحيط بجسدها وتثبته على الحائط الرمزي للمعاناة، في رمزية أنها رغم كل محاولاتها السابقة لبناء علاقة ايجابية مع الآخر تجد انها مقيدة من جديد، فحائط الصد الذكوري أكبر من قدراتها ومحاولاتها.
تواصل الفنانة سرد حكاية الصمت فنجدها في اللوحة الثانية عشرة والتي أسمتها “ويشهد الله أنا كنا صادقين حتى خذلنا”، وفي هذه اللوحة خرجت من رواية المرأة الواحدة لجميع النساء، فقاعدة اللوحة خمس نساء يلفهن وشاح الظلام المتوشح بالنار كما إعصار، ونرى أن النساء من بيئات مختلفة فهناك المحجبة وغير المحجبة، وفي أفق اللوحة امرأة جميلة بعينين زرقاويين ودموعها تسيل من القهر المحيط بها مع ذلك تنظر بإصرار وبدون خنوع، ونرى أن الفنانة استخدمت التكوين اللوني ورمزية اللون لايصال الفكرة سواء بالقهر للمرأة الرمز في الأعلى أو بالوشاح الذي يحيط النساء بقاعدة اللوحة، فنجد الأفق المحيط بوجه المرأة كأنه براكين مشتعلة، وهنا المرأة الباكية مثلت مجتمع النساء بغض النظر عن البيئة وليس ذاتها فقط، لكن ورغم ذلك فهناك بارقة أمل حيث نجد النور ينعكس على وجه المرأة التي تعاني لينثال كطاقة من نور عليها وعلى باقي النساء، وهن يشهدن الله انهن كن صادقات في حياتهن حتى خذلن.
تواصل الفنانة حكاية الصمت ففي اللوحة الثالثة عشرة والتي حملت اسم: “هل أنتِ من تحلمين” اظهرت لنا اربع فتيات يرقصن الباليه بشكل حالم ومن هنا كان السؤال للمرأة التي تعاني لنفسها، لتنتقل في اللوحة الرابعة عشرة بثورة جديدة فتظهر امرأة تصوب سهم برمزية من قوس تحت عنوان: “صوبت سهامها نحو الحزن الذي نهش جوارحها” وفي عينيها اصرار كبير، وخلفها طاقات من نور انفراج بدأت تسقط نورها عليها، بينما في اللوحات الخامسة عشرة وعنوانها: “يا باخلا في الوصل أنت قتلتني” واللوحة السادسة عشرة بعنوان: “ وتلك العثرة التي أوجعتك أخذتك لآفاق رحبة” لجأت للرمزية الواقعية لتكمل الحكاية، لتنقلنا لأسلوب آخر لتكمل حكاية الصمت من خلال التعبير بواسطة الخيول فنجدها في اللوحة السابعة عشرة بعنوان: “ كم تحتاج الروح لروح تتكأ عليها”، تصور بابداع فرس تتكئ بعنقها على ظهر جواد، مستخدمة الرمز اللوني بالتباين بين الوان الخيول وكذلك التباين اللوني في الأفق بين العتمة والنور، الذي يرمز للحلم والراحة بعد معاناة رمزت لها باللون الناري أسفل قاعدة انبثاق النور، على قاعدة مظلمة للوحة تقف الخيول عليها برمزية لواقع تحياه المرأة وتعبر عن حلمها بروح تتكئ عليها، مع الإشارة أن الفنانة تمكنت بإبداع من رسم الخيول رغم أنها من أصعب الصفات التشريحية.
وفي اللوحة الثامنة عشرة بعنوان: “لم أطلب يدا تمسح دموع الفزع” تتألق بلوحة لفرس تسيل منها الدماء ولكنها تسير نحو الضوء والحرية بعنفوان، وتكمل في اللوحة التاسعة عشرة تحت عنوان: “أضعت في وسط الصحراء قافلتي” وفي اللوحة العشرين بمسمى: “واهجروني فربما صرت حرا لا يقدس أمرا” وفي اللوحة الحادية والعشرين وهي اللوحة الوحيدة بدون عنوان، حيث تواصل الفنانة استخدام رمزية الخيل للتعبير عن المرأة وروي حكاية الصمت فالخيول تتألم وتصهل ولا تتكلم، حتى تصل بنا الى اللوحة الثانية والعشرين وأسمتها: “مع خيوط الشمس” حيث فرس وجواد يركضان مع الفجر والخلفية من أسفل اللوحة حتى أعلاها وكأنها موج بحر أو عواصف، في حلم للمرأة أن تكون هي والذكر في انسجام وتوافق بعيدا عن التعنيف والتنمر والذكورية التي لا علاقة لها بالرجولة، لتنهي المعرض بلوحة اسمتها: لا أخطها بالحبر” وهي لوحة لتنور خبز وأرغفة طازجة فيه وخارجه، وكأنها تريد أن تترك لنا النهاية مفتوحة بالقول: رغم كل المعاناة فالمرأة لا تتوقف عن واجبها تجاه أسرتها، أو تريد القول: ومع كل الثورة للمرأة على الظلم إلا أن المجتمع يصر أن يضعها في زاوية محددة.. الخدمة والبيت.
فكانت هذه حكاية الصمت روتها لنا الفنانة طرب أبو زهرة بريشتها وألوانها بإبداع فني معبر وجميل، تحت فكرة واحدة هي معاناة المرأة في المجتمعات التي تعيش فيها، فكانت لوحة استغلت فيها الفنانة كل مساحات اللوحات وفضائها برمزية حفلت بالدلالات النفسية وغاصت في روح المرأة وما يعتمل فيها، مع اهتمامها بالتوازن في اللوحات والتشريح الدقيق للوجوه والخيل والأصابع، مستخدمة الوان “الأكليرك” على القماش “الكانفس” بإتقان رغم بعض الهنات القليلة في بعض اللوحات من حيث البخل باللون وظهور بعض من نسيج القماش أو بثور زائدة كان يجب الانتباه لها وفي زوايا أخرى بعض من الكرم اللوني الذي سال على بعض اللوحات، لكنها فعلياً كانت محدودة بأعمالها الفنية في حكاية الصمت، مع ضرورة الإشارة أن الفنانة اتقنت بشكل جيد استخدام مساقط الضوء والتباين في التكوين اللوني لإيصال الفكرة للمشاهد، وكانت الواقعية مع الرمزية عالية في اللوحات مع العناوين لها، ويلاحظ لجوء الفنانة لوجوه مختلفة للنساء فالمعاناة شاملة وليست لإمرأة واحدة، كما اهتمت الفنانة بجمال النساء والزينة على الشفاه والعيون والوجوه وتسريحات الشعر والملابس للتعبير عن الفئة الاجتماعية الراقية للمرأة.
وهكذا اجد أن الفنانة والتي امتلكت الموهبة منذ الطفولة وصقلتها على يد الفنان التشكيلي محمود أسعد، لم تدرس الفن في كلية فنون وكانت دراستها في كلية المجتمع العربي في عمَّان لمادة مختلفة، وكان هذا معرضها الشخصي الثاني إضافة لمشاركات كثيرة في معارض جماعية، تمكنت بجدارة في معرضها أن تنضم للرائدات من الفنانات التشكيليات اللواتي أبدعن في التعبير عن المرأة في لوحاتهن، ومنهن نجاة مكي وزينب السجيني وعائشة الفيلالي ومها الذويب، وحفصة التميمي وصفاء العطياوي وفخرية اليحيائي وجينا نحلة وملاذ حشمو وملاك العبار، والعديد من الفنانات التشكيليات المبدعات على مستوى الساحة العربية، وأصبح لها بصمة ستضعها إن واصلت مسيرتها في صفوف التشكيليات الرائدات.
“عمَّان الخامس من حزيران 2023م”