العبودية الحديثة هي اليوم تحدٍ متزايد للمنظمات الحقوقية، ومن بين أخطر انتهاكات حقوق الإنسان المعاصر. فرغم أن العبودية قد ألغيت منذ عدة أجيال، وإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي يحظر الرق وتجارة الرقيق بكافة أشكالها، ما زال يعيش اليوم 50 مليون شخص في أشكال مختلفة من الإكراه والعبودية الحديثة ـ حسب تقرير نشرته منظمة العمل الدولية في نهاية عام 2022.
يُظهر إدراج العبودية الحديثة في التقارير الدولية، أن العمل على مكافحة العبودية الحديثة لم يعد يُنظر إليه على أنه ظاهرة معزولة ونتيجة للنشاط الإجرامي فحسب، بل يجب اعتباره قضية تنمية أيضاً. تساهم مكافحة العبودية الحديثة في ضمان عدم استبعاد الأشخاص الأكثر ضعفًا في العالم من التنمية
وصف المشكلة المعقدة للرق الحديث
لا يوجد اتفاق عالمي على تعريف العبودية الحديثة اليوم، ولكن في السنوات الأخيرة حدث تطور في هذا المجال. واليوم تُفهم “العبودية الحديثة” على أنها مصطلح شامل يشير إلى حالات مختلفة يتعرض فيها الناس لاستغلال جسيم، حيث يتم التحكم بهم من خلال إساءة استخدام السلطة والتهديد والعنف، ولا يتمتعون بحرية مغادرة وضعهم.
تتعدد أشكال العبودية المعاصرة، وتشمل العمل الجبري وأعمال السخرة والإكراه على العمل بالديون، والاتجار بالبشر عبر استخدام العنف، أو التهديد، أو الإكراه، لنقل أو تجنيد أو إيواء الأشخاص من أجل استغلالهم لأغراض مثل الدعارة القسرية، أو العمل، أو الإجرام، أو الزواج، أو نزع الأعضاء، وعمل الأطفال، والزواج القسري والمبكر، والاستغلال الجنسي. جميعها أشكال مختلفة من الاستغلال المدرجة في هذا المصطلح غير القانوني.
تشكل اتفاقية الرق لعام 1926، واتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 بشأن العمل الجبري لعام 1930، واتفاقية إلغاء الرق وتجارة الرقيق والمؤسسات والممارسات الشبيهة بالرق لعام 1956، واتفاقيات منظمة العمل الدولية بشأن العمل الجبري، وبروتوكولات الاتجار بالبشر، يشكلون أساس العمل ضد العبودية الحديثة. إن اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 بشأن العمل الجبري لعام 1930 هي واحدة من الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية، وقد تم التصديق عليها من قبل 178 دولة. واتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 182 بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال واتخاذ تدابير فورية لإلغائها عام 2000، إضافة إلى البروتوكول الملحق بهذه الاتفاقية والتي تم التوقيع عليه عام 2014. جميع هذه الاتفاقيات على صلة وثيقة بالوضع الحالي للعبودية.
مدى انتشار العبودية الحديثة
وفقًا للتقديرات العالمية للعبودية الحديثة لعام 2022 ، يعيش أكثر من 50 مليون شخص في حالة من العبودية الحديثة. ومن بين هؤلاء هناك 25 مليوناً في الأشغال الشاقة و15 مليوناً في الزواج القسري. وبسبب الطبيعة غير القانونية والخفية للرق، من الصعب تحديد مدى انتشار العبودية الفعلية، لكننا نعلم أن أشكال العبودية الحديثة موجودة في كل بلد في العالم، وضمن نطاق واسع من أنواع مختلفة من الصناعات وبعضها أكثر ضعفًا من البعض الآخر. لذلك تعتبر هذه التقديرات متحفظة، لأن الواقع الحقيقي أسوأ خاصة في الدول الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا الجنوبية.
واحد من كل أربعة ضحايا للعبودية الحديثة هو طفل. تتعرض النساء والفتيات للخطر بشكل غير متناسب ويشكلن أكثر من 70% من الضحايا، مع تعرضهن للخطر بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالعمل الجبري في صناعة الجنس التجاري. حوالي 18 مليون شخص هم ضحايا العمل الجبري في سلاسل التوريد التابعة للقطاع الخاص، بينما يوجد 6 ملايين شخص في العمل القسري الحكومي. ولا تزال العبودية الوراثية موجودة في بعض البلدان على الرغم من أنها غير قانونية، كما هو الحال في موريتانيا، ومالي، والسودان، والنيجر.
العبودية الحديثة هي واحدة من أكثر أشكال الجريمة ربحية من الناحية الاقتصادية، ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، يدر العمل الجبري ما يقدر بنحو 170 مليار دولار من الأرباح غير المشروعة سنويًا. من ناحية أخرى، تعتبر العبودية مكلفة للعديد من البلدان حيث إن عدداً كبيراً من الناس غير مدمجين في المجتمع والاقتصاد الوطني.
أين يوجد الرق الحديث
العبودية الحديثة موجودة في كل مكان في العالم، والفقر هو المحرك الرئيسي. ومع ذلك، لا يوجد مؤشرات مؤكدة تربط بين أفقر البلدان والبلدان التي ينتشر فيها الرق. وفقاً لمؤشر العبودية العالمي، فإن آسيا هي المنطقة ذات الانتشار المطلق الأكبر للعبودية الحديثة، بينما في القارة الأفريقية نجد أعلى نسبة العبيد بين السكان.
يشير تحليل أجراه مؤشر العبودية العالمي لعام 2021 على الدول العشر ذات الانتشار الأكبر للرق الحديث وهي “كوريا الشمالية، وإريتريا، وبوروندي، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وأفغانستان، وموريتانيا، وجنوب السودان، وباكستان، وكمبوديا، وإيران” إلى وجود صلة بين العبودية الحديثة ومحركين: الأنظمة القمعية والصراع. تُظهر البيانات الواردة في مؤشر العبودية العالمي أن العديد من البلدان ذات الانتشار الأكبر للرق الحديث هي أيضاً تلك التي سجلت أكثر من 90% في قياسات الضعف العالمية. وهذا يدل على وجود صلة واضحة بين العبودية الحديثة وغيرها من عوامل الضعف والمخاطر في بلد ما.
تشهد بعض البلدان الآسيوية حالياً طفرة اقتصادية قد تزيد من أخطار العمل الجبري في قطاعات معينة، لا سيما في صناعة البناء وتطوير البنية التحتية. لكن التغيرات الاقتصادية الأخرى يمكن أن تؤثر أيضاً على جغرافية العبودية. على سبيل المثال، أدت تدفقات الهجرة المتزايدة إلى جنوب أوروبا وتركيا ولبنان إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون في أوضاع تشبه العبودية في هذه البلدان. من المحتمل أيضاً أن يتأثر الانتشار الجغرافي للعبودية الحديثة بتغير المناخ، والذي سيؤثر بشكل خاص على مناطق في آسيا والمحيط الهادئ التي لديها بالفعل أعلى معدل انتشار للرق الحديث.
ما هي القطاعات التي يتواجد بها الرق الحديث
يحدث الرق الحديث في العديد من القطاعات المختلفة. القطاعات التي تنطوي على أخطار عالية من العبودية هي صناعة البناء، وصناعة الاستخراج، صناعة التعدين، وصناعة النسيج، والزراعة، عمل الغابات، صيد الأسماك، وصناعة التنظيف، وصناعة الفنادق والمطاعم، والعمال المنزليين.
تشير التقارير إلى أن العمل الجبري والاتجار بالبشر يمثلان مشكلة خطيرة في قطاع صيد الأسماك. تم الكشف عن أن العديد من الصيادين هم عمال مهاجرون معرضون بشدة للاستغلال على متن سفن الصيد. غالبًا ما ترتبط العبودية الحديثة في هذا القطاع بأشكال أخرى من الجريمة، مثل الصيد غير القانوني والجرائم البيئية. تم إيلاء الكثير من الاهتمام للعبودية الحديثة في قطاع صيد الأسماك في البلدان الآسيوية، في حين أن هناك نقصاً في المعرفة والجهود المبذولة ضد العبودية الحديثة في هذا القطاع في البلدان الأفريقية.
من الصعب بشكل خاص مكافحة العبودية الحديثة في قطاع صيد الأسماك لأن معظم الأعمال التجارية عالمية وعابرة للحدود. أدت العولمة إلى قيام العديد من مشغلي الصيد بتسجيل السفن في سجلات دولية مفتوحة أو فيما يسمى بأعلام دول الملاءمة لتجنب المسؤولية الجنائية. حيث من المعتاد التعامل مع مشغلي الصيد العابرين للحدود حيث قد يكون للسفينة علم، وقد يكون الملاك من دولة أخرى والطاقم من بلد ثالث ورابع، بينما يقع القارب المشتبه في أنه يعمل بالسخرة في دولة خامسة.
يحدث هذا العمل الجبري أيضاً في القطاعات التي يوجد فيها طلب مرتفع على العمالة اليدوية والرخيصة، كما هو الحال في القطاع الزراعي. يعمل أكثر من مليار شخص في الزراعة في أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. وهذا ينطبق على 60% من جميع العمال. يعتبر هذا القطاع ضعيف بسبب ـ من بين أمور أخرى ـ تغيرات الطقس، مما يعني أن الحاجة إلى العمالة لا يمكن التنبؤ بها. وهو أيضاً قطاع به العديد من التكاليف الثابتة المرتبطة بالأسمدة والنقل، حيث تمثل الأجور أحد التكاليف القليلة المرنة. هناك عدد من العوامل في سلاسل التوريد التي يمكن أن تخلق ضغط التكلفة أسفل السلسلة والتي تؤثر في النهاية على العمال الأكثر ضعفاً. اليوم يمثل الأطفال حوالي 70% من جميع العاملين في قطاع الزراعة.
العمل في الزراعة ، وهو أكثر انتشارًا في إفريقيا. حيث يعد الفقر في المناطق الزراعية، والهجرة، وانعدام فرص العمل البديلة، من دوافع العمل الجبري وعمالة الأطفال. يؤثر تغير المناخ والصراع في العديد من البلدان أيضاً على ظروف العمل في الزراعة.
يمكن استخدام السخرة في مراحل مختلفة من عملية الإنتاج. يمكن أن يحدث في إنتاج المواد الخام، أو في معالجة الأجزاء المستخرجة، أو في تصنيع المنتج نفسه وفي مرحلة التوزيع.
أظهر مسح أجراه الاتحاد الدولي لنقابات العمال (ITUC) أن 50 شركة كبيرة مختارة لديها 6% فقط من الموظفين المباشرين من إجمالي القوى العاملة لديها. هذا يعني أنهم يعتمدون على قوة عاملة خفية تبلغ 94%، أي ما يصل إلى 116 مليون شخص في سلاسل التوريد العالمية الخاصة بهم.
من المعروف على نطاق واسع أن خطر العمل الجبري مرتفع للغاية في القوى العاملة الخفية، وأن نسبة كبيرة من ضحايا العمل الجبري البالغ عددهم 27 مليوناً يتم توظيفهم بشكل غير مباشر في سلاسل التوريد للشركات متعددة الجنسيات. تنشر عدد من الدول الأوروبية، ووزارة العمل الأمريكية قائمة بالسلع المستوردة المصنوعة من العمالة القسرية وعمالة الأطفال. تحتوي القائمة على 139 عنصراً من 75 دولة. توجد أعلى نسبة من عمالة الأطفال والعمل القسري في القطن، والسكر، والبن، والأسماك، والمنسوجات، والأحذية، والطوب، واستخراج الذهب، والماس. السلع المكشوفة الأخرى هي الإلكترونيات (الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر) والأثاث، والمنتجات الجلدية.
مؤشرات العبودية الحديثة / مختلف أشكال الإكراه
هناك عدد من المؤشرات التي تشير إلى أن الشخص قد يكون في وضع قسري أو معرض لخطر أن يصبح كذلك. إذا حُرم العامل من جواز سفره، أو كان عليه دفع رسوم توظيف، أو مصاريف سفر، أو حصل على سلفة على الراتب تجعله بسببها مديوناً لوكيل أو صاحب عمل، أو يتم وضعه بظروف عمل مختلفة عما تستلزمه الوظيفة بالفعل، أو لا يتقاضى راتباً، أو يعمل أيام عمل طويلة للغاية، أو يتعرض للتهديد بالعنف أو يتعرض له، أو يتم استغلاله بسبب وضع ضعيف مرتبط بحالة الإقامة أو عدم فهم اللغة. كل هذه الظروف تشكل أخطار على الفرد، ومؤشر على وجود العبودية الحديثة.
الأشخاص الضعفاء
القاسم المشترك لجميع أشكال العبودية الحديثة هو الضعف. تتعلق العبودية الحديثة بعلاقات القوة بين الأفراد والجماعات الذين ليس لديهم سلطة. مثل العمال المهاجرين، واللاجئين، والطبقات الدنيا، والشابات، والنساء. هؤلاء هم الأكثر عرضة للانتهاك في أوضاع شبيهة بالرق الحديث.
إن المكانة المتدنية جزء لا يتجزأ من الأعراف الاجتماعية التي تضفي الشرعية على الاستغلال. ويبدو أن هناك علاقة واضحة بين التهميش وخطر العبودية الحديثة. يمكن أن يؤدي تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية إلى زيادة الضعف، وبالتالي زيادة خطر تعرض الأفراد لأوضاع قسرية.
المهاجرون هم من بين أكثر العمال ضعفا في العالم. قد يتعرضون لخطر أشكال مختلفة من الإكراه فيما يتعلق بالتجنيد، أو أثناء مرحلة العبور، أو أثناء العمل في بلد الوصول. المهاجرون غير الشرعيين الذين ليس لديهم تصاريح إقامة وعمل في بلد الوصول معرضون بشكل خاص للاستغلال أكثر من سواهم، وفي العديد من البلدان لديهم حماية قانونية منخفضة أو معدومة.
تشكل النساء / الفتيات 71% من المستعبدين. تتعرض النساء والفتيات بشكل رئيسي لأشكال مختلفة من العبودية بسبب الأعراف المجتمعية المتجذرة والأدوار الأبوية للجنسين ونقص الفرص.
زواج الأطفال هو الزواج الذي يكون فيه أحد الطرفين على الأقل دون سن 18 عاماً وقت الزواج. الزواج القسري هو زواج لا تتاح فيه الفرصة لأحد الطرفين أو لكلاهما للموافقة بحرية على إبرام الزواج. يمكن أن يحدث الزواج بالإكراه بغض النظر عن العمر. يعتبر زواج الأطفال زواجاً قسرياً لأن الأطفال لم تتح لهم الفرصة للتعبير عن موافقتهم بحرية. ينتشر زواج الأطفال جغرافياً وعددياً. تقدر الأمم المتحدة أن 12 مليون فتاة يتزوجن سنوياً زواجاً قسرياً. تشير التقديرات إلى أن 150 مليون فتاة إضافية ستتعرضن لزواج الأطفال بحلول عام 2030 ما لم يتم تسريع جهود مكافحة زواج الأطفال. توجد أعلى معدلات زواج الأطفال في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تتزوج فتاتان من كل خمس فتيات قبل بلوغهن سن 18.
أظهرت الدراسات الحديثة في بعض البلدان الآسيوية أن هناك خطراً متزايداً من الزواج القسري والاستعباد الجنسي في المجتمعات التي يوجد فيها اختلال مستمر في التوازن بين الجنسين وتزايد عدد الشباب الذكور، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على النساء والفتيات، ويؤدي إلى الزواج المبكر أو الاستغلال الجنسي التجاري.
لقد تم استخدام النساء بشكل متزايد كعبيد في النزاعات المسلحة لتوليد الدخل، وممارسة الهيمنة الأيديولوجية على المعارضين، وفي حالات الزواج القسري للحث على تجنيد المقاتلين.
يشكل الأطفال 25% ممن يعيشون حالياً في ظل العبودية الحديثة. عمالة الأطفال كمساعدة منزلية منتشرة في العديد من البلدان، ويمكن اعتبارها في العديد من الحالات عمالة قسرية وأحد أسوأ أشكال عمل الأطفال.
هؤلاء الأطفال هم من بين الأكثر ضعفا. نسبة كبيرة من الأطفال المعرضين لخطر أن ينتهي بهم الأمر في أشكال مختلفة من العبودية الحديثة لا يتم تسجيل مواليدهم.
تم الكشف عن أشكال جديدة من العبودية
على سبيل المثال، يمكن أن تكون “دور الأيتام” بوابة للعبودية لكل من الأيتام والأطفال الذين لديهم آباء. قد يتعرض الأطفال للاستغلال في هذه المؤسسات أو بيعهم من المؤسسات للاستغلال في حالات أخرى. أولئك الذين مروا بمثل هذه المؤسسات قد يكونون أكثر عرضة للعبودية في وقت لاحق من حياتهم.
إن ضحايا هذا النوع من العبودية يمكن أن يكونوا من أي عمر، أو جنس، أو جنسية، أو عرق. يجرى خداعهم، أو تهديدهم للعمل. وقد يشعرون بأنهم غير قادرين على ترك العمل، أو الإبلاغ عن الجريمة من خلال الخوف أو الترهيب. وقد لا يتعرفون على أنفسهم باعتبارهم ضحايا الرق الحديث.
تحيط العبودية الحديثة بنا في كل مكان، لكنها غالباً تكون بعيدة عن الأنظار، ويمكن أن يكون ضحاياها أولئك الذين يصنعون ملابسنا، أو يقدمون طعامنا، أو عمال النظافة، أو المربيات.
يمكن أن تبدو وظائف عادية من الخارج، لكن عمالها قد يكونوا خاضعين للسيطرة ويواجهون العنف أو التهديد، أو يُجبرون على تحمل ديون لا مفر منها أو يُسحب منهم جواز سفرهم ويتعرضون للتهديد بالترحيل.
حسن العاصي
باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك