كان الأستاذ المحامي سعيد نفّاع مشكورًا قد أهداني مؤخرًا نسخًا من بعض أعماله الأدبية، وبعد أن قرأتها اخترت أن أكتب تعليقًا موجزًا عن بعض القصص الواردة في كتاب «الدّوري المهاجر» من باب «وجدانيات»، وباب «قروّيات» في الكتاب الذي يحتوي على عدة أبواب أخرى تحت عناوين مختلفة لا تقلّ متعة قراءتها عن هذين البابين المذكورين، ولكنّ هذا الاختيار جاء من النيّة في الإيجاز وتحديد موضوع أو ثيمات المقال وما يتشعّب من التعليق.
إنّ أول ما يسترعي الانتباه في قصص كتاب الأستاذ سعيد نفّاع تلك اللغة التي تندرج في إطار السهل الممتنع والتي تتحلّى بخفّة الظل في مواضع عديدة مما يبعث في نفس القارئ الراحة النفسية والاسترسال في القراءة دون توّقف أو ملل.
يتضح من قراءتنا لقصص الأستاذ سعيد نفّاع أنّه يتمتع بموهبة فريدة في السرد ، فهو راوٍ ومُحَدِّث لبق ، في سردهِ عذوبة ، وسلاسة بيان ، وفي قصصهِ في كتابهِ هذا يحاول أن يكشف عن طوايا نفوس أبطاله المنبثقة عن طبيعتهم البشرية ، وفي الأمثلة التي سنسوقها من قصص بابيّ «وجدانيات» و «قرويات» سنلتقي بأسلوب الكاتب الذي يتسِّم بأسلوب السلاسة والسهولة والانسياب ، والحافل بالتزامهِ الاجتماعي ، والنهوض في وجه الظلم والظالمين ، منتقدًا العديد من حالات الاعوجاج في المجتمع دون أن يفقد تفاؤله في أمل حياة مشرقة عزيزة على الصعيد الإنساني للمجتمع وذلك من خلال العبارات ، والألفاظ ، والمشاهد ، والأحداث التي تعبِّر بمجملها عن روحٍ وثّابة وعن نوازع ودوافع إنسانية ينفذ عن طريقها الى ضميرها الداخلي شاعرًا بشعبه وقومه ومجتمعه في مختلِف ما ينظم من موضوعات حتى في عواطفه الإنسانية العامّة . ومن هنا، نرى أنَّ قصصه صورة لواقعه وتصويرًا لشخصياته وتحليلًا للنفوس. ففي قصة «واخيرًا وجد الطريق» من باب «وجدانيات» يصوِّر لنا الكاتب شابًا من عائلة فقيرة متواضعة، تخرّج من دار المعلمين بعد أن عانى هو واسرته من ضيق العيش، ولم يتمكّن من إيجاد وظيفة في عمل ما مما دفعه لليأس بفعل عقبات وعوائق مجتمعية ذات خلفية ضبابية، ولكنه أخيرًا كما أخبرنا صاحبه السارد أو الراوي بأنّه قد قرأ له مقالًا مما حدا بصاحبه الراوي أن يهتف في داخله بأنّ هذا الشاب قد وجد الطريق أخيرًا، وقد «صار يحب ليس فقط اخوته بل وكل الناس». وعند نهاية القصة بهذه العبارة تستوقفنا رمزية كتابة المقالة فالشاب الذي كتب المقالة قد يكون بالطبع نشرها في صحيفة أو مجلة، ووجد بذلك عملًا قد يعود عليه بالنفع المادي مستغنيًا عن الوظيفة التي قد تكلّفة الكثير من كرامتهِ وحريته، فقلمه هو الذي سيجعله حرًّا ذا قيمة اجتماعية من خلال تقاضيه أجرًا عن المقالات التي سيكتبها على الأرجح في الصحافة. فالقلم هو وسيلته الى ذلك حيث يرمز الى موهبة الكتابة، والى الفِكر العالمي، والى الاستنارة الخلّاقة والمبدأ الإبداعي في الحياة (creative principle). أمّا في قصة «المولود» نجد الكاتب يسرد حكاية خالد الذي كان محرومًا من الأولاد، والذي بعد سنوات طويلة تحمل زوجته وترزق بطفلٍ ملأ نفس خالد وزوجته بالسعادة والبهجة، ولكن الطفل بعد ذلك يصاب بالحمى، وتتفاقم حالته الصحية، ويجد خالد صعوبة في أخذ طفلهِ المريض الى المستشفى بسبب المماطلة في منحه تصريحًا للخروج بسبب الإقامة الجبرية المفروضة عليه سياسيًا، ولكن أخيرًا تكون النهاية السعيدة فيخرج الطبيب ليخبر خالد وزوجته سميحة بأنّ طفلهما بخير ويتماثل الى الشفاء. ويُذكر أنّ صديق خالد المدعو زيدان وهو رفيق خالد في شبابه قد زاره في بيته أثناء مرض الطفل وأبدى وفاءً لصديقه باستعداده لأخذ الطفل زياد الى المستشفى، وبذلك كان وجوده حافزًا للنهاية السعيدة. إنّ المشهد العاطفي في هذه القصة تجاه الطفل المولود الذي كان عرضةً للموت بسبب الحمى، يعكس لنا أحد أنواع أو أنماط الحب، وهو حب العائلة الذي يَعرف بِ «سورجي» (storge) أي الحب الذي ينشأ بين الآباء والأبناء وهو أكثر أنواع الحب طبيعيّةً ويتطوّر غريزيًا، وهو الشعور الذي تتماسك به العلاقة الأسري. وفي هذه القصة نرى رمزية في أسماء الشخوص، فاسم خالد يرمز الى الخلود (immortality) الذي جسّدته ولادة الطفل ليجعل من الأب خالدًا يحمل اسمه لتستمر سلالته العائلية ، واسم الطفل زياد يمثّل رمزيًا الزيادة في سعادة وفرح الوالدين بقدومه الى الحياة ، أما اسم الصديق زيدان فيعني زيادة العناية والمشورة لإنقاذ الطفل المريض ، وفي هذا الموقف يتجسّد أيضًا نوع آخر من الحب أو المحبة ، وهو الحب الأخوي أو الحب بين الأصدقاء المعروف بِ «الفيليا» (philia) ، أي الذي يكنّه الأصدقاء لبعضهم البعض كالعلاقة الأخوية بين خالد وزيدان . وإذا انتقلنا الى قصة «الخطيفة» في باب «قرويات» يتناول الكاتب موضوع ما يطلق عليه «شرف العائلة» السائد في الوسط العربي، فها نحن نرى في أحداث القصة أنَّ والد ندى يريد تزويج ابنته ندى الى ابن عمها أمين الذي لا تحبه عريسًا لها، بل تحب راشد الذي أحبها واحترمها وطلب يدها من أبيها الذي رفضه وأخبره أنها سيتم تزويجها لابن عمها أمين. ولكن إزاء هذا الموقف تهرب ندى مع راشد حيث كان شائعًا ومألوفًا قبل هذا الحادث أن يقوم الأخ أو الأب بقتل اخته أو ابنته ليغسل عاره ويعيد للعائلة شرفها، ولكن هذه العادة قد انقضت رغم أنهم يزبدون ويرعدون في مثل هذه الحالات، وعاد أمين خائبًا واحتبس البيت خوفًا من السن الناس وشماتة العدو. وبعد مرور أشهر أخذت الحكاية تفتر، وتدخّل اهل الخير الذين اتصل بهم راشدًا سرًا، وقاموا بقناع الوالد بالصفح عن ابنته وزوجها راشد الذي دفع له مهرًا، مقسمًا الأب اليمين بمقاطعة ابنته الى الأبد، وحينما علم أمين بذلك قاطع هو واهله بيت عمه غضبًا واحتجاجًا عما حدث. وفي هذه القصة يقوم الكاتب بعملية «النقد الدنيوي» (Worldliness Criticism) بمصطلحات ومنهج البروفيسور ادوارد سعيد ، وهذا النقد يعني التأكيد على ضرورة تناول النقد للنصوص بوصفها نصوصًا دنيوية ، أي انها ذات ارتباط واشتباك وتعالق بعالم الدنيا البشري، لا العالم الطبيعي أو المقدّس ، الذي يشمل ظروف اجتماعية ، ووقائع وأحداث في نصوص تشكّل لتلك الظروف اجتماعية او اقتصادية كما لمسنا في حيثيات قصة «الخطيفة» التي تمثِّل مجتمعًا ما زال يلتزم ولو جزئيًا بالعادات والتقاليد التي عفا عليها الزمن والتي تحرم الفتاة من حرية اختيار شريك حياتها ، ومحاولات فرض إرادة أهلها عليها في هذا الشأن مما يدعوها الى التمرّد كالهرب من بيت والديها طلبًا لرغبتها في اختيار حبيبها كشريكٍ لحياتها رغم أنف أهلها مما يعتبرونه فضيحة اجتماعية وعارًا يصعب محوه . ونأتي أخيرًا الى قصة أخرى في باب «قرويات» هي قصة «الأقحوانة المتكسرة» التي تحمل في ثناياها المبدأ ذاته «شرف العائلة» ولكن بصورة أكثر تطبيقًا بشكل عمليّ لهذا التصرف المميت حيث تكشف لنا القصة عن الأخ الذي قتل اخته لشكوكه وقناعته بالإشاعات حول كونها قد سوّدت شرف العائلة رغم فحص الطبيب الشرعي لها بكونها عذراء ، ومع هذا يخبرنا محامي الأخ القاتل أنّ هذا القاتل في سجنه قد صرّح للمحامي بأنه نادم على جريمته ، مخرجًا من جيبه زهرة اقحوان عانت انكسارًا في جيبهِ ، طالبًا من محاميه أن يزور قبر اخته ويضع هذه الزهرة عليه ويقرأ على روحها الفاتحة . وهنا نجد أنّ زهرة الأقحوان ترمز الى براءة الفتاة من تهمتها والتي ندم أخوها على قتلها، كما تمثل زهرة الأقحوان أيضًا الطهارة (purity)، وعدم لوم الفتاة لأنها لم ترتكب ما يدنس الشرف كما اثبت الطبيب الشرعي عذريتها، وبالتالي تكون بعيدة عن اللوم أو الملامة رمزيًا (blamelessness)، كذلك ترمز الاقحوانة الى الموت، وبطولة الاعتراف بالخطأ أو الاعتراف بخطيئة الأخ الذي قتل أختهُ، وأخيرًا ترمز الاقحوانة الى الحب الذي أُسيءَ فهمه وأدّى الى الجريمة.
وخلاصة القول، وبعد تقديمنا عددًا من نماذج قصصهِ في كتاب «الدوّري المهاجر»، وبعد قراءتنا الشاملة لقصص الكتاب فإنّه يمكننا القول إنَّ الأستاذ المحامي سعيد نفّاع رجل الالتزام والواقع، كما أنه رجل الثقافة والأدب الإنساني، يعالج نفوس قرائه معالجة المفكّر، وذلك ببصيرة مستنيرة، واتساع آفاق، ومتانة العبارة على بساطة وسلاسة واندفاق، فأسلوبه واضح العبارة ويدل على مهارته في تبيان الفكرة التي يقصدها في كل قصة من قصص كتابهِ.
وختامًا، نتقدم الى الأستاذ الكريم سعيد نفّاع بخالص التحيات واطيب التمنيات بموفور الصحة ودوام التوفيق والعطاء.