النّقد الأدبيّ هو عملية تحليل الأعمال الأدبيّة وتقييمها، يرتكز على النّظريّات الأدبيّة التي تطرق أبواب النّصوص، لتفسيرها وتحليلها ومناقشة عيوبها وثغراتها، وبيان ما جاء فيها من مواطن الجمال، وذلك من خلال ذوق الناقد ورؤيّته الفكريّة والجماليّة، فالأدب يحتاج إلى النّقد، والنّقد يستقي دوره من الأدب، فلا يزدهر أحدهما بمعزل عن الآخر.
نتحدّث اليوم عن كتاب “أحلام فوق الغيم” للكاتب زياد جيوسي، الصّادر عن جفرا ناشرون وموزعون، بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنيّة، وهو مجموعة من القراءات النّقديّة لبعض الأعمال الأدبية؛ لكتّاب وشعراء من الوطن العربيّ.
يتألف هذا الكتاب من مئتين وخمس وستين صفحة، ومن أربع وخمسين قراءة نقدية مختلفة، نشرت في السّنوات الأخيرة، مضافا إليها مقالة بعنوان: “المرأة في الرّواية العربيّة”.
الكتاب جدير بالقراءة، فهو يقرّب القارئ من موضوع النصّ دون فذلكة لغويّة تضيّع عليه متعة القراءة، وتقصيه بعيدا عن جوهر المقال النّقديّ، خطّه المؤلّف بعين النّقد التي تجعل من نظرة الناقد موازية للغة الكاتب، واضعا تصوراته النّقديّة، مقتربا من أسلوب الشاعر أو الكاتب وطريقة سرده ولغته، ومدى التزامه بالمعايير الأدبيّة السليمة، محاولا التأويل والتفسير بذوقه المصقول وفهمه العميق، وما يتمتّع به من دراية وثقافة.
قُسّم هذا الكتاب إلى ثلاث باقات، تحمل كلّ باقة منها بعض النّصوص والأعمال الأدبية؛ لكتّاب وروائيين وشعراء، وتحتوي على بعض القراءات والآراء، التي تظهر بوضوح موهبة النّاقد وسعة اطّلاعه ومهاراته، في سبر أغوار النّصوص المنقودة وتحليلها والكشف عن دلالاتها، وذلك لفتح المجال للمتلقّي التّواصل معها وتذوّقها واكتشاف جوانب الإبداع فيها.
“مرافئ الرواية” هي الباقة الأولى، يتناول هذا القسم عددا من الروايات لبعض الأدباء، منهم: أحلام بشارات، أسماء ناصر أبو عياش، تفاحة بطارسة، سليم دبور، رشا سلامة، عامر طهبوب، قمر عبد الرحمن، ميسون أسدي، وغيرهم.
القسم الثاني “مرفأ السرد”، يتناول فيه قراءات حول بعض الكتابات النثريّة لبعض الكتّاب، أذكر منهم: الكاتبة عدلة شداد خشيبون، ثريا وقّاص، دعاء زعبي، فايز محمود وغيرهم.
أمّا القسم الثالث فهو “مرفأُ الشعر” الذي يحلّق فيه بذائقته الأدبيّة والجماليّة، فيسلط الضوء على الصور الحديثة في الشعر العربيّ، وغيرها من مجازات وبلاغة وصور فنيّة، ويقدّم ملاحظاته بلباقة ورصانة. نال نصيبه من هذه القراءة: رفعة يونس، أحمد أيوب، تفاحة سابا، أميمة يوسف، والشاعر عاطف القيسي وغيرهم.
إذن فهذا العمل هو حصيلة جهد ومثابرة لسنوات، انخرط فيها الجيوسي في الساحة الثقافية العربية؛ ليمتاز بالانتقاء والوقوف على مواطن الجمال والدّقة، والتّحديد لكلّ ما قرأ، ابتعد عن التحليل المفرط الذي يأخذ النصّ بتأويلاته بعيدا خارج المعنى، فبرزت قدرته واضحة على الغوص في جوهر الكلمة، وفهم النّصوص الشّعريّة والنّثريّة على حد سواء.
تقوم القراءات على محاور عدّة، بدءا من الغلاف والعنوان، الراوي، الشّخوص، وحتى الوصول إلى كافة العناصر الّلغويّة والبصريّة في النصّ أيا كان نوعه شعرا أو نثرا، فيبدأ الحديث في كلّ قراءة من قراءاته عن العتبات النصيّة لكلّ الأعمال التي طرحها للنقاش، لم يقللّ من قيمة أيّ عمل، طرح الأسئلة الضّرورية، التي تثير التّفكير وتجذب انتباه القارئ، وتقوده إلى البحث عن النصّ لقراءته، وبعد نظرة شموليةّ تكامليّة، وموازنة عميقة بين المحتوى والشّكل والمضمون الفنيّ والأدبيّ، يصدر أحكامه بشفافيّة، آخذا في الحسبان ظروف العمل وقت كتابته وإصداره، وظروف مبدع النصّ، وكشف العوامل النفسية التي اشتركت في تكوين عمله، فيعلّلّ ويفسّر أراءه بحياديّة تامّة، دون أن يخضعها للعاطفة أو الميول الشخصيّة، مستثمرا خبرته وثقافته، مسترشدا بالعناصر الفاعلة داخل النصّ، موضّحا الجوانب النّقديّة، مستفيضا حينا وموجزا حينا آخر.
نجده في بعض الصّفحات أكثر ميلا إلى التّفكير النّاقد، من خلال التّدليل المنطقيّ والحجّة والاستنباط والاستقراء، ونجده في صفحات أخرى يتطرق إلى العاطفة؛ ليحرّك مشاعر القارئ، فهو يعلم جيدا أنّ النصّ الجامد يبعث في النّفس الملل، لا يحرّك المشاعر ولا يترك أثرا في النّفس، لذا فقد اختار من بعض النّصوص ما يلامس القلوب ويستهـوي الأفئدة، فلا يخاطب عقل المتلقّي فقط، وإنما يخاطب عاطفته؛ ليدفع به للتّفاعل أكثر مع ما كتب، لم يكتف بالشّرح والتّفسير والحكم على مكامن الأعمال، والتعرّف على أوجه القوّة أو الضّعف فيها، بل بثّ المشاعر، تلك التي تداخلت في قراءاته بجمال خاص، عبر سطور حيّة تفيض بالحركة والمعنى.
في مقاله عن ديوان “مرافئ الغيم” (ص221) للشاعرة رفعة يونس يقول: إن الأحلام في النّصوص الشّعرية ليست مجرّد خيال كاتب أو شاعر، بل هي افكار ذات أبعاد فنيّة وفكريّة، إذ يأخذ الحلم فضاءات أخرى حين تتحدّث الشّاعرة عن الرّاحلين من الأحبّة. “يرحلون ويتركون لنا غيمات الشّوق، ومرايا الحلم الأخضر في صفحات العيون”.
عن ديوان الشّاعرة تفاحة سابا (ص198) يقول: أجمل الشّعر الذي يثير في الرّوح الدّهشة، فكيف حين تكون هناك ألف دهشة، في ديوان حفل بالتمرّد وتمرّد الّلحظة. وعن خلاخيل للكاتبة دعاء زعبي (ص١٠٥) قال: أرادت الكاتبة أن تسمع صوت خلاخيلها الكنعانيّة بعد طول صمت.
في مقاله عن رواية “تماثيل كريستاليّة” للكاتبة رشا سلامة (ص22) يقول: رغم تألّقها في روايتها، إلا أنها تمتلك نظرة تشاؤميّة، فقد صوّرت الواقع تصويرا سوداويّا مطلقا، كما غلبت القتامة على سطورها. أشار إلى الألم الذي يجول في روحها رغم أنها في ريعان الشّباب، وانتقد طريقة إنهائها للرّواية بعبارة “ليل ما فتئ يسلّمه لليل.. بلا كلل”.
في مقالته عن رواية “أيام في بابا عمرو” (ص38) للكاتب السّوري عبد الله المكسور يقول: تمتاز هذه الرّواية بقوة الحبكة وقلة الثّغرات فيها، تعتمد أسلوب استدراك الذّاكرة، من الشّوق في الاغتراب عن الوطن، إلى الأمكنة والمدن، وطرح العديد من الأسئلة التي حضرت بقوة، فمثلا: “هناك من ينتظرُك دوما في الأوطان، ليسألك عن سبب عودِتك، لا عن سبب غيابِك الطّويل! لماذا توقفنا أوطاننا على أبوابها، وكأننا متّهمون حينما نعود إليها؟.
في مقاله نبضات روح مع نبضات ضمير (ص113) يتحدّث عن نصوص الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، التي تكتب بطريقتها الملهمة، وتجسّد الحبّ وتصرخ للوطن، وتبكيه بلغة جميلة، فيقول: لا تملّ الكاتبة من البحث عن الضّمير الإنسانيّ، لاقتناعها الشّديد أن الضّمير لا يكفّ عن طرق القلوب، لعلّ الغمامة تزول، ويعود البشر إلى ضمائرهم، فالضّمير هو بداية الوعي والطّريق إلى الحريّة، وهو الفكرة والوطن الذي تصبو إليه كل نفس.
في دوائر الكاتبة المغربيّة ثريا وقّاص (ص100) يستشعر التّشاؤم المغرق في السّوداويّة، وحجم التّخبّط والتّناقضِ بينَ نصٍّ وآخر، فيقول: تدّل عباراتها على الخوف الذي يسود روحها، إذ نجد الحبّ محلّقا في نصوصها مرّة، وعابر سبيل مرّة أخرى، حيّرتني هذه المفاهيم المتناقضة، فهل هي انعكاس لتجربة تركت أثرها، أم هي رغبة بالحبّ، يسودها الخوف الذي يكبح المشاعر؟
ونجده يلاحظُ الحزن، الذي رافق الكاتبة الأردنيّة ميرنا حتقوة حين خطّت شذراتها في نصوص: “رحلة في قلب السّكر”(ص162)، التي تنقّلت ببعض منها بين البوح على لسانها كأنثى، وبين البوح في بعضها الآخر على لسان ذكر، وكأنّها تتقمّص شخصيّة الآخر الذي تكتب له، فيتساءل: هل ستذوب حروفها كحبّة سكّر؛ لتعبّر عن روحها؟ بعد أن تغلّبت عليها مشاعر وأحاسيس مختلفة، كالعتاب ومخاطبة الذّات، والحزن الذي لم يفارقها في محاولة لقهر الألم عبر الكتابة، حيث تقول: “ما لون حزنك سيدتي؟ وفي نص آخر تقول: ساذجة من تعتقد أنها ستكون الأخيرة، في حياة رجل يعشق الشّعر والكتابة، ثمّ تتساءل: أيّهما أشدّ صدقا؟ ورقة مكتوبة بيد امرأة عاشقة، أم ورقة بيدِ رجل عابث؟ وفي نصّ “حبة السكّر” تقول: جرحتني حبة سكّر. فيكتب الجيوسي: هل كان الكتاب بأكمله نزيفا ووجعا من حبّة السّكّر رغم حلاوتها؟ يتكرر هذا الإحساس بالجرح في نصوصها، فنرى الوجع والمعاناة تتجلّى واضحة بنماذج مختلفة.
في مقالة عن ديوان “نافلة الحلم” للشاعرة التونسية جودة بلغيث (ص195)، يكتب عن فكرة الرّحيل والموت الحاضرة بقوة في هذا الديوان، فيقول: الموت حلم أنيق، تحلم به الشّاعرة، وترى أنّ الحياة تكون به وفيّة، فهل وصلت الشّاعرة إلى مرحلة الرّفض للحياة، ليصير الموت هو الحلم؟ أم أنها وصلت إلى مرحلة من التصوّف والانسلاخ عن الحياة الدنيويّة؟
وعند الوصول إلى المقالة المعنونة “المرأة في الرّوايّة العربيّة” (ص92)، يناقش صورة المرأة في الرّوايّة العربيِة، التي لا تزال تحاكي ثقافتنا الشعبية، فكتب: نحن غالبا أمام صورة مستهلكة ونمطيّة للمرأة العربيّة، فهي عادة ما تقدّم على أنها مقهورة، سلبيّة ومقموعة، وخاضعة للهيمنة الذّكوريّة. يتراوح هذا القمع بين العادات والتّقاليد وظروف المجتمع، وتعامله مع المرأة، التي لم تخرج حتى الآن عن تلك الصّورة، إلا في حالات محدّدة، ولعلّ الرّوايّة العربيّة الحديثة، لعبت دورا في إظهار المرأة العربيّة في صورة مغايرة، فغدت مناضلة وشريكة للرّجل في تحمّل المسؤوليّة، فهل ينعكس هذا التغيير بالنّظرة إلى المرأة في الأعمال الأدبيّة المعاصرة؟ وهل سيترك أثره على المجتمع، أم سيبقى حروفا مرسومة بالحبر؟
أخيرا.. فقد بُذِل جهد واضح في هذه القراءات، والساحة الثقافية اليوم في ظل انتشار وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وظهور الآلاف من المدوّنين والكتّاب والشعراء، أحوج ما تكون إلى من يمحّص الغثّ من السمين، يقلَّبه ويدرسه بعناية، لتقويمه فنيّا وموضوعيّا، وذلك للنهوض بالأدب، وتوجيهه نحو الكمال.
هذه نبذة مختصرة عن هذا الكتاب، أما الحديث عن الأستاذ زياد لا يفيه حقّه، فأسلوبه الكتابيّ يتّصف بالموضوعيّة والسّلاسة، وهو صاحب مسيرة تحفل بالعطاء، فضلا عن متابعته للمشهد الإبداعيّ العربيّ، وقراءاته التحليليةّ لفكّ ألغاز النّصوص الأدبيّة المختلفة، تلك التي يحلّلها كبنيّة دلاليّة ورمزيّة، يبحث في أبعادها وتفاعلاتها مع بنيتها الثقافيّة؛ ليحرّرها بذلك من جمود الدّراسات الكلاسيكيّة.
نبارك للأستاذ زياد جيوسي هذا الإصدار، ونتمنى له الصّحة والعافية، والمزيد من التألّق والعطاء.
2023-2-2