تناول غسان كنفاني في روايته السرمديّة “عائد إلى حيفا” تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطيني الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان إثر النكبة، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه؛ مسرح أحداثها صبيحة الحادي والعشرين من شهر نيسان عام 1948، عام النكبة، وتبدأ بوابل من القنابل والرصاص وقذائف المدفعيّة تجاه أحياء حيفا العربية، وساعتئذ كانت صفيّة قد تركت رضيعها خلدون ابن الخمسة شهور في البيت وخرجت تبحث عن زوجها سعيد وسط حشود الناس المذعورين ساعة اضطرارهم للنزوح.
تمر الأيام والسنون ويعودا؛ صفية وسعيد، بعد نكسة حزيران 1967 إلى بيتهم في حيفا ليتفاجأ بأن ابنهم خلدون أصبح شاباً يحمل اسم دوڤ، وهو مجند في جيش الاحتلال، وقد تبنّته أسرة يهودية من القادمين الجدد، استحوذت على البيت واستوطنته بعد نزوح 1948 وتبنّت خلدون، وتبلغ المأساة ذروتها بعد أن عرف دوڤ/ خلدون الحقيقة وأصر على الانحياز إلى جانب “الأم” اليهوديّة التي تبنته ولم يرغب بأية علاقة مع والديه البيولوجيين، وفي نفس الوقت كان سعيد/ الأب يعارض التحاق ابنه الثاني/ خالد بالعمل الفدائي، وبعد أن رأى حالة ابنه البكر/ خلدون أعاد النظر بالأمر ووافق فعاد ليجد ابنه قد التحق بالعمل الفدائي وهكذا نرى أن الإنسان موقف، فعلى الرغم من أن خلدون وخالد إخوة في الدم إلا أنهما نقيضان.
سعيد يعبّر عن مشاعر السخط والمهانة التي يشعر بها في طريق “العودة”، وحين يرى حيفا التي “يرونها” له وليس حيفاه، حيث أصبحت مُحتَلّة، وأصبحت كما يريدها الاحتلال، وليس كما يجب أن تكون، فيبدو السخط والغضب واضحًا في كلامه وتعابيره لرفضه الاحتلال المُذل والمُهين ويعبّر عن معاناته المُرّة لما آلت إليه الحال وحسرته، ويزيد شعوره بأنه أخطأ في تركه لبيته أياً كان السبب الذي دعا إلى ذلك.
هذه رؤية غسان كنفاني الواضحة ولا غبار عليها بأن ما أُخِذ بالقوة لا يُستردّ إلا بالقوة، لتكون العودة شريفة، بعزّ وكرامة ودون مذلّة ومهانة وليست عودة مبتورة وموءودة.
في شهر آذار 2016 استضفنا ابنَ حيفا الشاعر أحمد دحبور الذي ولدَ في حيِّ وادي النسناس الحيفاويّ عام 1946 وهُجِّرَ منها في النكبةِ حين كان في الثانيةِ من عمرِهِ.
كشفَ لي حبِّهِ لحيفاه، وحيفاه الحبيبة هذه كانت تُحضرُها والدتُهُ دومًا في غنائِها، إذ تأخذُه معها في كلّ أغنيةٍ، بصوتها المميّز الجميل، إلى حلم حيفا، ذاك الصوت الذي يحملُ بأشجانِهِ حنينَهُ إلى حيفا، حيفا الجنّة، حيفا الحاضرة، العصيّة على النسيان.
تحدّث عن الذاكرةِ والطفولةِ والوجدانِ الفلسطينيّ الذي لا يُنسى، ولا يُغفر نسيانُهُ، تحدّث عن معاني المنفى والعودة، مؤكّداً بجميلِ كلمتِه أنّ بحرَ حيفا لن يخونَ أبناءَ مدينتِهِ العزيزة، فمنه ستأتي موجةُ العودة القادمة لا محالة.
حين تجولنا في شوارع حيفا، طلب أن نمشي درب غسان، كما صوّره في “عائد إلى حيفا”، وأخبرته عن بعض الأخطاء الطوبوغرافيّة التي وردت في الرواية، وأخذ يسترسل بأبياتِ شعرٍ من قصيدته: “يا طيورًا طائرهْ… يا وحوشًا سائرهْ… بلّغي دمعَ أمي أن حيفا لم تزل حيفا… وأني أسأل العابرَ عنها في ربوع الناصرهْ”.
كان للمنفى والاغتراب حضورٌ مميّزٌ في حياته، فهو حيفاويٌّ حتى النخاع، حمل حيفا معه إلى كلّ مكان، وحين جلسنا في مقهى بحريٍّ على سفوحِ الكرملِ وشاطئِ حيفا، لم يكفَّ عنِ الحديثِ عن معشوقتِه حيفا، وحين ناولتُه ديوانَهُ “هنا وهناك” ليوقّعَ عليه، انسكبت دموعُه وألقى على مسامعِنا قصيدتَه “مسافر مقيم”:
“وكيف جئت أحمل الكرمل في قلبي
ولكن كلما دنا بعد؟
حيفا، أهذي هي؟
أم قرينة تغار من عينيها؟
لعلها مأخوذة بحسرتي
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها؟
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد إليها
وصلتها ولم أعد”
وقال محمود درويش:
“أُحبّ البحار التي سأحبُّ
أحبُّ الحقولَ التي سأحبُّ
ولكنًّ قطرة ماءٍ بمنقارِ قبّرة في
حجارةِ حيفا
تعادِلُ كلَّ البحار”
“لا زلتُ طفلًا ذبيحًا في العاشرة من عمره، يلهو في شوارع حيفا” هذا ما كتبه أحمد حسين الذي وُلِدَ في حيفا عام 1938 وهُجِّر منها مع عائلته إلى مصمص التي بقي فيها، ويبقى أحمد عاشقها الأول وظلّت حيفا هاجسه، وقال في ديوانه “قراءات في ساحة الإعدام”:
“ولكنّ القصيدةَ لا ترى سببًا لتأتي
ما كنتُ أحزنُ كلَّ هذا الحزنِ
لو أنّي سأحزنُ بعدَ موْتي
ألِأنَّ حيفا لم تعُدْ بلدًا
أموتُ بدونِ ذاكرةٍ؟
ولا شيء أغادرهُ، كأنّي لا أغادر!
إنّي قُتلتُ
ولم أعدْ جسَدًا لغيرِ سيوفِهِمْ
(ما لي وأسبابِ الوفاةِ
لكلِّ قبرٍ قصّةٌ)
لكنّني زمنٌ وحادثةٌ وشاعرْ”.
بدأت مشروعي التواصلي مع أسرى يكتبون في نيسان 2019؛ ومذّاك أزور السجون بشكل دوريّ، نصف شهريّ، ويطيب لي أن يطلقوا عليّ لقب “المحامي الحيفاوي”، وهذا التعريف أفضّله في الدعوات و/ أو الندوات التي أشارك فيها، في البلاد وخارجها، وحيفا بتفاصيل التفاصيل حاضرة في غالبيّة اللقاءات.
وصلتني في السنوات الأخيرة عشرات الرسائل من السجون، وحيفا هي المبتدأ والخبر، وقِبلتهم في هذه الرسائل. كتب لي الأسير كميل أبو حنيش في رسالة عنونها: ” جولة في وادي النسناس”:
كلّ شيء يبدأ في حيفا وكرملها وكأنّها بوّابة الخليقة؛ حيفا التي يرضع كل فلسطيني اسمها مع حليب الأمهات، مع أخواتها يافا وعكا والرملة واللد…. حيفا الرسم الموازي للسحر …. للحلم … الشعر… تلك التي لم يتسنَّ لك زيارتها إلّا أثناء الطفولة في رحلة مدرسيّة وما عدا ذلك يمنعك الغرباء من ملامستها أو حتى من مجرّد ذكر اسمها. فتلجأ للأدب والشعر. تطالع رواية “عائد إلى حيفا” لغسان كنفاني فيبهرك الوصف الدقيق للمكان وتكاد تحفظ ما نظمه الشعراء عنها. درويش، وسميح القاسم، وراشد حسين وتوفيق زياد وآخرون وأخريات. يكاد كل فلسطيني يقول شعراً إن نطق اسم حيفا … أو كرملها … سيخلدها أبناؤها وعشاقها … وسيقولون فيها ما لم يقله الشعراء في مدنهم وأوطانهم.
مشهد البحر أيقظ فيّ إحساس بالظمأ لحيفا وودت لو أتجول في شوارعها. ماذا لو تجوّلت عن بعد في وادي النسناس؟ ماذا لو رأيت غسان وحسن يمشيان ويتمختران في أزقّتها؟
انتهت الجولة. لُذت لصمتي. عشر دقائق لا غير في جولة أشبه بالحلم لحيفا ووادي النسناس. مجرد لحظات مسروقة من بين فكّي الزمن. كنّا على موعد مع حيفا ووادي النسناس وحسن وغسان. أحقًا كنّا في حيفا قبل لحظات ونحن الذين لم يتسنَ لنا يوماً أن نراها؟ وإذا بالسجن الذي صُمِّم ليقصينا عن الحياة الطبيعية، هو ذاته من مكّننا من رؤية حيفا. لقد أهدانا السجن حيفا، وبعضاً من أهلها الطيّبين المنزرعين بكل شموخ وإصرار في بلدهم ولم يفتّ في عضدهم كل إجراءات القمع العنصرية.
لقد كانت هذه اللحظات التي التقينا من خلالها على هامش أثير الزمن من أسعد اللحظات في عمر أسير أنهكه القيد. وكان بمقدورنا استرداد حيفا ولو في ومضة حلم لمعت على حين غرّة في أعماقنا. ومن حقنا أن نقول إن حيفا هي من أجمل المدن على الإطلاق.
هنيئاً لحيفا التي جمعتنا على عشقها.
وفي رسالة من الأسير منذر مفلح عنونها: “من حيفا وغسان إلى حيفا وحسن.. “علاقة جدلية” جاء فيها:
أن حسن يشيد عاصمة القلب، حيفا، ويأخذنا كمواطنين إلى وطننا الجديد، كميل يفتخر بمملكته يقدمها لنا، كي نرى الفردوسَ الذي حاز عليه، بانغراسه في حيفا، حسن، الظاهر عمر الجديد، يشيّد مملكة ووطن فلسطيني، ويغرس فينا من جديد حب الوطن، وحب حيفا، ووادي النسناس، ينسج بقية حكاية غسان ليكمل الرواية، بأن العودة لا تكون إلاّ لحيفا، كي نصلي صلاة العائدين فوق الكرمل، وقبلتنا الوحيدة البحر الذي صلينا صلاته في موعدٍ سابق” … “ما بين أم إلياس، المنغرسة كشجرة برتقالٍ حزينة، مرّ عليها غسان كنفاني ولم يزل يوصينا بإرواء ظمأ تربتها، ولا يزال في حيفا رجال كحسن تحت شمسها، يذكروننا بالوصايا المقدسة…. يطلق حسن حملته، مشروع وطنٍ افتراضيٍّ، وأدعو كل شابات وشبان وطننا أن يلتحقوا بركب حسن في إطلاق أجمل ما في وطننا، لتغدو العلاقة ما بين حيفا وحسن، وفلسطين وأبنائها علاقة جدلية، كما هي حيفا وغسان علاقة جدلية.
أما الأسير ناصر أبو سرور فقد طلب مني أكثر من مرّة أن أصف له درب غسان كنفاني في “عائد إلى حيفا” بتفاصيل التفاصيل، واستشاط غضبًا حين مررت عنها مرور الكرام ليعرّض بي (إن جاز التعبير) بقصيدة كتبها لي عنونها: بــ “خُذْني إلى حَيْفا”
قُلْتَ حَيْفا وَخَبَّرْتَ عَنْها قليلاً وقالَ
“وَجْهي كُلَّ ما تَبَقَّى
وقُمْتُ أعتذرُ عن بُكائي
وانْفِعالي
أَيَّ أَحْمَقٍ يعتذرُ عن حَيْفا
أَنا الآنَ
أسحبُ اعتذاري وَلَيْتَني
نَسيتُ كِبريائي أَمامَكَ
وبكيتُ خَنْسائي
وخَنْساءَكَ
بُكاءَ الجاهِلين
خُذْني إلى حَيْفا سَأَلْتُكَ مَخْجولاً ودَفَنْتُ
رَأْسي
خُذْني إلى حَيْفا أستعيدُ ذاكِرَتي”
وكتب لي الأسير ناصر الشاويش قصيدة جاء فيها:
الزعتر الكرمليّ
اسأله
هل ما زال الزعتر يا حسن فلسطينيا؟
فيجيب بثقة وإباء
ما زالت آثار خطى الأجداد على
سفح الكرمل ماثلة
والزعتر … ما زال على خضرته الأولى
بريٌّ …
يأبى أن يدخل أقفاص التدجين
بسجن دفيئات المحتل
وما زال يقاوم رائحة البارود
ورائحة الغرباء
يقرأ للثوار …. وللأجيال
وصايا نكبتنا السوداء.
قلتُ الآن إذن
يمكنني
أن أتنفس يا حسن الصعداء
ما دام الكرمل يأبى إلّا أن يبقى عربيًا..
وكتب الأسير عمار الزبن في رسالة لي عنونها: “إلى صاحب حيفا”:
“صاحبي حسن! الأسر حكاية طويلة تبتلع فصولًا غير متناهيةٍ من الأزمنة والأعمار والأحداث والأبطال أيضًا، فأمسكتُ القلم ليلًا في زنزانة شطّة شمال شرق وجعنا فلسطين، أقرب المسافات إليك في كرمل حيفا الجميلة، ولم أدرِ في حينها أنّني سأنهي أسطري الأولى في سجن نفحة جنوب فلسطين…
آهٍ عميقة يا صاحبي! لا زلتُ بعد ربع قرن من الأسر وزيادة، أسأل أسطري: متى سأرى الوجوه بدون شارب؟ والسماء بدون حاجز؟ وضحكة الطفل على الحقيقة؟ والوردة؟ كدت أن أنسى إخبارك عن لقائي بها في سجن الجلمة على سفوح جبال الكرمل شرقًا، حيث نبتت هناك قسرًا في حديقة السجن، في مشهد يحمل أعظم التناقضات في العالم، “زنزانة ووردة”.
حلمتُ بك وأنا في يقظتي يا صاحب البرتقال الحيفاوي، يا صاحبي حسن عبادي… تصبح أنت وحيفا على وطنٍ حُرٍ، أكتبُ سِحره بطقسٍ وسط البحر وقدميَّ تداعبها الأسماك الصغيرة”.
هذا، ويبقى الإنسان محور المدينة، فالمكان بسكّانه لا بحجارته، وكأنّي بالأهل يصرخون: يا حيفا… عائدون. صدق محمود درويش حين قال ببساطة ووضوح وبدون تأتأة:
يقول لي جدي دوماً .. بأنّ حيفا أجمل مدن العالم
أنا لم أرَ حيفا … و جدّي لم يرَ أي مدن العالم