الرّواية فن أدبيّ نثريّ ونسق فكريّ إبداعيّ، وهي من الأجناس الأدبيّة المحدّثة، التي تجد اهتماما واقبالا خاصّا من قبل الأدباء والقرّاء، تعزّز الجانب الإنسانيّ والإبداعيّ، وتعرّفنا على ثقافات الشّعوب الأخرى، عاداتها وتاريخها وإرثها المعرفيّ، وتعبّر كذلك عن الواقع لتعكس أحداثه وتقلّباته.
تتمتّع الرّواية بانتشار واضح، وهي كعمل أدبيّ جذّاب تلبّي ذائقة القرّاء، تفتح لهم الآفاق بتعاطيها مع مختلف الأحداث والمواضيع التي تستمدّها من روافد عديدة كالواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ والتّاريخيّ، تغوص في أعماق الوجود الإنسانيّ وتعمل على الارتقاء بالنّفس البشريّة، وبذلك فهي تحفّز الخيال وتحسّن الذّوق الأدبيّ، وتعمل على إثراء المخزون المعرفيّ للمتلقّي.
اتّخذت الرّواية مسالك متنوّعة في بنائها وأساليبها، شكلها ومضمونها، وكونها الجنس الأكثر ثراء من النّاحية الدّلاليّة والفنيّة اهتمّت الدّراسات بها وبعنصر المكان الرّوائيّ، وذلك لأهميته في عناصر البناء الرّوائيّ، فلا يمكن للكاتب أن يصوّر الأحداث أو الشّخصيّات دون تواجدها داخل هذا الحَيّز المكانيّ بحدوده الواضحة، وسماته الخاصّة حيث تقع أحداث العمل وحركة شخوصه، فيغدو فضاء واسعا رحبا، يحفل بالعناصر الرّوائيّة بكلّ ما فيها من أحداث وشخوص وعلاقات.
المكان بوصفه عنصرا هامّا، يتمتّع بوظائف خاصّة، أهمّها إنشاء إطار للحدث وتفعيل خيال القارئ، الذي تثيره اللّغة بقدرتها على الوصف والإيحاء، غير أنّ المكان يحقّق دوره الفاعل بتحوّلاته المستمرّة التي تؤكّد على فكرة “اللّاثبات”، فالمكان لا يبقى على حاله، هو عرضة للتّحوّل والتّطوّر أو الاندثار، ومن خلال تلك التّغيّرات التي تحدث فيه وله، نقرأ التّاريخ ومستجدّاته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فالمكان تاريخيّا أقدم من الإنسان، يعاد تنقيحه وتشكيله وفق احتياجات البشر وثقافتهم؛ ليظهر في الأعمال الرّوائيّة معبّرا عن نفسيّة الشّخصيّات، أفكارها ومشاعرها، قِيَمها وثقافتها، وبإسهامه في العمليّة البنائيّة يتكوّن الفضاء الرّوائيّ للعمل، ذلك الفضاء الذي يتجاوز الأبعاد الجغرافيّة، وينصهر في صياغة العمل الأدبيّ وأحداثه، الّتي تتبلور بمواقف الأبطال وتصرّفاتهم.
ظهرت الرّواية التّاريخيّة في الوطن العربيّ بعد حملة نابليون بونابرت في أواخر القرن التّاسع عشر، أما في الغرب فقد ظهرت في مطلع القرن التّاسع عشر، إذ ظهرت روايّة والتر سكوت “ويفر لي” عام (1814)، وعلى إثرها بدأ صدور الرّوايات التّاريخيّة في الأدب الغربيّ، كأعمال تولستوي وألكسندر دوما، بعد ذلك تأثّر الأدباء العرب وانتقل إليهم ذلك الأثر مبشّرا بفيض من الرّوايات التّاريخيّة، وتلك نتيجة طبيعيّة للفنّ القصصيّ، فالأدب العربيّ ثريّ بالقصص والأحداث والإرث الثّقافي والشّعبيّ، من هنا اجتهد الكتّاب العرب في توظيف التّاريخ بأساليب روائيّة وفنيّة مشوّقة، واستمرّت الرّواية التّاريخيّة في نموّها، فظهر لكل جيل سمات وعثرات، تجاوزها من يليه وصحّح مسارها، وهكذا تكون الرّواية التّاريخيّة قد مرّت بتحوّلات كثيرة؛ لتتناسب مع تحوّلات الزّمن ونموّه وتطوّره وتغيّراته.
الكتابة عن المدن من الأشياء المعروفة في الكتابة الرّوائيّة، هناك مدن حقيقيّة تعيش في ذاكرة الكاتب ووجدانه يستعيدها ليكتب عنها، ومدن أخرى تنبثق من خياله، يتخيّل ما يمكن تخيّله منها لتحتضن نصّه. لطالما كانت فكرة الانتماء إلى المكان هي الدّعامة الأساسيّة للكتابة، ذلك لأنّها علاقة وجوديّة بين الإنسان ومكانه، يوطّدها الكاتب بين شخوصه ومسرح الحدث، لذا ينبغي أن يكون الرّوائي ملمّا ومطّلعا على المكان وما يكتبه عنه، ليتمكّن من نقل الوقائع التّاريخيّة والمعلومة بصدق، وعند الحديث عن المكان فمن الطبيعي أن نذكر الجغرافيا والتّاريخ والخيال، فالحيّز المكانيّ الحقيقيّ أو المتخيّل، هو نطاق جغرافيّ يتلاقى مع زمن النّصّ وتاريخه لصنع الخيال الأدبيّ، وليس بالضّرورة أن يتطابق المكان الموصوف في السّرد أو يتماثل مع المكان الواقعيّ، فمحاكاة المكان الأصلي في نصّ أدبيّ بأثره وسماته مع مراعاة خصائصه ومميّزاته بدقّة، تعدّ كافية لإيصال الصّورة، فالرّوائيّ المبدع يصوغ أفكاره بأسلوب مقنع، يكوّنها ويرتّبها بملامح معيّنة، ملتقطا ما هو جوهريّ في علاقة الإنسان بالمكان، ناظرا إلى العمل نظرة عميقة تنفذ إلى ما وراء الأشياء، تستحضر روح الطّبيعة والإنسان، وتشدّه إلى السّرد والإبداع، وعليه فالرّوايّة التّاريخيّة تُلزم كاتبها بمجهود مضاعف واطّلاع على المصادر التّاريخيّة اللّازمة.
لعلّ الرّوايّة التّاريخيّة العربيّة لم تَنجُ من بعض المآزق حتّى الآن، أو من بعض الأخطاء التي تظهر أحيانا في الكتابة عن المدن، وذلك عند الكتابة عن مدينة سمع الكاتب عنها أو قرأ، لكنّه لم يزرها بالفعل ولم يعايشها في الواقع، نلحظ حينها الفارق بين ما كتبه هذا الرّوائيّ الغريب عن المدينة، وبين ما كتبه أديب آخر عاش فيها وعرفها جيّدا، فيكتب بثقة متمكّنا من الوصف والتّصوير؛ لإبراز صورة المدينة التي يعرفها بتّحوّلاتها التّاريخيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ماضيها وحاضرها وكل الأحداث التي طرأت عليها، مشيرا إلى أبنيتها وشوارعها ومعالمها، وإلى ساكنيها ولغتهم، عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وأمثالهم الشّعبيّة وتراثهم، كاشفا بذلك عن تعامله النّاجح مع العنصر المكانيّ ورؤيته السّليمة له، وأهدافه المتوخّاة من الكتابة عنه، وبما أن المكان هو روح العمل الرّوائيّ، إذن يجب أن يكون هذا العمل متمكّنا من فضائه التّاريخيّ والشّعبيّ والاجتماعيّ الخاصّ به.
قد لا نجد ذلك في روايّة قام بكتابتها أديب غريب عن المكان، لم يزره ولم يعايش أهله وأحداثه، ما يدفعه إلى توظيف التّخييل كأداة فنيّة سرديّة لإعادة بناء الأمكنة المجهولة بالنّسبة له، لذا فمن الطّبيعيّ أن تفتقد كتابته إلى الإلمام الواقعيّ بالمكان الموصوف، وإلى التّجربة الحقيقيّة الصّادقة وحسّ العاطفة، لتغدو مجرّد وصف إنشائيّ غير واقعيّ، مما يفقد العمل الرّوائيّ مكانيّته وخصوصيّته وأصالته، كما يفقده القدرة على منح شخوصه المناخ المناسب للتّفاعل فيه ومعه، والتّعبير عن أنفسهم ووجهات نظرهم، من هنا لا يمكن للرّوائيّ التّحرّك إلا في إطار حيّز يعرفه ويستشعره؛ ليكون مادة طيّعة ليّنة بين يديه، قابلة للمضيّ قدما إلى حيث يريد.
هناك حبل رفيع يربط الكاتب بالمؤرّخ، والكتابة عن المكان وأحداثه التّاريخيّة تعيدهما إلى المقدّمة، لذا على الكاتب أن يصدق في طرحه وصياغته، يتحسّس النّصّ ويلتحم به، فلا يؤسّسه على الفراغ ومنه. ورّغم التّقارب بين تعامل الكاتب والمؤرّخ مع المكان في التّأريخ أو الرّوايّة، فإن الفارق الأساسيّ يظهر جليّا بينهما في تناول كلّ منهما للجانب الإنسانيّ للحدث، فالمؤرّخ يدرس البشر في سياقهم التّاريخيّ كعامل مؤثّر، إلا أنّه لا يتعامل مع الجانب الحسيّ الوجدانيّ عند هذا العامل، لكنّ الرّوائيّ يتعامل معه بمهارة واحتراف.
ينجح الكاتب عند اتّكائه على مرحلة تاريخيّة ما، بأبعادها النفسيّة والاجتماعيّة وبيئتها المكانيّة بعيدا عن أسلوب التّأريخ، وعليه فلا يجب تقديم التّاريخ المجرّد للقارئ، لأن كتب التّاريخ تتكفّل بذلك، وقيمة أي عمل رّوائيّ يكمن في براعة السّرد والاستفادة من الحدث التاريخيّ في معالجة قضية حيّة تهمّ المجتمع، لا يتطلّب ذلك التصاق الرّوائيّ بالتّاريخ، ولا أن يكون مؤرّخا ليبدع كتابة روايته، تكفيه المعرفة التّاريخيّة الصّحيحة بالمكان، والسّيطرة على موضوع الكتابة؛ وذلك لإعطاء المكان حقّه ووهجه، فالعلاقة بين الكاتب والمادّة التّاريخيّة تتأسّس بالسّيطرة على المعلومة، تلك التي يرتادها العمل الأدبيّ؛ ليحوّلها إلى مادّة روائيّة شيّقة.