كتبت في حينه قراءة حول كتاب “وطني يكشف عُرْيي” للأديب سعيد نفاع وأنهيتها: “أنهى الكاتب ب “الخاتمة” واعترف أن وطنَه كشف عُرْيه “وظلّت القصة يتيمة” تنتظر وضوح الرؤيا وتبدّد غموض تلك الخيانات في الجزء الثاني الذي لا بدّ منه من تلك الروانصيّة… ونحن ننتظر.” وها هو يصدر كتابه “أيّام الغُبار” (ثنائيّة روائيّة؛ 365 صفحة، إصدار دار الهدى ع. زحالقة – كفر قرع) والجزء الثاني منها “وطني يكسو عُريي“.
يعيش راشد الطبيب القروي المتخصّص بحضن عشيقته الممرّضَة جوليا في حيفا بعيدًا عن زوجته نجلاء وولديهما والعائلة تاركًا قريته الجبليّة الجليليّة وأهلها، ويفتحان عيادة خاصة معا إضافة الى عملهما في المستشفى.
يحافظ على علاقته الحميمة مع صديقه أنس، “البِروانيّ”، ابن البروة المهجّرَة، قرية آباء وأجداد شاعرنا الراحل محمود درويش، كاتب معروف يعمل محرّراً في صحيفة حيفاويّة، يواجه بكل أشكال الخيانة التي خيّم شبحها على الرواية: خيانة الزوجة، والعائلة الصغيرة والكبيرة، والقرية، والحبيب، والصديق والوطن، وضَعفه أمام نفسه، و”سرقة” بريد جوليا الإلكترونيّ، وخيانة القيم هي الجوهر، وكلها تُرتكب في الغياب! وهو “خائن في كل العُرف… سيّد الخائنين” ولكنه يتجاهل كونه غارقًا في الخيانة حتى عنقه! ويصل إلى قناعة بأن “الخيانة هي حين نترك “ربّ” الأوطان لقمة فريسة لبهيميتنا ولتخلّفنا”.
صدق ناجي العلي بقوله: “أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر”، كما وصدق غسان كنفاني حين قال: “سيأتي يوم على هذه الأمة تصبح فيه الخيانة وجهة نظر”، فهل هي كذلك؟ هل الخيانة وجهة نظر أم أن “الخيانة عمى بصر”؟
يختفي راشد ويغادر البلاد، أرض انشقّت وبلعته، في محاولة منه للابتعاد عن جوليا وإعادة التفكير بعلاقتهما وخلط الأوراق من جديد، ويُبقي وِجهته سريّة ولم يطلع أحداً على قراره سوى ابنه البكر. اختفاؤه المفاجئ والمحيّر بشكل غامض، على غير عادته، يقلق ويُشغل (أنس) وجوليا وكلّ محاولاتهما للبحث عنه باءت بالفشل. يحاول أنس سدّ الفراغ والتقرب من جوليا، عرض عليها الزواج إلا أنّها لم تحسم الأمر ليعود راشد وتنتهي الرواية بوفاته.
لحيفا حضورها في الرواية، تاريخاً وجغرافيا، ببحرها وكرملها وأزقّة وادي النسناس، ووادي الصليب، ووادي الجمال والحليصة، ومكاتب الصحيفة التي يعمل فيها أنس قائمة في عمارة قديمة سلِمت في الثمانية والأربعين، و”مقهى الجبل” بأثاثه العتيق، ومدارس قرى تركها سكّانها في الحرب، وبيوت أملاك الغائبين.
جاءني ما كتبه الراحل راشد حسين:
“الله أصبح لاجئًا يا سيّدي
صادِر إذن حتى بساط المسجدِ
وبِع الكنيسةَ فهي من أملاكه
وبِع المؤذن في المزاد الأسودِ
واطفِئ ذبالات النجوم فإنها
ستضيء درب التائه المتشرّدِ”
كما عوّدنا الكاتب في كتاباته، يستحضر قرانا ومدننا، المهجّرة والصامدة: هوشة والكساير، يافا واللد والرملة، باقة الغربية والشرقية، دار الحنون وعين السهلة، عارة وعرعرة وأم الفحم، البروة وتهجيرها، عمقا والكويكات والغابسيّة والكابري، الناصرة وعكا، وسَبَلان المهجّرة وغيرها، ويبقى للجرمق والزابود وجبل حيدر، وبحقّ، حصّة الأسد، بسنديانها ونباتاتها (السوّيد والقندول والعليق واللجين وجفنات العنب والحاحوم والزعرور والملّ) ومعالمها، وتصويره لمنظر مشاهدة إقرث الخلّاب (ص. 310).
والمجازر التي حلّت بشعبنا، من النكبة مروراً بتل الزعتر وصبرا وشاتيلا، ومخيّمات اللجوء من عين الرمانة والميّة وميّة والدامور والعرقوب… وإقرث، بحواريها وحواكيرها وبيادرها وهوائها وأهلها واحتلالها معرجاً على دور القضاء في دولة الكيان، قضاء صُوَري وغير عادل (رغم قرار المحكمة العليا يوم 31 تموز 1951 بأنّ عدم السماح لأهالي إقرث بالعودة هو أمر غير شرعيّ، وأن لا مانع قانونيّاً يقف عقبة أما عودتهم إلى قريتهم، لم يُنفّذ القرار حتى اليوم وبقي حبراً على ورق). “بقي أهم معلم فيها ومنا… نحن والحنين والظلم والحُلم”. وهاي حال بلادنا وأهلها.
أخذني صوت جوليا حين ردّدت من ورقة أبيها على مشارف إقرث:
“عا هَجْر الوطن يا اخواني بَكينا… شربنا الخلّ ممزوج بِكينا
حدا بالورى ما انْوَجَع بِكَيْنا… ذوينا يا خَلْق من عِظم المصاب”.
ومحاولات التدجين والتهجين البائسة لمن تبقّى في الوطن، ويتناول بسخرية سوداوية لاذعة الإجبار على الاحتفال بعيد استقلال دولة الكيان وطقوسه، والتجنيد الإجباري للدروز، واستلام التبليغ والتحضير له وطقوسه ولكن رغم ذلك، وقت الإجابة بظلّ عربي (ص. 200)، السجن العسكري لرافضي الخدمة في الجيش (السجن العسكري في صرفند. يا للمفارقة!) وتجنيد العملاء ومحاولات الأسرلة المستميتة على مدار السنين باءت بالفشل. كما وتناول التعايش البائس الوهمي. حاول أنس أن يتخطّى الصراع العامّ الذي يحياه وشعبه، والصراع الذي يحمله من بروتِه، وآمن لحين “أنّ الجنود الذين دكّوا حجر البروة وقتلوا بشرها وأحرقوا شجرها، هم إخوته الطبقيّون، وما هم إلاّ ضحيّة مثله، آمن أنّ الأخوّة الطبقيّة اليهوديّة العربيّة هي طريقه إلى البروة” (ص. 275) ولكن تبيّن له أنه وهم وسراب، ويبقى أنه “مسلم سنّي لاجئ في كفر سميع من سحماتة”.
ومحاولة تجيير التاريخ والمكان لصالح الكيان و”عبرنة” الأماكن وتشويهها؛ الفريديس التي صارت بين ليلة وضحاها “فوروديس”، والمساكن القرميديّة الأسقف التي شوّهت المشهد الطبيعي (المستوطنات البغيضة) وغيرها
في هروب راشد إلى غرناطة، لؤلؤة الحضارة العربيّة الأندلسيّة، والبكاء على أطلالها، والنوستالجيا لأيام مضت تثير الكثير من الشجون، أيام الأجداد مرّت وليتها تعود، رحلة جذور، إن صحّ التعبير، ويصوّر ببراعة أزمكنة متعدّدة، عبر قصر الحمراء وحي “البيازين” وعروض الفلامينكو ومنتزه الشهداء ومأكولاتها، أكل “التاباس” في ساحة “بلازا نويفا”، ويعيش غروبها، حقاً، لا يتشابه اثنان، واحد شهد غروبَ الشمس على قصر الحمراء في غرناطة وآخر لم يره! (ولكن هناك الكثير من الاستطراد والغوغلة المقيتة واللجوء إلى الخالة “ويكيبيديا” التي لا تخدم النص. ص. 173، ص. 176، ص. 213 على سبيل المثال، وكذلك ما جاء في ص. 217 – استطراد لا يفيد النص، بل يعيقه).
اللجوء الاختياري إلى غرناطة والأندلس جعله يخلط أوراقه من جديد، عاطفياً وفكرياً، فأشياء تراها من هناك عن بُعد لا تراها حين تكون قريباً، عاطفياً وفكرياً وعقائدياً، “تعرف… يوم من الأيام لازم تروح على إسبانيا على الأندلس… راح تحسّ إنّه لك تاريخ…” (ص. 205)، تماماً كما حصل مع إدوارد سعيد الذي “وجد” عروبيّته وفلسطينيّته هناك!
وأخيراً، بان العنوان “أيام الغبار” بعد طول عناء (ص. 238) ليتناول ازدواجيّة المعايير والتقلّبات الجيوسياسية في شرقنا والأحداث السياسية التي مرت على شعبنا، والصراعات على الساحة الفلسطينية العامة أو الداخلية.
تناول الانتفاضة، اللحمة بين شقّي الوطن، النكبة ووجع “المكبوبين”، وكذبة “اطلعوا وكم يوم راجعين” والخذلان العربي، “جنين تئنّ وتعنّ تقارع الموت، والعرب يحتجّون ويصلّون”، وما زلنا نستنكر هنا وهناك. ما أشبه اليوم بالأمس!
استخدم الكاتب السخرية السوداء القاتلة وجاءت موفّقة، لغته “شعبية” وسلسة، واستعماله للأمثال والتراكيب الشعبية كان بنيوياً، وعلى سبيل المثال: “فولة وانفلقت عن أختها”، “عيش كثير بتشوف كثير”، “بارمة بوزها”، “الحيط على الحيط”، “الحيط الحيط ويا ربّ السترة”، “الولد ولد ولو صار قاضي بلد”، “دابكين دبكة العَمى”، “رد الصاع صاعين”، “مثل بعْر الجمال ما بيجي إلا بالعرض”، “لا الخبز شفع ولا الملح نفع”، “كلي في عقلي حلاوة” وغيرها.
لجأ الكاتب لأسلوب الرسائل، وخاصّة بينه وبين صديقه أنس، للفضفضة وجاء موفّقاً.
كانت له مقولة قوية في “الغَربَنة”، كل شي فرنجي برٍنجي، فهناك من يؤلّه كل ما هو غربي، سياسيّاً واجتماعياً وثقافيّاً، وهو أمر مرفوض.
لم تفتني ثقافة نفاع الواسعة، وخاصّة حين تناول قصيدة “أو – فورتونا” العريقة ولوحة “غرانيكا” لبيكاسو.
ينهي الكاتب روايته بحروف دامعة خطّها أنس، لتلخّص الحكاية “العري والوطن لا يلتقيان يا حبيبي يا راشد… ولم تكن عارياً أصلاً فغطاء الوطن لم يُرفع عنك يوماً… يا وطني يا راشد”! (ص 362)
ملاحظات لا بد منها؛
يبرع الكاتب باستعماله للعناوين بداية نصوصه، وتساءلت بيني وبيني: هل استعمالها استخفافاً بالقارئ أو توجيها له؟،
مطعم “الدولفين” في “بات غاليم” وليس في “ستيلا مارس”،
استعمال كلمة “مشرئبّة” بتركيباتها المختلفة عشرات المرات، وكذلك الأمر مع “القارورة” (من وين جِبتها يا سعيد؟)،
وخربطة الأسماء أحياناً (أنس صار راشد ص. 305 على سبيل المثال)،
والناسوخ صار فاكس وغيرها،
تكرار فقرة كاملة مرّتين (نفس الفقرة ص. 282-283 وكذلك 316) بحاجة ماسّة لتحرير.
وأخيراً؛ نعم، “البروة وإقرث والزابود وعريقة حكاية شعب”.