التقيت يوم 12 حزيران 2019 في سجن “هداريم” بالأسير باسم خندقجي؛ حدّثني على تعرّفه، عن كثب، على الجناح الآخر للوطن: كريم يونس، وليد دقّة، باسل غطاس وغيرهم، والعلاقة الخاصّة التي تربطه بوليد، وعن “ميلاد” الموعود ووعدته أن نرفع نخب “ميلاد” قبالة بحر حيفا، وميلاده حتمًا سيكون فأل خير على الحركة الأسيرة، من طرفي وفيت بوعدي، ودوّنت وعدي على صفحتي وكان عنوان صحيفة “المدينة” الحيفاويّة بعد اللقاء: “كاسك يا ميلاد، ترقّبوا التفاصيل حصريًا في عدد قادم” وأرفقها الإعلامي رشاد عمري بصورة لوليد ورواية “حكاية سرّ الزيت”. يعني اللّي مش فاهم يفهم!
التقيت الأسير وليد دقّة للمرّة الأولى صباح الأربعاء 10 تموز 2019 في سجن “هداريم”؛ وكنت قد تعرّفت إليه عبر كتاباته، وكنت قد تناولت كتابه “حكاية سرِّ الزيت”.
أطلّ مبتسمًا ساعة انتهائي من لقاء رفيقه كريم يونس، وكان ملتحيًا، فسألته سرّ تطويلها فأجابني أنّهم نقلوه إلى زنزانة في معسكر مجيدو دون مرآة فلم يحلق فترة طويلة وحين نقلوه إلى سجن آخر “أنقذته” تلك اللحية، وهذه حكاية أخرى.
تحدّثنا عن جود وأبو ناب والضبع، عن كثرة الضباع في أيّامنا، عن التهجير والعودة المشتهاة، فالحاجة فريدة ما زالت تحلم بعودتها إلى قاقون والحوارث، عن الحريّة التي ستتحقّق بهمّة جود ورفاقه، حكاية الزيت والسيف، سلاح المعرفة والعلم “المستقبل هو أحقّ أسير بالتحرير”.
تناولنا “الزمن الموازي”، صهر الوعي والمحاولات المستميتة لاستهداف معنويّات الأسير في السجون عبر إعادة صياغة عقله وفق رؤية إسرائيليّة، فباتت السجون بمثابة مؤسّسات ضخمة لطحن وعي جيل فلسطيني بكامله، إنّها أضخم مؤسّسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين.
حدّثني عن ألمه وحسرته لاحتجاز السلطات حوالي ثلاثمائة جثّة فلسطينيّة ومنها جثمان الشهيد فارس بارود الذي توفيّ خلال فترة سجنه، وما زالت جثّته محتجَزة وتساءل فارس محدّقًا بوجه سجّانه باستهجان: “هل ستحتفظ سلطة السجون بجثّتي حتّى تنتهي فترة محكوميّتي لتحريرها؟” ونحن صامتون صمت القبور… وعكاكيز السلطة تُفاوض!
كان من الطبيعي أن أعنون تغريدتي حول اللقاء: “عذرًا أيّها الفارس، خذلناك!”.
ومن وحي اللقاء تولّدت المبادرة العالمية “حرّروا الجثامين”.
هذا هو وليد الذي التقيته؛ صاحب رؤية ورؤيا. نتاج ذلك اللقاء بدأت مشروعي “لكلّ أسير كتاب” وبادرت بمشروع إيصال إصدارات كتّابنا لأسرانا وحطّت ترحالها عبر القضبان مئات الكتب ليقرأها أسرانا.
في روايته التي نحن بصددها، “حكاية سرِّ السيف”، يواصل سرد حكاية ملاحقة أطفال فلسطينيين لاجئين لحلم العودة، وحصولهم على كواشين أرض آبائهم وأجدادهم، ورغبتهم في نشرها ليظهروا للعالم حقيقة نكبتنا ومأساتهم، وليؤكّدوا على حقّهم في العودة القادمة لا محالة، حقّ لا يموت بالتقادم.
ينهي وليد الرواية بخبر إعلاميّ: “في ذكرى النكبة، وفي ساعة متأخّرة من مساء يوم 15 أيار، شوهدت في سماء القرى والمدن الفلسطينية المهجّرة مئات البالونات والطائرات الورقيّة المضيئة، وقد نشرت بعض المواقع الإلكترونيّة بأنّ مئات الأطفال نجحوا بتجاوز الحدود ووصلوا قراهم ومدنهم وقد أطلق على هذا الحراك: “نسل الذاكرة لن ينسى”.
يعوّل وليد دقّة على الفتيان والشباب، جيلنا خسر المعركة ولم ينجح في تحرير البلاد، وفتياننا هم الإرادة والأمل.
التضامن مع أسرانا الأحرار أقلّ الواجب وطنيًّا، هم وجهنا الحضاري وأيقونة النضال من أجل الحريّة والحياة الكريمة على أرض الوطن، كلّ تضامن معهم يمدّهم بالقوة والأمل ويشكّل شوكة في حلق العدو الغاشم. فقضيّة أسرانا قضيّة إنسانيّة بالدرجة الأولى، بعيدًا عن الأسطرة، ولِدوا ليكونوا أحرارًا، شمس الحريّة تليق بهم وتتوق لعناقهم.
أعزائي؛ الكتابة خلف القضبان متنفّس لأسرانا، وهي ليست من باب الترف، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وكما تعلمون، هناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق حرّة طليقة في سماء الحريّة.
من تواصلي مع أسرى يكتبون لمست خيبتهم وحسرتهم من التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر، فكلّ من تصله رسالة أسير ورغبته في نشر إصدار له يُسمع كلمات الترحاب تحت شعارِ: “أقل الواجب”، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن الوعود الرنّانة شيء والمتابعة والتنفيذ شيء آخر، ومقولة “أقلُّ الواجب” شعار وقول فارغ يطلقونه في سماء الحريّة الغائبة المفقودة، بلا قيمة.
قلتها بصريح العبارة؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، عمل الجلاد دائمًا على كسر إرادة الضحية، لكن أسرانا أصرّوا على كتابة التاريخ بطعم الحريّة، رغم ألم الخسارات، والفقد، وقهر القيد، صمّموا على أن يكسروا روح العتمة ليقولوا للتاريخ، نحن هنا باقون.
ليس من باب الصدفة أن يكون هذا الحفل هنا في رابطة الكتّاب الأردنيين، لقد صرتم حاضنة لأدب الحريّة ولكلمات أسرانا، ونافذة لكلماتهم للعالم العربي، فنحن اليوم في الأمسية رقم (28) من سلسلة أسرى يكتبون، وقد سبقتها (27) أمسية لنقاش كتاب لأسير، وهذا ليس بمفهومٍ ضمنًا.
كم تمنيّنا في بداية المشوار أن يكون اتحاد الكتّاب الفلسطينيين شريكًا في هذا النشاط، أو أيّ نشاطٍ موازٍ في فلسطين، ولكن لا حياة لمن تنادي، وحتى مؤتمر أدب السجون الذي كان مقرّرا منذ بضعة شهور تأجّل مرارًا ممّا سبّب الخذلان لأسرانا.
كلّي ثقة بأن وليد يحتفي اليوم مع زملائه الأحرار بهذا الحفل، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار وها نحن نحتضنها بفخر واعتزاز.
مبارك لك وشكرًا لك وليد على هذا المولود، آملين أن يتبعه أسرى آخرون ليكتبوا باقي الحكاية.
جئت حاملًا تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب. وحاملًا باقات الورد والشكر لرابطة الكتّاب الأردنيين على احتضان المبادرة والحفل دون كلل أو ملل، وحاملًا باقات الورد وبرقية الشكر من الأسيرة مرح بكير التي التقيتها صباح الثلاثاء في سجن الدامون، باسمها وباسم زميلات الأسر، وكذلك تحايا زملائي في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين، وتحايا زملائي في اتحاد الكتاب الفلسطينيين الكرمل 48.
وأخيرًا؛ نعم، الحريّة خير علاج للسّجين.
قلتها سابقًا: حريّة البلاد بتحرّر آخر أسير من سجون الاحتلال وصناعة تمثالًا للحريّة من كافّة مفاتيح الزنازين كما اقترح صديقي الأسير الحر معتز الهيموني.
آملين بحريّة قريبة لك عزيزي وليد ولرفاق دربك الأحرار.
***مداخلتي في أمسية رقم (28) من سلسلة أسرى يكتبون يوم السبت 25.02.2023 في رابطة الكتاب الأردنيين بعمان