يسعدني ويشرفّني أن أشارك حفلًا آخر لإشهار وإطلاق كتاب لأسير في مركز يافا الثقافي، شاعر بأنّي صرت ابن بيت هون، وها نحن نحتفل مع الأسير الحر عبد الناصر عيسى، ابن مخيم بلاطة، بإشهار كتابه “وفق المصادر 2022” (3 أجزاء، 1006 صفحة، إصدار: مركز حضارات للدراسات السياسية والاستراتيجية) وصار مركز يافا الثقافي بقيادة صديقي المايسترو تيسير نصر الله حاضنة لأسرانا وإصداراتهم، بغضّ النظر عن توجّهاتهم الفكريّة والعقائديّة ما داموا يحملون عبء الهم الفلسطيني.
وها هو الحلم يتحقّق ونحتفي بإطلاق واشهار كتاب عبد الناصر في بلده وبين أهله.
واكبت في السنوات الأخيرة الغالبية العظمى لإصدارات أسرانا خلف القضبان؛ ولاحظت شموليّتها، لم تعُد تتمحور في التعذيب والمعاناة، لم تعد في خانة “الرواية” التقليديّة، بل أخذت تتناول الشعر، القصص القصيرة، الخواطر، النقد، السيرة الذاتيّة، الفلسفة، الحكايات والمذكّرات، السرديات، الدراسات الأكاديميّة والأبحاث العلميّة الجادة.
ونحن اليوم بصدد كتاب مغير، كتاب رصد فيه عبد الناصر أهم ما تنشره الصحافة الإسرائيلية، وترجم المقالات والأخبار من العبرية إلى العربية، لتعريف المتلقّي بوجهة نظر العدو، ووِجهته ” إعرف عدوك”، يجمع سلسلة من النشرات اليومية التي تناقلتها وسائل الإعلام العبرية خلال عام 2022 من أخبار وتحليلات ومواقف في مختلف القضايا المحلية والإقليمية والدولية، مركّزًا على القضية الفلسطينية والشأن الإسرائيلي الداخلي، بقلم ورؤيا عربية فلسطينية.
إن للترجمة دورًا مهمًّا جدًّا وضروريًّا في عملية التثاقف بين الشعوب المختلفة، وهي بمثابة وسيلة للتفاعل مع الآخر الذي يتكلّم لغة أخرى. هي وسيلة للتواصل ولبناء علاقات إنسانيّة سليمة، وأعتبرها جسرًا يربط بين الشعوب والفئات ويقرّب بينها، فهي تؤدّي إلى التفاعل بين الثقافات المختلفة.
ومن هنا، معركتنا مع اللغة يوميّة؛ حيث تحاول المؤسّسة من خلال الترجمة المشوّهة إعادة قراءة للفلسطيني، وقراءة جديدة بعيدة كلّ البعد عن الحقيقة، لا، بل تزييفها وتزويرها بما يخدم مصالحهم ونهجهم في بناء التاريخ والتأريخ من جديد.
أخذوا بدايةً مصطلحاتنا وأدخلوها للمعجم العبري، مع تحريفها، لعبرَنَتها وتهويدها، في محاولة بائسة منهم ونسبها لهم أبًا عن جد. كم يؤلمني سرقة مأكولاتنا ونسبتها إليهم، مع تغيير حرف هنا وهناك في محاولتهم لصهينتها، من الحمص والفلافل والتبّولة والمجدّرة، وهذه السنة سرقوا العرايس. وكذلك سرقة أسماء الشوارع والأحياء، القرى والمدن الفلسطينيّة في محاولة لجعلها عبريّة “أصليّة وأصيلة”.
كان الراحل غسّان كنفاني، (صاحب مصطلح أدب المقاومة) أوّل من ترجم الأدب العبريّ للقارئ الفلسطينيّ والعربيّ، ليكشف عن حجم التضليل والدعاية السياسية الصهيونية المفخّخة في هذا الأدب روايات وأشعاراَ، وكيف نجحت تلك الأعمال في الوصول إلى عقلية القارئ الغربي، والعربي، فيتبناها ويدافع عنها، وعليه يستوجب مراعاة أهداف التّرجمة وغاياتها وألّا تكون عشوائيّة”. وخطا على طريقه بعض المترجمين العرب، ومنهم على سبيل المثال، لا الحصر، أنطون شماس، محمد حمزة غنايم الدكتور نبيل طنوس وآخرون.
أظنّ أن قضيّة التّرجمة مفتوحة لأنّها تناقش مسألة ثقافيّة حسّاسة نوعا ما مرتبطة بثقافة الغير الّذي هو بالضّرورة آخر لي أنا العربيّ، بحيث أتصوّر ابتداء وجود خطر ما على الفكر العربيّ من الأعمال الأجنبيّة المترجمة، وكأنّها ستدخل مثل الوباء فتصيب لغتي وثقافتي الأدبيّة ومنها الشّعريّة بالشّلل والامّحاء والسّيطرة، ومغلقة في آنٍ واحد، لأن مسألة التّرجمة مسألة ثقافيّة مستقرّة ولا محظور فيها غير تلك المحظورات الّتي تتبناها كلّ ثقافة من الثّقافات حسب معتقداتها وأبجديّاتها الحضاريّة، وقد أسّس أسلافنا العرب حضارة قويّة كانت فيها ثقافة الآخر المختلف الّتي دخلت العربيّة بالتّرجمة من- إلى وباللّغتين بالتّناوب مع اللّغة الأخرى.
في لقاءاتي مع الأسرى حدّثّوني عن أهميّة التواصل الثقافي مع القرّاء والكتّاب عبر القضبان؛ عبر شقّي الزنزانة ورُغم السجّان.
حدّثوني أنّ كلّ كلمة تُكتب، لها أن تكون رصاصة إذا كانت ذخيرتها صالحة، عن إعادة تعريف السجن والعلاقة مع السجّان والزنزانة، تعزيز الأحاسيس والمشاعر، بعيدًا عن البطولات والأسطرة، لا بطولات في السجن.
خلقت الكتابة متنفّسًا لأسرانا، فلديهم الكثير ممّا يقولونه عبر أقلامهم الحرّة، وإنسانيّتهم العالية، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وهناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق في سماء الحريّة.
تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، يرسم الوطن قوس قزح يتكوّر في أعالي السّماء ليعانق شمس الحريّة؛
لا توجد ولادة أسمى من الاحتفاء بمولود، لا سيما إن كان الوالد أسيرًا! حين يصدر كتاب لأسير أو يُنشر حول إصداره أو حفل إطلاقه وإشهاره أو خبر مناقشته في ندوة ثقافيّة تكون فرحته عارمة، ويقام له عرس ثقافي داخل الأسوار وكذلك الحال مع عائلته التي تشعر، ولو للحظة، أنّه بينهم، فكلمته الحرّة هزمت سجّانه، وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار، وها هي تحتضنه بفخر واعتزاز.
أتابع في السنوات الأخيرة غالبيّة ما يكتبه أسرانا وما يُنشَر،
أعي تمامًا أنّ أسرانا لا يجلسون خلف طاولات مكتبيّة وحاسوب وغرف مكيّفة، (وبالمناسبة، شارك 36 أسير في كتابة طقوسهم وأصدرتـ في سبتمبر الفائت برفقة صديقي فراس حج محمد كتاب “الكتابة على ضوء شمعة” الذي تناول تلك الطقوس، كلّ منهم وطقوسه)،
أعي صعوبة الكتابة عبر القضبان،
أعي صعوبة إخراج ما يكتبون عبر أسوار السجن،
والأصعب من هذا وذاك أن يجد ناشرًا يتبنّى الإصدار،
والأنكى من ذلك حسرته بسبب عدم تمكّنه من مراجعة المسودّة والمخطوطة قبل النشر،
ومن على هذه المنصّة أناشد أهل القلم والناشرين الاهتمام بكتابات أحرارنا، مراجعةً وتنقيحًا وتحريرًا ونشرًا!
وبعد هذا والذي لا يجد من يهتم بإشهار كتابه، ومن هنا أهميّة لقاء اليوم الذي يعتبر عرس ثقافي لعبد الناصر وزملائه وهذا ليس مفهومًا ضمنًا (كنت شاهدًا على إلغاء حفلات إطلاق وإشهار عندما تبيّن للمسئول عن القاعة هوية صاحب الحفل).
باتت الكتابة عند أسرانا متنفّسًا يخترق جدران الزنازين، تجعلهم يحلمون ويتنفّسون حريّة، تعبر قضبان السجن وزنازينه، تشقّ طريقها عبر نفق من الحريّة لتحلّق في سماء الحريّة المنشودة.
في زيارتي الأخيرة لسجن الجلبوع تبادرت لمسامعي فكرة مبادرة يتبنّاها بعض الأسرى لمحاولة احتواء كافّة كتابات الأسرى ونتاجهم الأدبي وتبنّي إصداراتهم ففرحت لذلك وقلت بيني وبيني “قرّبت ساعة التقاعد” لأفكّر بالتنحّي جانبًا وبناء مشروع آخر ومبادرة أخرى وهمست في أُذن أحمد: “هنيئًا لهم”، وها أنا أبارك لهم من على هذه المنصّة وأتمنى لهم نجاح المبادرة وعدم خذلان من توجّهوا لهم وأسمعوهم الفكرة.
مبارك لك وشكرًا لك عبد الناصر على هذا المولود،
جئتك من أعالي الكرمل، لأبارك لنا ولك هذا المولود، وبين أهلك وفي بلدك الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ؛
حاملًا تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب،
وكذلك تحيّات الزملاء في التحالف الأوروبي لمناصرة أسرى فلسطين،
وأخيرًا؛
الاهتمام بأسرانا أقلّ الواجب تجاه تضحياتهم،
نعم؛ الحريّة خير علاج للأسير.
الحريّة للعزيز عبد الناصر ولكلّ أسرى الحريّة.
***مداخلتي في حفل إطلاق وإشهار كتاب “وفق المصادر 2022” في مركز يافا الثقافي – بلاطة يوم السبت 11.02.2023